جذور الهولوكوست: كيف أوقد العلماء والفلاسفة المحرقة؟

 الصورة: Miramax

محمد أسامة
نشر في 2019/04/09

يحفل التاريخ البشري بالجرائم والفظائع، حتى إن قائمة المظالم، التي تكاد تماثل التاريخ البشري طولًا، لم تتوقف دقيقة عن النمو. إلا أن لجرائم النازية مكانة استثنائية، خصوصًا لوقوعها في فترة زعم فيها الإنسان الأوروبي تحرره من قيود حملها ذنب أكثر الحروب والصراعات السابقة، مدعيًا الاسترشاد بالعلم والعقل الحر وحدهما، ليتضح سريعًا أنهما أيضًا ليسا في مأمن من مكر النفس البشرية.

على مدار 12 عامًا، منذ 1933 حتى 1945 تحديدًا، خضعت ألمانيا لحكم الحزب النازي (الحزب القومي الاشتراكي العمالي) تحت زعامة أدولف هتلر. لقي الملايين مصرعهم على يد هذا النظام وحلفائه، وتلوثت أيدي عشرات الملايين من العوام بالدماء عندما انصاعوا خلف إعلام مجرم يبث الأكاذيب والشائعات والكراهية في أبشع صورها. إلا أن نصيب المفكرين والعلماء من الجرم كان أضعاف نصيب العوام، على الأقل لدورهم في إنتاج وتبرير منظومة الكراهية النازية.

لكن كيف لمثل هذه الكارثة الإنسانية، التي لا يتردد اليوم عاقل سوي النفس في إدانتها، أن تقع في ألمانيا وهي الرائدة في حضارة حديثة زعمت بلوغ الرشادة؟ في الواقع، ارتكزت النازية إلى خليط معقد من الانتماء القومي والتعصب العرقي والموروث الثقافي والنظريات العلمية، وغيرها من الأطر المتداخلة الممتدة تاريخيًّا حتى القرن السادس عشر وجغرافيًّا حتى أمريكا، بصورة يصعب تخيلها في وقت أو مكان آخر.

الموقد الألماني والحطب الأمريكي

أطفال مصابون بمتلازمة داون في مصحة ألمانية عام 1934 - الصورة: Franz Bauer

إذا تغاضينا عن الإشارات المبكرة التي بدأت مع حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، يمكن القول إن الاحتلال الفرنسي لألمانيا في مطلع القرن التاسع عشر كان بمثابة الشرارة التي أشعلت الروح القومية الألمانية في العصر الحديث.

لم تكن كتابات «يوهان غوتفريد فون هردر» (1744-1803) الأديب والفيلسوف واللاهوتي الألماني قد فقد حيويتها بعد آنذاك، إذ نص على أن للشعوب الجرمانية صلات عرقية وثيقة بالهنود والفرس القدامى المتصفين بالحكمة والنباهة والنبل.

ساعتها تصدر للخطابة في المناسبات الجماهيرية «يوهان غوتلب فيخته» (1762-1814) فيلسوف المثالية الألمانية المهم، ونشر كتابه «خطابات إلى الأمة الألمانية»، الذي استفز الحمية والأنفة الألمانية لتحرير الوطن من قبضة المحتل الفرنسي. نص فيخته كذلك على ضرورة تطهير النسيج الألماني من كل دخيل، حتى نادى باستئصال المفردات الفرنسية التي تسللت إلى اللغة الألمانية.

أما التمييز العرقي الصريح فكان من رواده الأوائل الكونت «جوزيف أرثر دو غوبينو» (1816-1882)، الروائي والدبلوماسي والمنظر، الذي أعلن رفضه النظرة السائدة القائلة بمسؤولية الجغرافيا والأوضاع السياسية والثقافية عن التفاوت بين الشعوب، وقال بدلًا منها بفروق عرقية أصلية يتوارثها البشر، وتَفسد الأعراق المتفوقة منها تدريجيًّا عند اختلاطها بالأعراق الأدنى مكانة، مع تأكيد تفوق الإنسان الأبيض على من سواه، ومِن بين البيض جعل الآري (الألماني) هو الأكمل.

