يتسم شكل العلاقات بين روسيا وفرنسا بالغموض في بعض الأحيان، والارتباك في أحيان أخرى، لكن الكاتبة ياسمين شيران، في مقالها المنشور على موقع «The Atlantic» تطرح رؤية جديدة للموقف.
ماكرون في سانت بطرسبرغ
بعد عام تقريبًا من استضافة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في فرساي الفرنسية، ذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى سانت بطرسبرغ الروسية.
عقد ماكرون، على هامش منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، محادثات مباشرة مع نظيره الروسي لمناقشة الأزمة في أوكرانيا والحرب في سوريا، إضافة إلى أكثر الأزمات إلحاحًا، وهي إنقاذ الصفقة النووية الإيرانية التي تعد روسيا وفرنسا جزءًا منها.
منذ شهرين فقط كانت هذه الزيارة ستبدو غريبة. في ذلك الوقت كان التوتر بين موسكو وأوروبا قد وصل إلى نفس المستوى الذي كان عليه في حقبة الحرب الباردة، وذلك عقب تعرُّض جاسوس روسي للتسمم بواسطة غاز أعصاب نادر في الأراضي البريطانية، وهي هجمة زعمت بريطانيا وحلفاؤها أن الدولة الروسية فقط هي من تستطيع ارتكاب مثلها، رغم الإنكار المتواصل من الجانب الروسي.
انتهى الشجار في نهاية المطاف بطرد أكثر من 100 دبلوماسي روسي من العواصم الأوروبية وأمريكا الشمالية. وردًّا على ذلك نفذَّت روسيا طردًا انتقاميًّا مماثلًا.
ترامب ينسحب، وأوروبا وروسيا إلى الأمام
رغم أن أوروبا وروسيا في نفس الجانب من الأزمة الإيرانية، لكنهما بعيدين عن الاتفاق الكامل، بسبب العقوبات على موسكو لضمها جزيرة القرم.
كانت هذه طبيعة الموقف حينها، أما الآن، فانسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الخطة الشاملة للعمل المشترَك (JCPOA)، أو الصفقة الإيرانية كما تُعرَف رسميًّا، وضع أوروبا كلها بين شقي الرحى.
فمن ناحية، يدفع هذا أوروبا كلها إلى أحد خيارين، إما مشاهدة إنجازها الدبلوماسي ينهار، وإما أن تدخل في محاولة لإنقاذ الاتفاق النووي حتى لو تسبب هذا في تعريض أعمال أوروبا التجارية إلى العقوبات الأمريكية.
حتى الآن، يبدو أن القادة الأوروبيين اختاروا الحالة الثانية، وألزموا أنفسهم بالحفاظ على الاتفاق، حتى لو كان الثمن أن ينفذوه دون واشنطن. إذ قال «جان كلود يانكر»، رئيس المفوضية الأوروبية، إن أوروبا ستلتزم بالاتفاق ما دام الإيرانيون يحترمونه، مضيفًا أن التكتل الأوروبي «سيبذل أقصى ما يمكنه لحماية أعماله التجارية» من العقوبات الأمريكية التي ستقع على الشركات المتاجرة مع إيران. ويشمل هذا استحداث لوائح تمنع الشركات الأوروبية من الامتثال للعقوبات.
اقرأ أيضًا: الاتفاق النووي: هل يصلح الاتحاد الأوروبي ما أفسده ترامب؟
كانت طهران نبهت بالفعل إلى أن المؤسسات الأوروبية قد تسحب أعمالها التجارية من إيران، ما يجعل اجتماع بوتين وماكرون أكثر أهمية. وباعتبارها واحدة من التوقيعات الستة الباقية في الاتفاق مع كل من (الصين وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيران)، تشارك روسيا أوروبا هدفها في الحفاظ على الاتفاق النووي. إذ صرحت الناطقة باسم الخارجية الروسية، «ماريا زاخاروفا»، قائلة: «لم ندعم قط العقوبات أحادية الجانب، ولن نفعل، لأننا نعتقد أنها غير قانونية»، مشيرة إلى العقوبات الأمريكية على إيران. وأضافت أن موسكو مصممة على تعزيز تعاونها الشامل مع إيران.
