هل سنحت لك الفرصة يومًا أن تستمع إلى حوار بين شخصين، كلاهما ينتمي إلى القبيلة نفسها ولكنهما يختلفان من حيث انتماء كل منهما إلى دولة مغايرة؟ أما كاتب هذه السطور فقد سنحت له الفرصة فعلًا في الاستماع والاستمتاع بمثل هذه الحوارات، مرارًا وتكرارًا، وأعترف للقارئ أني كنت في كل مرة أؤدي دور فيصل القاسم في برنامج «الاتجاه المعاكس»، لكن ليس لإذكاء الصراع بين الطرفين، بل لتوجيه الحوار إلى نقاط تثير عندي أسئلة محددة.
مثلًا، إذا كان الولاء للقبيلة لا يزال أمرًا شائعًا في زمننا الحاضر، فكيف سيكون هذا الولاء عندما يبدو متعارضًا مع الولاء للدولة؟ أقول «يبدو» لأني لم ألحظ في كل حوار من هذا النوع أي إحساس بالتعارض بينهما لدى الطرفين المتحاورين، وما لفت انتباهي على وجه الخصوص أن كلا الطرفين صادق في ما يقول، ليس فقط لأنه يعتقد أنه صادق، بل لأن ما يعتقده متوافق أيضًا مع معطيات الواقع، وهذه النقطة على وجه التحديد هي أشد ما يثير دهشتي في مثل هذه الحوارات: كيف من الممكن أن يكون الولاء للقبيلة منسجما مع الولاء للدولة؟
كيف يُبنى الولاء؟
الولاء بوصفه شعورًا نفسيًا يشير إلى علاقة ثنائية لاتناظرية (أي من طرف واحد فقط) تتخذ أشكالًا عدة: الفرد-القبيلة، المواطن-الدولة، السياسي-الحزب، وغيرها، وقد تبلغ هذه العلاقة من القوة والحدة بحيث تستطيع تشويه معيار الحقيقة، فمن المعروف أن أحد أبرز معايير الحقيقة هو تطابق ما نقول مع معطيات الواقع، في حين أن معيار الحقيقة بالنسبة لعلاقة الولاء هو الانتماء، أي إن «ما هو حقيقي هو كل ما ينسجم مع انتمائي».
من جهة أخرى، ولاء الفرد لأي شيء يجعل من القدرة على التحكم بهذا الشيء قدرة على التحكم في الفرد نفسه، وليس في الأمر سرًا، لا من الناحية المنطقية ولا من الناحية التاريخية. فمن حيث المنطق، الولاء المطلق علاقة متعدية، فإذا كان «أ» يوالي« ب»، وإذا كان «ب» يوالي «ج»، فإن المحصلة أن «أ» يوالي «ج». والتطبيق العملي لعلاقة التعدي هذه نجده في أي مشروع حُكم يستثمر علاقة الولاء لفرض سيطرته على الجميع.
تاريخ بريطانيا العظمى على وجه الخصوص خير شاهد على هذه الاستراتيجية: الولاء يُسهم في إنجاح أي عملية تفاوض، فالتفاوض مع مجموعة كبيرة من الأفراد أصعب بكثير من التفاوض مع فرد يدين له كل أفراد المجموعة بالولاء.
هذه الاستراتيجية هي ذاتها التي نلحظها في دول الخليج، ففي أي دولة من هذه الدول، نحن لسنا أمام مشروع بناء دولة، بل مشروع ترسيخ حكم، أي مشروع يعزز من قيم الولاء ويطمس قيم المواطنة، فهذه الأخيرة مشروطة بعلاقة من الحقوق والواجبات بين المواطن والدولة، والإخلال بها يزيل الشرعية عن أي سلطة سياسية، في حين أن الولاء علاقة يمنح من خلالها التابع سلطة غير مشروطة للمتبوع، وهي علاقة ثنائية متعدية كما ذكرنا.