في عام 1876، التقى غوبينو بالمؤلف الموسيقي والمسرحي الألماني القدير «ريتشارد فاغنر» (1813-1883) وزوجته في روما، وزار منزلهما في بايرويت الألمانية، وتأثر فاغنر بأفكاره، وبعدها استخدم قلمه وجريدته لترويج النظرية في الأوساط الثقافية الألمانية. ومن البيت نفسه خرج «هيوستن ستيوارت تشامبرلين» (1855-1927)، الفيلسوف السياسي الألماني الإنجليزي وصهر فاغنر، في مؤلفه الضخم «أسس القرن التاسع عشر» المنشور عام 1911، ليُرجع الفضل في الحضارة الأوروبية إلى العنصر الآري، ويهاجم التأثير السلبي لليهودية في القارة.

انصهر كثير من تلك التصورات العنصرية في الروح القومية، التي عصفت بألمانيا قبل بزوغ النازية.

كذلك، شهدت نهاية القرن التاسع عشر انتشار الداروينية الاجتماعية في الغرب، وهي رؤية تتبنى نظرية الانتقاء الطبيعي على مستوى المجتمعات البشرية، كان من أعلامها «إرنست هيكل» (1834-1919)، عالم الأحياء والطبيب والفيلسوف والأب الروحي للداروينية في ألمانيا.

لكن هيكل يخلط النظرية بعناصر ميتافيزيقية لصياغة مذهب الأحادية (Monism)، رؤية فلسفية مادية أحادية للوجود، تجيب عن أسئلة الحياة سواء الاقتصادية أو السياسية أو الأخلاقية وفق فهمها للأحياء التطبيقية، مع روح عنصرية وقومية إمبريالية متطرفة ومعادية للسامية، كان من صورها إعلان أحقية المجتمعات والأعراق المتفوقة بالوصاية على غيرها من المجتمعات المتخلفة. وضمت الحركة أعلامًا بارزة مثل «فيلهلم أوستفالد» (1853-1932) الألماني صاحب جائزة نوبل في الكيمياء عام 1909.

يتضح بعض فجاجة ووحشية تلك الروح في كتاب «كفاءة عرقنا وحماية الضعفاء» الذي نشر عام 1895، للألماني «ألفريد بلوتز» (1860-1940)، تلميذ هيكل الأحادي والطبيب وعالم الأحياء.

في الكتاب، يشيد بلوتز بالمجتمع الذي يُباد فيه الأطفال المعاقون والمرضى، ويطالب بوقف الخدمات الطبية للضعفاء.

انصهرت كثير من تلك التصورات العنصرية في الروح القومية الألمانية (Völkisch Movement)، التي عصفت بألمانيا قبل بزوغ النازية، بجذور تمتد إلى كتابات فيخته وتأثر واضح بالحركة القومية الرومانسية، التي سادت الغرب وبثت في أقطاره الشعور بالتميز والاعتزاز القومي والاستقلال السياسي.

جدير بالذكر أن بلوتز هو من صك مصطلح النظافة العرقية (Racial Hygiene)، الذي أُطلق في ألمانيا على حركة تحسين النسل (Eugenics) النشطة آنذاك، والهادفة بشكل عام إلى قصر الإنجاب على العدد الذي يمكن توفير الرعاية الملائمة له، مع حصر تلك الأفراد في أفضل السلالات الممكنة، حسب تعبير «فرانسيس غالتون» (1822-1911)، عالم النفس والإحصاء والاجتماع الإنجليزي، أول من استخدم مصطلح تحسين النسل.

أما السبق النسبي والتفوق في التطبيق العنصري الوحشي لحركة تحسين النسل فكان من نصيب الولايات المتحدة الأمريكية، نتيجةً للتبني الأكاديمي والمجتمعي النشط لأفكار غالتون، خصوصًا في ظل الخوف من تأثير موجات الهجرة على التركيبة السكانية، كما يظهر من اهتمامات مكتب سجلات تحسين النسل على سبيل المثال، وحركة تحسين النسل الأمريكية بشكل عام.

في ذلك السياق، يمكن تشبيه ولاية كاليفورنيا الأمريكية بمعسكر أوشفيتز النازي في بولندا، إن لم تكن أشد وحشية، إذ أُجبر فيها على التعقيم عدد من المواطنين يفوق أمثالة في سائر الولايات الأمريكية مجتمعة، وصلت نسبتهم في وقت مبكر من العام 1921 تحديدا إلى 80% من حالات التعقيم على مستوى أمريكا. وقد قُدر عدد الضحايا في الولايات المتحدة حتى عام 1930 بنحو 15 ألفًا، أكثرهم في كاليفورنيا. وقُدر عدد عمليات التعقيم القسري ما بين 1909 و1963 بأكثر من 20 ألفا من «غير اللائقين» من مرضى الفصام والصرع والذهان والاكتئاب الهوسي وغيرهم، نساءً ورجالًا.

