في ستينيات القرن العشرين، اشترى والت ديزني نحو 123 كيلومتر مربع في المنطقة المعروفة بـ«ريدي كريك» التابعة لولاية فلوريدا، وحينها، كان المكان مساحة برية مقفرة، أما اليوم فقد تحولت المنطقة إلى منتجع يجتذب الزوار من جميع أنحاء العالم، ويوفر لهم تجربة قلَّ نظيرها.
عالم والت ديزني، كما صار يُطلَق عليه لاحقًا، يغطي حاليًّا مساحة 110 كيلومتر مربع تقريبًا، ويضم ملاهي وفنادق فخمة وأماكن تسوق ومعالم جذب سياحية وشبكة مواصلات متقدمة، ويوظف نحو 60 ألف شخص.
تمكنت الشركة من تحقيق كل هذا بسبب كبر حجمها وأرباحها، الأمر الذي حول المنطقة التي كانت خالية في السابق إلى مدينة سياحية تقدم نفس الخدمات التي نجدها في المدن الكبرى، وتتفوق عليها في بعض الأحيان.
يبدو هذا النموذج الاقتصادي الذي يمنح الشركات الخاصة إمكانية شراء أراضي شاسعة والاستثمار فيها مغريًا بالنسبة لكثير من الحكومات، خصوصًا في ظل تأخر السياسات التطويرية وفشلها في مواكبة المطالب الاقتصادية المتصاعدة للسكان في كثير من البلدان.
يعرض مقال منشور على موقع «TED» مثالًا لمدينة هندية تبنَّت نموذجًا مماثلًا، هي مدينة غورغاون، التي شهدت نموًّا اقتصاديًّا متزايدًا بعد تدخل الشركات الكبرى لإدارتها بالكامل تقريبًا، ويُطلعنا المقال على التناقضات الغريبة التي أنتجها هذا النموذج من «خصخصة» المدينة، إذ تحتوي غورغاون مثلًا على ناطحات سحاب ومراكز تسوق عملاقة، لكنها لا تملك مع ذلك نظامًا للصرف الصحي.
غورغاون: الخصخصة تدفع عجلة الازدهار
تقع غورغاون بالقرب من العاصمة الهندية نيو دلهي، على بعد نصف ساعة تقريبًا بالسيارة، وتضم العديد من الشركات متعددة الجنسيات، وهو ما يفسر انتشار المحال التجارية والفنادق والمطاعم الفخمة في مختلف أرجائها.
ظلت غورغاون لأربعة عقود دون حكومة محلية تدير مرافقها، وتتدخل الآن الشركات الخاصة لتمهيد الطرق وتقديم الخدمات.
بدأت حكاية ازدهار غورغاون بحسب المقال عام 1991، بعد أن مررت الهيئات التشريعية في الهند مجموعة من الإصلاحات سمحت للشركات الأجنبية بالاستثمار في عدد من القطاعات الاقتصادية المهمة، وفي هذا الوقت أسندت الحكومة مراجعة المشاريع الخاصة بغورغاون والتصديق عليها إلى هيئة حكومية واحدة مستقلة نسبيًّا.
في ذلك الوقت، كانت غورغاون بلدة عادية يسكنها 121 ألف شخص، وتحيط بها مساحات شاسعة من الأراضي البور. وبما أن تلك الأراضي أصبحت تحت إشراف وكالة واحدة، فقد سرَّع هذا خطط المطورين، فبات التصديق عليها يتم في غضون أيام وليس سنوات، وكانت النتيجة موافقة سريعة على بناء وحدات سكنية فاخرة وفنادق خمس نجوم وملاعب غولف ومكاتب فرعية لعدد هائل من الشركات متعددة الجنسيات.
يقدَّر عدد سكان غورغاون حاليًّا بمليوني نسمة، وظلت المدينة لأربعة عقود دون حكومة محلية تدير مرافقها وتقدم الخدمات العمومية، فإذا احتاجت الآن إلى تمهيد طريق أو خدمات الشرطة أو رجال الإطفاء أو جامعي القمامة، تتدخل الشركات الخاصة المستقرة على أراضيها لتقديم هذه الخدمات، أو تتجنب هذا بالطبع إن لم يكن في صالحها.
