انتشرت في العصر الحالي لغة حقوق الإنسان، وباتت لغة مستخدَمة للتفاهم بين شعوب تختلف لغاتها للتعبير عن مطالب العدالة الأساسية. وبينما تطورت تلك اللغة لتصبح نَسَقًا منسجمًا يحوز توافقًا كبيرًا في الغرب، تنظر إليها كثير من الدول العربية، وسُلطاتها خصوصًا، باعتبارها غريبة ثقافيًّا في أفضل الأحوال، أو تعبيرًا عن مصالح استعمارية في أحيان أخرى.
لكن «حقوق الإنسان» تكتسب مع ذلك مزيدًا من الشرعية في الخطاب العربي، رغم الخلاف الكبير حول ما يدخل فيها وآليات حمايتها. ويمكن الاتفاق بسهولة على المطالب الحقوقية القديمة، مثل تجريم التعذيب والعبودية، لكن الحقوق الأحدث نسبيًّا تثير جدلًا أكبر، مثلما نرى في حق الاتصال بالإنترنت أو زواج المثليين.
لا يبدو حسم هذا النوع من الجدل ممكنًا دون فهم مبدئي لطبيعة حقوق الإنسان، فما هي هذه الحقوق أصلًا؟ ومن أين جاءت؟ وكيف نجحت في تحقيق الاتفاق بين عدد كبير من البشر رغم اختلاف عقائدهم وأفكارهم؟
كانت كل هذه التساؤلات موضوعًا لبحث أستاذ الفلسفة والسياسة والقانون، «جون تاسيولاس»، في مقاله المنشور على موقع «Aeon».
تاريخ حقوق الإنسان
يبدأ تاسيولاس بسرد تاريخ النقاش بشأن حقوق الإنسان، فمنذ القرن الثاني عشر، ناقش عديد من الفلاسفة طبيعة هذه الحقوق تحت اسم «الحقوق الطبيعية»، وهذه الحقوق الطبيعية من المفترض أن يحصل عليها جميع البشر، ونكتشفها بمساعدة قدراتنا العقلية العادية، على عكس الحقوق التي اكتُشِفت بطريق الوحي الإلهي، أو أقرَّها القانون لتصبح واقعًا بعد أن لم تكن موجودة.
حيثما وُجد الفلاسفة وُجد اختلاف الرأي، وفي سعيهم إلى تسويغ حقوق الإنسان على أُسُس عقلية، يتساءل هؤلاء: هل هذه الحقوق مثلًا تحمي احتياجات الإنسان عمومًا، أم أنها فقط لحماية حرية الاختيار؟ وهل يجب أن تضمن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، مثل حق الرعاية الصحية والعمل، بالإضافة إلى الحقوق المدنية والسياسية، مثل حق الحصول على محاكمة عادلة والحق في المشاركة السياسية؟
رغم الاعتقاد بأن حقوق الإنسان يجب أن تكون مُلزمة للجميع، فإن بعض الدول لا تُصدِّق على معاهداتها، أو تصدق عليها مع تحفظات.
في الوقت الحالي، ينادي كثيرون بضرورة وضع تلك المجادلات الفلسفية جانبًا، ويدَّعون أن حقوق الإنسان لا يمكن العثور عليها في التأملات الفلسفية المجردة، وإنما في النصوص الدقيقة للقانون، فحقوق الإنسان هي ببساطة الحقوق التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، بالإضافة إلى القوانين العالمية والمحلية المختلفة التي تعمل على تنفيذها.
بحسب تاسيولاس، يستشهد بعض مؤيدي هذه الفكرة بنظرية الفيلسوف البريطاني «جيرمي بنتام»، الذي استهزأ بالفكرة القائلة إن هناك «حقوقًا طبيعية» منفصلة عن القوانين التي أنشأها الإنسان.
