قضى «بيتر بافيت» أغلب حياته في تأليف الموسيقى التصويرية للأفلام والإعلانات وبرامج التليفزيون، ولم يكن له أي اتصال بعالم الأعمال الخيرية التي تقوم بها الطبقة الأكثر ثراءً، حتى قرر والده الملياردير «وارين بافيت» في عام 2006 أن يرد الجميل إلى المجتمع.
بالإضافة إلى تقديمه العديد من التبرعات الضخمة، قرر الملياردير الأب أن يضيف إلى المؤسسات الخيرية الثلاثة التي يديرها واحدةً أخرى باسم كل ابن من أبنائه، تكون تحت إدارته، ممَّا سمح لبيتر بدخول عالم الأعمال الخيرية ومعرفة خباياه.
وفي مقاله المنشور في جريدة نيويورك تايمز، يهاجم بيتر بافيت الأعمال الخيرية المخصصة لخدمة المجتمع التي يقوم بها الأغنياء، ويكشف مدى ظلم النظام الاقتصادي الحالي ودوره في زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويوضح رؤيته عن العدو الحقيقي الذي يجب مواجهته.
تبرعات لا خير فيها
يذكر بافيت أنه مع بداية رحلته في العمل الخيري صار على دراية بما يسميه «الإمبريالية الخيرية»، فقد لاحظ أن المتبرعين يرغبون في حل المشاكل القائمة بشكل سريع. يظن هؤلاء أن بإمكانهم حل أي مشكلة محلية دون أن يكونوا على دراية بتفاصيل المشكلة أو المنطقة التي حدثت فيها، وهو ما كان بافيت يؤمن به كذلك.
مهما كانت طبيعة المشكلة، سواءً تعلقت بأساليب الزراعة أو التعليم، أو تدريبات التوظيف والتهيئة للعمل، أو تنمية الأعمال، دائمًا ما يسمع بيتر المتبرعين الكبار يتحدثون بشأن تطبيق الوسائل التي أثبتت نجاحها سابقًا في منطقة أخرى على المنطقة الجديدة، دون مراعاة الاختلافات الثقافية والجغرافية والاجتماعية.
لذلك، عادةً ما تنتهي هذه القرارات بطُرُق غير مرغوب فيها تمامًا، فمثلًا، تسبب توزيع الواقيات الذكرية في أماكن الدعارة للحد من انتشار الإيدز في رفع أسعار الجنس دون الواقي الذكري أمام الراغبين فيه، وهنالك ما هو أكثر فداحةً من هذا.
بفضل اسم والده، كان بافيت قادرًا على شغل مقاعد في اجتماعات لم يكن يتوقع أبدًا أن باستطاعته حضورها. وخلال الاجتماعات الخيرية المهمة، كان يشاهد لقاء كبار رجال الولايات بالمستثمرين ورؤساء الشركات الكبرى، من أجل بحث حلول لمشاكل تسبب فيها مَن يجلسون في الغرفة نفسها.
يذكر المقال عديدًا من الإحصائيات التي تدل على استمرار زيادة عدم المساواة بشكل مُتسارع، لكن في الوقت ذاته، وفقًا للمعهد المدني الأمريكي، ينمو قطاع الأعمال غير الربحية بصورة ثابتة ومستمرة، بل إن معدل نموه يفوق معدل نمو القطاعين الخاص والحكومي معًا.
إننا نتحدث عن تجارة ضخمة، تجارة شملت 316 مليار دولار من المِنَح في الولايات المتحدة فقط خلال عام 2012، وتوظف 9.4 مليون شخص.
أعمال خيرية لا تخدم سوى الأثرياء
في كل مرة يشعر أحد الأغنياء بالرضا عن نفسه لقيامه بعمل خيري، يزداد تضييق النظام الاجتماعي على شخص آخر.
يرى بيتر بافيت أنه كلما ازداد عدد الناس الذين تدمر الأنظمة الحاكمة حياتهم، صارت عبارات مثل «رَدِّ الجميل للمجتمع» أكثر بطولية، لأن ذلك يساعد الأثرياء على إراحة ضمائرهم من كونهم يكدسون أموالًا أكثر ممَّا قد يحتاجه أي شخص في حياته، لمجرد أنهم ينفقون الشحيح منها على الجمعيات الخيرية.
أصبح العمل الخيري «موضة» وفقًا لبافيت، وهذا لا يساعد في تعديل النظام الطبقي القائم على عدم المساواة، بل يساعد الأغنياء على أن يناموا راضين عن أنفسهم، بينما لا يمتلك كثير من الناس إلا ما يسد الرمق.
في كل مرة يشعر أحد هؤلاء الأغنياء بالرضا عن نفسه لقيامه بعمل خيري، يزداد تضييق النظام الاجتماعي على شخص آخر، وهذا النظام لن يسمح لهذا الشخص بأي فرصة في حياة أفضل، أو أن يعيش حياة سعيدة يحقق فيها أهدافه.
صار الناس الآن يتساءلون عن عوائد الاستثمار في التخفيف من معاناة البشر كما لو أن الاقتصاد هو المقياس الوحيد للنجاح، ويكثر الحديث عن قروض التمويل الصغيرة والقضاء على الأمية الاقتصادية في المجتمعات الفقيرة، وهو ما لن يؤدي سوى إلى دمج المحتاجين في أنظمتنا الاقتصادية القائمة على الديون والفوائد، وإدخالهم إلى عالمنا الاستهلاكي راغبين في مزيد من السلع والخدمات.
ألا يُسهم هذا في تغذية ذلك الوحش الاقتصادي الكبير أكثر؟
لا تنتظروا «خيرًا» من رجال الأعمال
يؤكد بيتر بافيت أنه لا يدعو إلى نهاية الرأسمالية بقدر ما يدعو للإنسانية.
يسمع الرجل بعض الأغنياء يقولون: «آه لو يمكن أن يملك هؤلاء المحتاجين ما نملك»، يقصدون ماءً صالحًا للاستخدام، ورعاية صحية، وأسواقًا حرة، وتعليمًا أفضل، وحياة أكثر أمانًا. بالطبع كل هذه الأشياء ضرورية، لكن تدخلات المنظمات «الخيرية» لا تحل أيًّا من هذه المشاكل، بل تؤجل المشكلة الرئيسية فقط.
نحن بحاجة إلى نظام تشغيل جديد وليس مجرد إصدار أحدث من النظام الحالي.
ما نعاني منه هو فقر في الخيال، وألبرت آينشتاين قال إنه لا يمكن حل أي مشكلة بنفس طريقة التفكير التي خلقتها، لذلك من الأفضل أن تصبح أموال هذه المؤسسات الخيرية رؤوس أموال للمُخاطرة، وتذهب إلى من يسعون لخلق مفاهيم جديدة تقضي على الأنظمة والهياكل الحالية، التي حولت العالم إلى سوق واحدة كبيرة.
ليس التقدم أن تجد شبكة إنترنت لاسلكي (Wi-Fi) في كل ركن من العالم، بل عندما لا تجد فتيات في الثالثة عشرة يُباعون لأجل الجنس.
نحن بحاجة إلى نظام تشغيل جديد، ليس مجرد إصدار أحدث من النظام الحالي، بل نظام جديد يُبنى من الصفر، فطالما وُجد هؤلاء الذين يريدون أن يربِّتوا على ظهور أنفسهم لقيامهم بأعمال خيرية، ستظل لدينا ماكينات لصناعة الفقر. إنها قصة في غاية القِدم، لكننا نحتاج إلى إنهائها وبدء واحدة جديدة.