وخضع السجناء لعمليات مُنحوا فيها، بدلًا من خصاهم، خُصى أفراد لائقين وحيوانات أحيانًا، تحت إشراف «ليو ستانلي» (1886-1976) طبيب سجن «سان كوينتن» الأمريكي، من أجل «الصالح العام».

مِن مراكز كاليفورنيا، التي أُسس بعضها عن طريق «جمعيات خيرية»، أُرسلت الأوراق البحثية والدعم المالي إلى مثيلاتها الألمانية، التي ظلت ظِلًّا لها حتى صعود النازية، ليقدر عدد ضحايا التعقيم القسري من 1934 إلى 1945 بنحو 400 ألف شخص من اليهود وغيرهم.

وقد دأب التنظير لتلك الجرائم والإعلاء من مكانة العرق الآري على سائر الأعراق عامة، ودُعي إلى التطهر من الأجناس والأشخاص غير اللائقة بهدف بلوغ «الإنسان الأعلى» (Übermensch) النيتشوي وفق المخيلة النازية.

تحت تلك الراية أُعمِلَ السكين النازي في رقاب غير اللائقين والأعراق الأدنى، بما فيهم سود البشرة وذوي الإعاقات والسجناء والمرضى النفسيين واليهود من المواطنين الألمان وغير الألمان.

إذًا، لم يكن اليهود وحدهم الضحايا، لكن يظل الوضع الاستثنائي لليهود حقيقة أسهم فيها تراكم تاريخي وسياسي وثقافي جعلهم العدو القومي الأمثل للإعلام النازي، ونصوص الكراهية لدى أعلام الفلسفة الألمانية المثيرة للدهشة.

كراهية اليهود في ألمانيا الحديثة

خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وشطر من التاسع عشر، جهر الفلاسفة الألمان البارزين بكراهيتهم لليهود. منهم «إيمانويل كانط» (1724-1804)، صاحب التأثير الأكبر في الفلسفة الحديثة وأحد أعظم العقول في التاريخ.

كان للدين دور محوري في فلسفة كانط، التي حاول بها صياغة تصور يسمح بالتعايش بين العلم والفلسفة والدين. لكن الدين عنده كان المسيحية بصورة شبه حصرية، إذ لم تعد اليهودية دينًا، بل مجتمع من أبناء قبيلة واحدة، آمن بفشلها في اكتساب طابع أخلاقي مثل فشلها في اكتساب طابع ديني، نتيجة الافتقار إلى العقلانية التي جعلها أساس الأخلاق، ما جعل اليهودي جبانًا وغشاشًا، سواء في التجارة أو الحياة اليومية.

أما فيخته، الثوري المدافع عن الأمة الألمانية النقية، فعارض منح اليهود حقوقًا مدنية إلا إذا «قُطعت رؤوسهم جميعًا، وأُبدلت رؤوسًا أخرى خالية من أي فكرة يهودية».

ثم أتى «جورج فيلهلم هيغل» (1770-1831)، الفيلسوف المثالي الألماني الكبير، الذي هاجم الإله اليهودي القومي بسبب طبيعته الغيورة. و«أرثر شوبنهاور» (1788-1860)، الفيلسوف المثالي التشاؤمي، الذي رأى اليهودي الهائم تجسيدًا نموذجيًّا للشعب اليهودي، الجاهل بمعنى الوطن والذي يحيا متطفلًا على الأمم الأخرى. ومثله فاغنر، الموسيقي والمسرحي الذي انتقد الطبيعة الطفيلية أيضًا، وهاجم إفساد «اليهود الملعونين» الأمة الألمانية على جميع المستويات، حتى الفنية، بموسيقاهم «الزائفة الخالية من أي معنى».

ساد الاعتقاد بضرورة التضحية باليهود إنقاذًا للشخصية الألمانية من التهود والعالم من الفساد.