على سبيل المثال، عندما يدين آلاف الأفراد بالولاء لشيخ قبيلة، فإن تعزيز مثل هذا الولاء يخدم مشروع الحكم، فكل ولاء من هذا النوع هو بالضرورة ولاء بالتبعية، ولهذا يحظى شيوخ القبائل باهتمام خاص في دول الخليج، وكلما تراجعت المكانة الاجتماعية لشيخ القبيلة، سارع المسؤولون عن مشروع الحكم إلى تعزيزها، وهذا بالضبط ما جرى في الكويت بعد الحراك الشعبي قبل سنوات قليلة.
عندما نشاهد أحد أفراد السلطة السياسية حاملًا السيف في رقصة «العرضة»، وعندما نشاهد حماس الجمهور في متابعة «شاعر المليون» أو «مزايين الإبل» أو«شعر القلطة»، فلا ينبغي أن نكون ساذجين إلى الحد الذي ننظر فيه إلى كل ذلك من باب «رعاية الدولة للموروث الشعبي»، بل نحن أمام ترسيخ مشروع الحكم من خلال تعزيز قيم الولاء للهويات الثانوية.
هل تتعارض هذه الهويات الثانوية بالضرورة مع مفهوم المواطنة؟ بكل تأكيد، لكنها تخدم مشروع الحكم، ذلك أن كل قبليَّة تخدم بالضرورة مشروع الحكم، ومن الضروري هنا تأكيد حقيقة أن القبليَّة غير مقتصرة على القبيلة، بل تشمل كل منظومة اجتماعية تمتاز على الأقل بخصلتين: ولاء مجموعة، وقيادة فرد.
لهذا تحظى بعض التيارات، الرجعية على وجه الخصوص، إلى جانب المجاميع الفئوية التي تربطها مصلحة طبقية أو نَفَس عنصري، بدعم السلطة السياسية لترسيخ مشروع الحكم. ومن هنا لا غرابة أن تقف مثل تلك التيارات الرجعية والمجاميع الفئوية ضد أي حراك شعبي يهدد قيم الولاء والإذعان وطاعة أولي الأمر، ولا غرابة كذلك في أن تغض السلطة النظر عن الانتخابات الفرعية والنعرات القبلية، فالولاء القبلي لا يعد خطرًا في نظر السلطة.
إذ ليس المشروع هو مشروع بناء دولة كي يُخشى على تمزق الوحدة الوطنية وتفتيت النسيج الاجتماعي، بل هو مشروع حكم يرى الخطر في انعدام الولاء للقبيلة، وهذا ما يفسر دعم السلطة للنَّفَس العنصري في مواجهة بعض الناشطين السياسيين من أبناء القبائل، فالتشكيك في ولاء أبناء القبائل للوطن يعكس في واقع الأمر عقابًا من السلطة لهم، ليس لأن ولاءهم للقبيلة طغى على ولائهم للوطن، بل على العكس من ذلك تمامًا، لأن ولاءهم للوطن طغى على ولائهم للقبيلة، الأمر الذي دفع السلطة إلى تعزيز مكانة شيوخ القبائل بعد أن استطاع الحراك الشعبي أن يُكرِّس من تهميش دورهم التقليدي، بل ويكسب بعضهم إلى صفوفه أيضًا.
دعم الولاء وطمس المواطنة، هذا هو مشروع الحكم، وتشهد على نجاح هذا المشروع حقبة «الصوت الواحد» في الكويت، والتي نعيشها منذ سنوات، فالحقوق والواجبات استُبدلت بالعصا والجزرة: العصا مُمثلة في سحب الجناسي والسجن والاغتراب والحرمان من الحقوق المشروعة، والجزرة مُمثلة في تقليد المناصب وترسية المناقصات ومنح الأراضي والمزارع، والنتيجة هي حالة من الإذعان الشامل لم تشهدها الكويت طوال تاريخها السياسي الحديث.