في الثلاثاء الثامن من مايو، عندما قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، قرر أيضًا إعادة العمل بالعقوبات التي كانت مفروضة على طهران قبل الاتفاق. ولم يكتفِ بذلك، بل أشار إلى حزمة جديدة من العقوبات الثانوية التي ستطول كل الشركات الأوروبية التي لديها تعاملات تجارية مع إيران.
في المقابل، قال الرئيس الإيراني حسن روحاني إن بلاده ستستمر في الاتفاق النووي بشرط أن تقدم الدول الأوروبية الموقِّعة على الاتفاق ضمانات قوية تسمح لبلاده بالاستفادة الكاملة من بنود الاتفاق.
بين عقوبات واشنطن ومطالبة طهران بضمانات، أصبح الاتحاد الأوروبي في وضع صعب ومعقد، فهل سيتمكن من حماية شركاته التي تستثمر أموالًا طائلة في طهران من عقوبات الولايات المتحدة، ومن احتواء إيران، وتقديم جميع الضمانات التي تريدها لاستكمال الصفقة النووية؟
فرنسا قلقة من الخسارة
بعد إبرام الاتفاق النووي في 2015 كانت الشركات الفرنسية أول من سارع، من الدول الأوروبية، إلى الاستثمار في إيران، فعقدت شركة البترول الفرنسية «توتال» أكبر صفقة تجارية مع إيران لتطوير حقل نفط جنوبي فارس في 2017 بقيمة ملياري دولار.
لم تستثمر الشركات الفرنسية في مجال النفط فقط في إيران، بل وصلت إلى قطاع السيارات الإيراني، فعقدت شركتا «بيجو» و«رينو» عدة صفقات مع طهران لتطوير صناعة السيارات.
لذلك، وفور انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، هاتف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره الإيراني في محاولة سريعة للتهدئة، وخلال المكالمة أكد ماكرون إصرار فرنسا على استكمال الاتفاق من جميع النواحي.
يرى الخبير الاقتصادي محسن ثابتي أن ترامب ضرب بعرض الحائط كل مصالح حلفائه الأوروبيين، ويوضح لـ«منشور» أن «توتال وقَّعت الصفقة لمدة 22 عامًا، ماذا ستفعل الآن لو فرضت أمريكا العقوبات عليها؟ إنه أمر جنوني، ملايين الدولارات في مهب الريح».
قد يهمك أيضًا: هل يكفي نص طن لنسف الاتفاق النووي الإيراني؟
هل يعيد الاتحاد الأوروبي ما فعله في التسعينيات؟
بعد أيام قليلة من إعلان ترامب انسحابه من الاتفاق النووي، دعا المدير التنفيذي لشركة «توتال» الفرنسية، أكبر الخاسرين من ذلك القرار، الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ إجراءات تحمي الشركات الأوروبية في طهران، وإقرار قانون مماثل لما أصدره الاتحاد في 1996، وهو ما عُرِفَ حينها بقانون «المنع».
ففي 1996 فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران وليبيا وكوبا وروسيا، فشعر الاتحاد الأوروبي بأن مصالحه الاقتصادية مهددة بالخطر، فاجتمعت دوله على قانون يمنع تلك العقوبات، بل ويطالب أمريكا بصرف التعويضات للشركات الأوروبية التي تضررت من عقوبات واشنطن.
وصل الأمر إلى حد أن هدد الاتحاد الأوروبي الولايات المتحدة بطردها من منظمة التجارة العالمية بدعوى أنه ليس من حق واشنطن فرض عقوبات على الدول الأوروبية خارج الحدود الإقليمية، وحينها رضخ الرئيس بيل كلينتون وألغى العقوبات الثانوية المفروضة على الشركات الأوروبية. لكن هل يستطيع الاتحاد الأوروبي الآن تكرار ما فعله في 1996؟
يجيب على تساؤل «منشور» السياسي الإيراني حشمت مراد، فيقول إنه «من الصعب أن يعيد الاتحاد الأوروبي ما فعله في التسعينات الآن. فمن ناحية، أوروبا تخشى ترامب الذي لا يضع اعتبارًا لأي شيء، ومن ناحية أخرى لا تريد أن تخسر حلفاءها المناهضين للاتفاق النووي من الأساس، وهما السعودية وإسرائيل».
يرى حشمت أن ترامب لن يتسامح مع أي قرار أوروبي يهدد سياسته ضد إيران، فمنذ اليوم الأول له في الرئاسة وهو عازم على إنهاء هذا الاتفاق بأي شكل من الأشكال.
إيران تريد ضمانات ورد اعتبار
في اليوم التالي لقرار انسحاب ترامب خرج المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي مصرحًا بأن إيران تحدد أولويتها من الصفقة النووية: «إذا كان لا بد أن نحافظ على الاتفاق النووي، فيجب التأكد من وجود ضمانات حقيقية، وإلا سيفعلون بنا ما فعلته أمريكا».
يبدو أن تصريحات خامنئي بشأن الضمانات التي تريدها إيران، بجانب إصرار التيار المحافظ على رد اعتبار الجمهورية الإيرانية، يشكل ضغطًا على الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف من ناحية، ومن جهة أخرى على الاتحاد الأوروبي.