لتفسير ذلك خارج المنظور المبسط للعداء الديني أو العرقي أو الاقتصادي التقليدي، قدم البريطاني «بول لورانس روز» (1944-2014)، أستاذ التاريخ الأوروبي والدراسات اليهودية الراحل، قراءة أكثر تعقيدًا للموضوع في كتابه «المسألة الألمانية/المسألة اليهودية».

ذكر روز أن الكراهية القديمة لليهود أخذت تفقد قواعدها الطائفية تدريجيًّا خلال نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، لتكتسب دوافعًا قومية وعلمانية أخرى في ما أسماه «معاداة السامية الثوية»، حتى إن بعض أبناء الشعب اليهودي من ذوي الثقافة الألمانية الثورية تبنوها، مثل «كارل ماركس» (1818-1883) الفيلسوف والمنظر الشهير، و«لودفيج بورنه» (1786-1837) الكاتب السياسي.

يتحدث روز عن روح تقدمية ثورية مميزة وسمت القومية الألمانية، تمثل صورة اليهودي بعناصرها الحقيقية والمفتراة عقبة أمامها في المخيلة الألمانية. فمما تكاد الشخصيات الألمانية التي تناولها العمل تجمع عليه: بُغض الكبرياء اليهودي كما في لقب «الشعب المختار» مثلًا، والاعتقاد بضرورة التضحية بهم إنقاذًا للشخصية الألمانية من التهود والعالم من الفساد، وكذا مسؤوليتهم عن إعاقة التقدم وتعطيل اندلاع الثورة المرتقبة، وطبيعتهم الطفيلية الضارة من منظور اقتصادي-اجتماعي.

وفي حين آمن فريق بقابلية اليهود للتطهر التدريجي من خصالهم القبيحة والانصهار كليةً في المجتمع الألماني، نادى فريق آخر بإبادتهم كحل ثوري نهائي، وهو ما اختارته النازية.

نشر «مايكل ماك»، الأستاذ المشارك بقسم دراسات اللغة الإنجليزية في جامعة دورهام، كتاب «المثالية الألمانية واليهود» عام 2003، ليعلن فيه اتفاقه مع روز في كثير مما خلص إليه في كتاب «المسألة الألمانية/المسألة اليهودية». لكن ماك يعيد فحص الأدبيات لهدف أشد وقعًا، إذ يحاول الكشف عن جذور كراهية اليهود في صميم التقليد الفلسفي المثالي الألماني.

ينبه ماك إلى أثر تكريس صورة اليهودي كآخَر مفتقِر إلى العقلانية، جشِع أناني منساق إلى ملذات العالم المادي، نموذج أبدي للشخصية ذات التبعية (Heteronomous)، يحيا بمنأى عن طبيعته الإنسانية، لأن الواجب الأخلاقي يحتم على الفرد امتلاك شخصية مستقلة (Autonomous)، متحررة من الميل إلى عناصر العالم المادي.

بمرور الزمن، وبتطور المثالية الألمانية وانتشارها، ستتسرب تلك الروح إلى الفكر السياسي أيضًا. ليأتي الإخفاق السياسي متجسدًا في خسارة ألمانيا الحرب العالمية الأولى، ويضيف إلى خطر اليهودية على النقاء المعرفي سببًا آخر للكراهية: خطرهم السياسي، لرفضهم الاندماج في مجتمع عالمي عقلاني وتمسكهم بعبادة الإله يهوه طمعًا في مملكة الرب والمغنم الدنيوي.

هكذا، عقب الهزيمة العسكرية وقيام الجمهورية الألمانية المستقلة عن بروسيا عام 1919، كان الرأي العام، خصوصًا الطبقة الوسطى وفقًا لتحليل إريك فروم، متعطشًا لنظام وقيادة جديدة تعيد للأمة أمجادها، فوجد في النازية وزعيمها ضالته، مثلما كان متعطشا لكبش فداء عن الهزيمة المريرة، فلم يجد أنسب من اليهود الخونة الذين «طعنوا الأمة الألمانية من الخلف»، بخاصة وقد أثار تغولهم في الاقتصاد الألماني وثراؤهم على قلة عددهم غيظ عموم الألمان. لتجتمع القومية والفلسفة والعلم في لحظة تاريخية فريدة على كراهية كل آخَر، في تعصب عرقي أسفر عن إحدى أفظع المذابح في العصر الحديثة.

مواضيع مشابهة