«نشعر جميعًا بقلق شديد من الحرب الباردة التي تلوح في الأفق»، هكذا صرح المستشار الرئاسي الإماراتي أنور قرقاش، خلال مؤتمر في أبو ظبي في 2 أكتوبر الجاري، مشيرًا إلى توتر العلاقات بين واشنطن وبكين وانعكاسات ذلك على حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في الخليج.
تسربت هذه الصراعات الجيوسياسية والحروب التجارية بين الطرفين إلى عالم تكنولوجيا المعلومات منذ فترة، فبعد فرض رسوم جمركية على الواردات الصينية في الولايات المتحدة الأمريكية، اتُّهِمت الصين بأنها تستخدم عملاقها التكنولوجي هواوي كمنصة للتجسس، وتعاقبت الأحداث التي زادت من احتمالية تكوُّن «ستار حديدي» رقمي يفصل بين حلفاء الصين وحلفاء أمريكا، بدءًا بإصدار وزارة الدفاع الأمريكية قرارًا في مايو 2018 بمنع موظفيها من استخدام الأجهزة الصينية لدواعٍ أمنية، واعتقال المديرة التنفيذية لشركة هواوي من قبل السلطات الكندية في ديسمبر 2018 على خلفية انتهاكات محتملة للعقوبات الأمريكية على إيران، وصولًا إلى حظر رئاسة ترامب معدات هواوي في مايو 2019.
ورغم محاولات هواوي المتعددة نفي الاتهامات الأمريكية، حذت حكومات غربية عدة حذو أمريكا في ما يتعلق بحظر التعاون مع هواوي في مجال تقنيات الجيل الخامس، كما دعت أمريكا حلفاءها في الخليج لتجنب التعاون مع العملاق الصيني. واستمرت هذه الضغوط الأمريكية على الخليج حتى بعد انتهاء رئاسة ترامب، فقد طالبت إدارة بايدن الإمارات في يونيو 2021 باستبعاد معدات هواوي من بنيتها التحتية الرقمية كشرط لإتمام صفقة طائرات F-35.
تظهر لنا منطقة الخليج في حيرة وسط هذه الحرب الباردة التي توشك على الاندلاع بين الصين وأمريكا، وكأن «التنافس الجيوسياسي بين الصين والولايات المتحدة يختبر ولاءات دول الخليج»، كما صرح المستشار الرئاسي الإماراتي أنور قرقاش.
الخليج في دوامة السباقات السياسية حول شبكة الجيل الخامس
يعد الخليج سوقًا ناجحًا لمختلف تقنيات الاتصالات الحديثة، إذ تسعى دول المنطقة لتنويع مصادر دخلها بعيدًا عن النفط، وتطمح، كما يتبين من رؤاها التنموية، إلى تعزيز التحول الرقمي أملًا في بناء اقتصاد معرفي وزيادة الاستثمارات الخارجية. ويأتي تطوير بنية تحتية لشبكة الجيل الخامس على رأس أولويات هذا التحول، فهي من شأنها أن تسمح بالاستفادة من تقنيات أخرى ذات أهمية لاستراتيجيات التنمية في الخليج، تشمل «إنترنت الأشياء» وإدارة المدن الذكية، بالإضافة إلى تطبيقات عدة في مجال الدفاع والأمن.
حققت مجتمعات الخليج أعلى نسب استهلاك للإنترنت إذا ما قورنت بدول الجوار في غرب آسيا، فوفقًا لبيانات الجمعية الدولية لشبكات الهاتف المحمول (GSMA)، وصل عدد مستخدمي الإنترنت في دول مجلس التعاون الخليجي إلى 77% من مجمل السكان في عام 2018، وفي المقابل نجد أن نسبة المستخدمين في باقي الدول العربية تصل إلى 48% من السكان فقط.
منذ عام 2018، بدأت شركات الاتصالات في دول الخليج التنافس للإعلان عن شراكاتها وجهودها في إطلاق شبكة الجيل الخامس. وفي خضم هذا التنافس، برزت هواوي كشريك مناسب قادر على توفير حلول سريعة ومعقولة التكلفة. وقد سعت دول الخليج، استجابةً للضغوط الأمريكية، إلى تنويع شركائها التقنيين، فإلى جانب اتفاقيات الـ5G المبرمة مع هواوي، أعلنت شركات الاتصالات الخليجية عن اتفاقيات مشابهة مع إريكسون السويدية، ونوكيا الفنلندية.
ورغم تزايد الضغوط الغربية للابتعاد عن العملاق الصيني، لم تشكل تقنيات هواوي مصدر قلق للسلطات في الخليج. وقد أشار وزير الاتصالات السعودي عبد الله سواحة، في مقابلة أجراها مع قناة CNBC عام 2019، إلى أن «اقتصاد السعودية حر ومفتوح للجميع، وأن المملكة لا ترى أي مشكلة في استخدام معدات هواوي طالما التزمت هذه الأخيرة بسيادة المملكة وقوانينها ومتطلباتها الأمنية». وتعليقًا على المسألة ذاتها، بين وزير الاتصالات البحريني كمال بن أحمد، أن بلاده ليست لديها أي مخاوف طالما أن التكنولوجيا التي توفرها هواوي تتوافق مع المعايير المحلية. كما صرح الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في شركة «دو» الإماراتية قائلًا إن «هواوي شريكتنا في شبكة الجيل الخامس. ومن المنظور الأمني، لدينا معاملنا الخاصة في الإمارات ونزور معاملهم، ولم نر أي دليل على وجود ثغرات أمنية في ما يتعلق بالجيل الخامس بالتحديد».
تجدر الإشارة إلى أن تقنيات ومعدات هواوي ليست حديثة القدوم إلى الخليج، فقد تعاونت شركات الاتصالات في المنطقة مع هواوي لإطلاق شبكات الـ4G، والـ4.5G مسبقًا، وقد كانت الإمارات أول من أطلق شبكة الـ3G إثر تعاون مع هواوي عام 2003. كما أن هواوي ليست الشركة الصينية الوحيدة التي تنشط في سوق تكنولوجيا المعلومات في الخليج.
محطات طريق الحرير الرقمي في الخليج تتعدى شبكة الجيل الخامس
ضمن استراتيجية «طريق الحرير الرقمي» الصينية، تبنت هواوي خطة طويلة المدى في الخليج تهدف أولًا إلى بناء روابط قوية بين الشعبين من خلال المسابقات والبرامج التعليمية ومختبرات الابتكارات المفتوحة، وثانيًا إلى التعاون مع حكومات المنطقة في تنفيذ مشروعات ضخمة كمشروع المدينة الذكية في دبي الجنوب.
تجدر الإشارة إلى أن هذا التعاون يتعدى تقنيات الجيل الخامس وقطاع تكنولوجيا المعلومات، ليصل إلى قطاعات ذات أهمية أمنية لحكومات المنطقة. فعلى سبيل المثال، وقعت شرطة دبي اتفاقية مع هواوي لتعزيز مستوى الأمن في المدينة، كما وقعت وزارة الحج والعمرة في السعودية اتفاقية مع هواوي لتوفير حلول رقمية لإدارة موسم الحج.
تبقى الصين شريكًا اقتصاديًا مهمًا للخليج، كونها المستورد الأول للنفط من المنطقة، ومن الصعب على دول الخليج الاختيار بين حليفها الاقتصادي وحليفها الاستراتيجي التقليدي، ولذلك ستبقى مهمة الموازنة بين الطرفين، كما أشار قرقاش، تحديًا كبيرًا لدول الخليج.