قد يهمك أيضًا: هل الجنسية حق المواطن أم الدولة؟
التصور القانوني لحقوق الإنسان
تكتسب الرؤية القانونية لحقوق الإنسان زخمًا متزايدًا، بحسب تاسيولاس، بسبب ظهور قوانين تفصيلية لحقوق الإنسان على مستويات عالمية وإقليمية ومحلية، ومنذ منتصف القرن العشرين وهذه القوانين فعالة بدرجات مختلفة، لكنها تخدم جميعها الفكرة القائلة إن حقوق الإنسان تتأسس في القانون.
تستغل شركات مثل «نايكي» أطفالًا في الثانية عشرة من عمرهم في العمل.
هذه النظرية غير مُرضية تمامًا بالنسبة للباحث، فالقانون لا يُلزِم جميع الناس، رغم اعتقادنا أن حقوق الإنسان يجب أن تكون مُلزمة للجميع. وعلى سبيل المثال، لا تُصدِّق بعض الدول على معاهدات حقوق الإنسان الدولية، أو تصدِّق عليها مع تحفظات تؤدي إلى إضعافها، ويضرب تاسيولاس مثلًا بالمملكة العربية السعودية.
يمكن لدولة مثل السعودية أن تحصل على مقعد في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومع ذلك تتمسك بأنواع متشددة من التمييز على أساس النوع الاجتماعي، كأن تمنع النساء من قيادة السيارات، وهذا لأنها أخضعت معاهدات حقوق الإنسان لنسختها من «الشريعة الإسلامية»، ممَّا يؤدي إلى إبطال حقوق الإنسان إذا تعارضت مع هذه الأخيرة.
علاوةً على ذلك، يُلزم القانون الدولي لحقوق الإنسان جميع الدول، لكنه غير ملزم لكيانات أخرى، مثل الشركات التي تتجاوز إيراداتها أحيانًا إجمالي الناتج المحلي لدول كاملة، ويعتقد كثير من الناس أنها تتحمل مسؤوليات بالغة الأهمية تجاه حقوق الإنسان.
لا يدين الناس في رأي تاسيولاس ارتكاب الشركات للأعمال المحظورة تجاريًّا فقط، بل كذلك انتهاكهم لحقوق الإنسان، فعندما تستغل شركات مثل «نايكي» أطفالًا في الثانية عشرة من عمرهم للعمل في خياطة الكُرات في باكستان، أو عندما تُسلِّم «ياهوو» رسائل المنشقين إلى الحكومة الصينية، تُواجَه هذه الأفعال بالإدانة، وينطبق هذا الأمر حتى لو كانت الشركة ممتثلة تمامًا لقوانين الدولة التي تعمل بها.
اقرأ أيضًا: 7 أسئلة تشرح نظام «العبودية الحديثة» في دول الخليج
التصور الثقافي لحقوق الإنسان
حقوق الإنسان حقيقة ثابتة في جذور الثقافة الغربية، لكن المهم أن نعمل على زيادة الالتزام بها في جميع أنحاء العالم.
توجد مشكلة أعمق في ربط حقوق الإنسان بالقانون، حسب تاسيولاس، فالقوانين من صنع بشر خطَّائين، يمكن أن يكونوا أخيارًا أو أشرارًا، وهم معرضون دائمًا للنقد من مُنطلقات أخلاقية مستقلة، وبناءً على ذلك، ليست المسألة أن «القانون الدولي لحقوق الإنسان» يخترع حقوق الإنسان من العدم، وإنما يسعى إلى بلورة وتطبيق حقوق نملكها في الأصل بفضل إنسانيتنا.
لم تصبح العبودية والتعذيب والتمييز العنصري انتهاكات لحقوق الإنسان فجأةً عندما جرَّمها القانون، لكن الأمر كان عكسيًّا، إذ أننا أنشأنا قوانين حقوق الإنسان كي نحمي حقوق الإنسان، التي كانت موجودة بصورة أو أخرى قبل الاعتراف القانوني بها.
يشير تاسيولاس مع ذلك إلى غياب الإجماع بين الفلاسفة وغيرهم على كيفية الدفاع عن حقوق الإنسان باعتبارها حقائق موضوعية مستقلة عن القانون.