أصاب قرار ترامب بانسحاب أمريكا من الاتفاق الإيراني العلاقة بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين بشرخ جديد، وذلك عقب الصدامات التي سببها انسحاب أمريكا من اتفاقية باريس المناخية 2017، إضافة إلى تهديدات ترامب بفرض الرسوم الجمركية على واردات الاتحاد الأوروبي من الألومنيوم والفولاذ، وهو التهديد الذي نفذه بالفعل، إذ أقر رسومًا جمركية على واردات الاتحاد الأوروبي، واستثنى كندا والمكسيك من قراره.
دفعت هذه الصدامات الدبلوماسية بعضهم إلى التساؤل عن قوة العلاقات الأوروبية الأطلسية (أو ما يسمى التعاون الأطلسي). فبالنسبة إلى إيران، على الأقل، توجد إمكانية أن تنجرف أوروبا بعيدًا عن الولايات المتحدة، وتصبح أقرب لروسيا.
رغم أن أوروبا وروسيا يجدان أنفسهما الآن في نفس الجانب من أزمة الصفقة الإيرانية، في مقابل أمريكا، لكنهما ما زالا بعيدين كل البعد عن الاتفاق الكامل. إذ قال الباحث «ماتيو بوليج»، المتخصص في الشأن الروسي والأوراسي في معهد «تشاتام هاوس» بلندن، إن الاتفاق بين أوروبا وآسيا ظرفي وقصير المدى. ليس فقط لأن أوروبا وروسيا دعما طرفين متخاصمين في الحرب الدائرة في سوريا، لكن أيضًا لأن أوروبا تواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية فرض عقوبات باهظة على موسكو لضمها جزيرة القرم عام 2014.
كان ماكرون صريحًا في حديثه عن هذه الاختلافات خلال مقابلته الأولى مع بوتين في فرساي 2017، وعُرف أنه انتهز الفرصة للسخرية من وسائل الإعلام الرسمية الروسية، مثل «روسيا اليوم» و«سبوتنيك»، باعتبارهما «أدوات دعاية وتأثير سياسي».
لكن بوليج قال إن هذه الاختلافات يجب ألا تؤثر في التعاون الروسي الأوروبي في ما يتعلق بإيران. وأضاف أن هذا هو جوهر الدبلوماسية، وأن كون طرفين دوليين مختلفين في قضية لا يعني أنهما لا يمكنهما أن يكونا أصدقاء في قضية أخرى.
في مؤتمر صحفي مشترك عقب المقابلة مع بوتين، ركَّز ماكرون على الاهتمام المشترك بين روسيا وفرنسا، إضافة إلى الروابط الثقافية والتاريخية. إذ قال: «نحن واعون أننا سمحنا بوجود سوء الفهم في علاقتنا المتبادَلة»، موضحًا أن كلا الجانبين عليه أن يمضي قدمًا مع الآخر، ويواصل العمل على تقوية الثقة المتبادلة بينهما.
رغم اختلافهما، فإن لديهما شيئًا واحدًا مشتركًا، وهو الرغبة في التصدي للولايات المتحدة الأمريكية. وقال بوليج إن روسيا ستستغل قدر الإمكان فكرة أن أمريكا لا تحترم اتفاقاتها الدولية، وأن هذا سيقدَّم كنصر، وسيسمح لروسيا بأن يكون لها اليد العليا في أي مفاوضات تخص إيران، وستجعل موسكو هذا الموقف يتصل بشكل مباشر بسوريا لأن إيران لاعب رئيسي في أي نوع من اتفاقات التسوية السلمية في دمشق، وستستفيد روسيا من هذا على أكمل وجه.