نظريًّا، لا يبدو أن مدينة كهذه ممكنة الوجود أصلًا، حسب قول الخبيرة الاقتصادية «شروتي راجاغوبالان». ومع ذلك، فهي اليوم تمثل منطقة جذب للطبقة المتوسطة في الهند، إذ تضاعف عدد سكانها سريعًا في السنوات الخمس وعشرين الماضية، ومن المتوقع أن يزداد مستقبلًا، رغم أن الخدمات العمومية في المدينة تحت إدارة تكتُّل من الشركات الخاصة.
غورغاون: مدينة التناقضات
يقول المقال إن بعض أجزاء المدينة يشبه مناطق من سنغافورة أو هونغ كونغ أو غيرها من المدن الكبرى، لكن بعض أجزائها الأخرى لا تملك حتى أبسط الخدمات العمومية. وعلى سبيل المثال، يرتبط ثلث سكان غورغاون فقط بخطوط الصرف الصحي الرئيسية، وتشبه المدينة في هذا معظم البلدات الهندية التي تفتقر إلى شبكات صرف جيدة.
قد يهمك أيضًا: هل تستطيع السياحة القضاء على الفقر؟
لكن هذا لا يوقف تدفق السكان إلى المدينة ولا انتعاشها الاقتصادي، فعِوضًا عن تدخل الحكومة لمد خطوط صرف صحي في غورغاون بأكملها، يعمد مُلَّاك المباني إلى التعاقد مع شركات خاصة لنقل مياه الصرف الصحي والتخلص منها، وإذا واجه مطورو المدينة نقصًا في الكهرباء، فإن بحوزتهم مولدات ديزل تعوض هذا النقص داخل منشآتهم الخاصة، أما في ما يخص ضمان الأمن، فقد عُزِّزت قوات الشرطة المكونة من أربعة آلاف فرد بجيش من 35 ألف حارس خاص.
بما أن القائمين على تطوير غورغاون يقدمون خدمات جيدة مقارنةً بالمدن الهندية الأخرى، فإنها ستستمر في النمو والازدهار في بعض جوانبها، رغم وجود نقص دائم في البنيات التحتية، نظرًا لأن الشركات الخاصة تؤمِّن الممتلكات التابعة لها لا غير.
تقول راجاغوبالان إن هناك أماكن غير آمنة على الإطلاق تقع بين منطقة صناعية خاضعة لشركة خاصة ومنطقة خاضعة لشركة أخرى، لأن حراس الأمن يسهرون على تأمين أماكن بعينها، وهو ما يترك ثغرات أمنية في بقية أنحاء المدينة.
يحدث الشيء نفسه عندما يتعلق الأمر بالصرف الصحي، إذ غالبًا ما تتخطى الشاحنات المسؤولة عن هذه العملية محطات المعالجة وتفرغ محتوياتها على الأراضي العامة، الأمر الذي يشكل خطرًا على سكان الأحياء الفقيرة.
خصخصة غورغاون: التنمية لمن يدفع ثمنها
تقتصر قصة نجاح غورغاون إذًا على مجموعة من المجمعات الخاصة المأهولة بمن يستطيعون تحمل تكاليفها، لكن إذا نظرنا إلى الأحياء المجاورة لها، التي تشهد انقطاعات مستمرة في الكهرباء، ونفس الظروف غير الصحية التي تميز الحياة اليومية لكثير من فقراء المناطق الحضرية في الهند، ستظهر لنا حدود سياسات الخصخصة التي تتبناها المدينة.
مع ذلك، تقول راجاغوبالان إن الحل الأمثل لهذا الوضع ربما يكون بيع مزيد من أراضي المدينة للشركات الخاصة، وتعلل ذلك بقولها إن حصول هذه الشركات على مساحات أكبر من الأراضي يحفزها للاستثمار فيها وتمويل مشاريع تطوير بنياتها التحتية.
هذا الحل قد يبدو غير مرغوب، إذ كيف يُسمح للشركات الخاصة بإدارة مدينة ومنطقة حضرية داخل تراب بلد آخر بمعزل عن سياسات الحكومة في ذلك البلد؟ لكن مع ذلك، ثَمَّة مساعٍ لتكرار نفس التجربة في مدن هندية أخرى، وبلدان مثل أفغانستان أعربت عن اهتمامها بتطبيق نفس النموذج على أراضيها، فهل ستكون مدن المستقبل مدارةً بالكامل عن طريق الشركات الخاصة؟ والسؤال الأهم: هل ستفتقر جميعها كذلك إلى شبكة صرف صحي؟