يرى «إسفنديار جعفري»، السياسي المحسوب على التيار المحافظ، أن إيران إلى الآن، وحتى قبل انسحاب ترامب، لم تحقق طموحاتها من الاتفاق.
يؤكد جعفري لـ«منشور» أن إيران منحت الاتحاد الأوروبي مهلة ثلاثة أشهر من أجل التوصل إلى حل وتوفير ضمانات لإيران، لكن «الأهم رد اعتبار تلك الأمة، وتعويضنا عن كل سنين العقوبات».
لكن ما الضمانات التي تريدها طهران؟
في تغريدة له على تويتر، قال حامد أبو طالبي، مستشار الرئيس روحاني، إن الضمانات لا بد أن تشمل جميع الحقوق الاقتصادية والسياسية والأمنية لإيران، دون أن يذكر مزيدًا من التفاصيل.
يفسر الخبير الاقتصادي محسن ثابتي جزءًا من الضمانات فيقول: «أكثر ما يهم إيران الآن ضمان استمرار الاستثمار الأوروبي في النفط والمعاملات المصرفية، وضمان عدم تدخل الغرب في سياسات طهران الخارجية باستغلال نقطة الاستثمارات كما كان يريد ترامب».
في 2017 ارتفعت صادرات الخام الإيراني إلى 2.5 مليون برميل يوميًّا، وهو معدل يُرضي الطرف الإيراني الذي عانى ركودًا في صادراته النفطية في السنوات التي سبقت الاتفاق النووي.
في نقطة التعاملات المصرفية لم يحقق الاتفاق النووي لإيران أي تقدم في هذه النقطة، فكثير من البنوك الأوروبية خشيت تمويل استثمارات كبيرة داخل طهران بسبب عدم رفع الولايات المتحدة العقوبات بشكل كامل.
لو حاول الاتحاد الأوروبي تأمين النسب المُرضية لإيران من صادرات النفط، ستبقى أمامه عقبة كبيرة تتمثل في التعاملات المصرفية مع البنك المركزي الإيراني الذي فُرِضت عليه عقوبات عديدة.
يكثف الاتحاد الأوروبي الآن كل جهوده للوصول إلى ما يُرضي إيران، وتأمين الشركات الأوروبية التي استثمرت بالفعل في طهران وتخشى العقوبات. هذا بجانب تشجيع البنوك ومزيد من الشركات في الانضمام إلى سوق العمل الإيرانية لكي ينجو الاتفاق النووي، ولو بأقل الخسائر.
قد يعجبك أيضًا: الاتفاق النووي مع إيران: من يخادع من؟
ماذا لو سقط الاتفاق النووي كاملًا؟
إذا فشلت جميع الأطراف في إنقاذ الصفقة النووية، فلن تجد طهران بجانبها إلا روسيا والصين، لكنهما غير كافيتين.
حتى الآن لا تلوح في الأفق أي مؤشرات تدل على أن الاتحاد الأوروبي في طريقه إلى حل أزمة الاتفاق، بل على العكس، يبدو الأمر ضبابيًّا، فاذا لم يضمن الاتحاد استفادة إيران والشركات الأوروبية، هل يستطيع الاقتصاد الإيراني الصمود حينها؟
من العقوبات التي وقَّعتها وزارة الخزانة الأمريكية على إيران منعها من شراء الدولار، لذلك سيصبح من الصعب للغاية الحصول على الدولار في إيران إلا من السوق السوداء، وبناءً عليه سينهار الريال الإيراني أكثر من انهياره الحالي، الذي قدَّره الخبراء الاقتصاديين بأنه أسوأ حال وصل إليه الريال في تاريخ إيران، وسيعاني الإيرانيون انهيار القدرة الشرائية، وزيادة كبيرة في الأسعار.
في قطاع النفط، تحدث «منشور» إلى أحد الخبراء الإيرانيين لكنه اشترط عدم الإفصاح عن هويته، فأكد أن صادرات النفط الإيرانية بدأت في التراجع، وإذا لم يجد الاتحاد الأوروبي حلولًا مناسبة في أسرع وقت، فمن الممكن أن نعود إلى معدلات تصدير قبل الاتفاق النووي.
كل ذلك بجانب خسارة إيران صفقات كبيرة، فعلى سبيل المثال قررت شركة «إيرباص» تعليق تسليم باقي الطائرات إلى إيران، والتي كان من المفترَض أن تسلِّمها 100 طائرة، إلى أن يجد الاتحاد الأوروبي حلًّا يضمن للشركة عدم التعرض للعقوبات.
في أسوأ الأحوال، وإذا فشلت جميع الأطراف في التوصل إلى حل لإنقاذ الصفقة النووية وخطة العمل المشتركة، فلن تجد طهران بجانبها إلا روسيا والصين، وسيكون أمامهما فرص استثمارية كبيرة في السوق الإيرانية، لكن محسن ثابتي يرى أن روسيا والصين غير كافيتين لبناء اقتصاد قوي كما يتخيله الإيرانيون.