على سبيل المثال، رفض الفيلسوف الأمريكي «ريتشارد رورتي» محاولات تبرير حقوق الإنسان عقليًّا، إذ كان هذا في رأيه نشاطًا غير مُجدٍ، لأن حقوق الإنسان حاليًّا حقيقة ثابتة ببساطة في جذور الثقافة الغربية وليس فقط في القانون، فلماذا ننشغل بتبريرها؟ كان الأهم في رأيه أن نعمل على زيادة الالتزام بها في جميع أنحاء العالم، ونهمل تسويغها العقلي وتأسيسها الفلسفي.
يتبنى أستاذ حقوق الإنسان المعاصر «جون روجي» وجهة نظر مشابهة، فيرى أن المبادئ التي يدعو إليها، أي مبادئ حقوق الإنسان، ليست تعبيرًا عن متطلبات أخلاقية «موضوعية»، وإنما «معايير وتطلعات اجتماعية» تجريبية قابلة للقياس.
من جهة أخرى، يوضح الفيلسوف السياسي الأمريكي «جون رولز» في كتابه «قانون الجماعات البشرية» أننا لا نستطيع بناء التزام عام بحقوق الإنسان في عالمنا التعددي استنادًا إلى أي اعتبارات عن «حقيقة» الخير أو الإنسانية، لأن هذه أفكار خلافية بالفعل، ويجب عوضًا عن ذلك الرجوع إلى الأفكار المغروسة في الثقافة الديمقراطية الليبرالية، أي الثقافة الغربية.
لكن هذه الأفكار تؤدي إلى اعتبار حقوق الإنسان مِلكية خاصة غربية، إذ أنها لا تجد أساسًا خارج الثقافة «الديمقراطية الليبرالية»، التي يُقصد بها عادةً الثقافتين الأوروبية والأمريكية، ولا يجد تاسيولاس هذا مقنعًا، لأن «التطلعات الاجتماعية والافتراضات الثقافية»، علاوةً على تباينها بين مجتمع وآخر، هشة وتخضع للتحول بسهولة، نتيجة العولمة أو البروباغندا أو أي حوادث اجتماعية أو ثقافية أخرى.
مؤخرًا مثلًا، لاقت المعتقدات التي كانت ثابتة ظاهريًّا، مثل حقوق اللاجئين وعدم مشروعية التعذيب، حركة رجعية في بعض الأوساط، فهل يعني هذا أن تختفي حقوق الإنسان ذات الصلة ببساطة؟
حقوق الإنسان أساسية وعالمية
يرى تاسيولاس أن حقوق الإنسان، على عكس التصورين القانوني والثقافي، راسخة في الاهتمامات العالمية لجميع البشر، إذ يملك كل إنسان موقفًا أخلاقيًّا متماثلًا ينبع من إنسانيتهم المشتركة.
بمعنًى آخر، عند الدفاع عن حقوق الإنسان، يجب السعي إلى التوافق بشأن القيم الإنسانية الموروثة، والاهتمامات المشتركة بين جميع البشر، مثل الصداقة والعلم والإنجاز واللعب وغير ذلك، وبالطبع يدرك تاسيولاس أن هذه الرؤية قد تكون خلافية، إذ سيطعن بعض الناس في قدرة «القيم الإنسانية الموروثة» على تحقيق أي توافق.
لا نستطيع تعزيز التزامنا بحقوق الإنسان بالاعتماد على قوانين وافتراضات الثقافة الديمقراطية الليبرالية فحسب، في حين يمكن لتسويغ فلسفي عميق أن يوضح لماذا نحن محقون في تجسيد هذه الحقوق قانونيًّا، وأسباب إعجابنا بالثقافة «الديموقراطية الليبرالية» في المقام الأول.
هذا تحديدًا هو غرض الدفاعات الفلسفية عن حقوق الإنسان منذ القرن الثاني عشر حتى الآن، بحسب الباحث، ولا يجب النظر إلى هذه المسألة كما لو كانت من اختصاص أمثال تاسيولاس من أساتذة الفلسفة فحسب، إذ أن مسألة حقوق الإنسان قضية اجتماعية وأخلاقية عامة، ينشغل بها جميع الناس.