عقب سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين عام 1989، قررت الدول الأوروبية الاجتماع على قيم نبذ العنف وإنهاء الحرب، وإرساء قواعد التعاون الاقتصادي والاجتماعي، والديمقراطية وحكم القانون والمساواة، وحملت على عاتقها نشر تلك القيم بين باقي دول العالم، بقوة النموذج الناجح الذي تحدى الاختلافات الثقافية والتمييز والتعصب.
لكن بعد 28 عامًا، وفي أثناء إحياء ذكرى الوحدة الألمانية في 3 أكتوبر 2017، ركز الرئيس الألماني «فرانك فالتر شتاينماير» في خطابه على تأثير ملف اللجوء والهجرة في نتائج انتخابات البوندشتاغ (البرلمان الألماني)، وهي النتائج التي أظهرت أن «جدرانًا من الاغتراب واليأس والغضب» تجذرت لدى بعض الألمان، وأن دخول اليمين المتطرف البرلمان كشف «صدوعًا كبيرة وصغيرة» في المجتمع، يدفعه إلى العودة نحو النزعة القومية.
كانت القيم الأوروبية حاضرة وملحة بشكل دائم على لسان المستشارة الألمانية ميركل منذ بزوغ أزمة اللاجئين، منذ إقرارها عام 2015 سياسة «الباب المفتوح»، التي تسمح بقبول أعداد غير محدودة من طالبي اللجوء، الأمر الذي تحول قُبَيل انتخابات البوندشتاغ إلى حديث عن فقد الدولة سيطرتها على تدفقهم، وأن شعارها «أجوف وفارغ».
يقودنا هذا التبدل للنقيض إلى تساؤل عن إشكالية اصطدام القيم بالمصالح، خصوصًا مع اعتقاد بعض المراقبين أن سياسة ميركل تعبِّر عن المُثُل العليا لهويتها الدينية البروتستانتية، المتمثلة في التضحية بالذات، ولا يجب أن تترجَم إلى سياسة خارجية لدولة.
لم تكن ألمانيا البلد الوحيد الذي كشف ردود أفعاله اضطراب وتصدُّع القيم الأوروبية، التي كثيرًا ما يتفاخر بها قادتها باعتبارها النموذج المثالي الذي يجب أن تتبعه دول العالم، بل على العكس، هيمنت على أوروبا نزعة التجاهل والنأي عن المشاركة في حل الكارثة الإنسانية.
القيم والمبادئ، لا المصالح فقط
في كل مرة وُضعت أوروبا أمام اختبار القيم والمصالح، كانت اختياراتها مخالفة لرسالتها المعلَنة.
في العاصمة اليونانية أثينا، وبعد لقائه مع رئيس وزراء اليونان «أليكسيس تسيبراس» في فبراير 2016، حذر رئيس المجلس الأوروبي «دونالد توسك» طالبي اللجوء الباحثين عن فرص اقتصادية أفضل من المخاطرة بحياتهم وأموالهم للقدوم إلى أوروبا، وطالبهم بعدم تصديق مهربي البشر، وأن لا يعرضوا حياتهم للخطر في رحلة من أجل لا شيء، في رسالة واضحة لإثنائهم عن الهجرة.
جاءت زيارة دونالد توسك في سياق تقديم العون إلى اليونان، التي تستقبل ما يقرب من ألفي شخص يوميًّا هاربين من ويلات الحرب والعنف في سوريا والعراق، آملين في الوصول إلى ألمانيا أو دول أوروبية أخرى. تمثَّل هذا العون في إعلان الاتحاد الأوروبي تقديم معونة قدرها 700 مليون يورو، دون أي محاولة لإيجاد حل جذري لتجنب حدوث كارثة إنسانية للعالقين على حدود اليونان، ودون مواجهةٍ للأزمة تتسق فعلًا مع الكرامة الإنسانية.
قد يهمك أيضًا: رحلة ميركل لتخليص ألمانيا من اللاجئين
في 2017، ستكون المفارقة حين يلتقي توسك بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمرة الأولى، ويشدد على أن القيم الغربية الديمقراطية، مثل الحرية وحقوق الإنسان واحترام الكرامة الإنسانية، هي ما يعطي التعاون والصداقة مع الأمريكيين معنًى أعمق، وأن المهمة الأكبر لأوروبا والولايات المتحدة تدعيم العالم الحر بناءً على القيم والمبادئ، لا على المصالح المشتركة فقط.
لكن الشواهد من مختلف البلدان الأوروبية تدلنا على أنه في كل مرة وُضعت أوروبا أمام اختبار القيم والمصالح، كانت اختياراتها واضحة ومخالفة لرسالتها المعلَنة.
هل رسبت أوروبا في الامتحان؟
رئيس وزراء الدنمارك أكد أن بلاده لا ترغب في «تغيير العالم» باستقبال اللاجئين، وتريد مراجعة مصالحها القومية.
في الدنمارك، البلد الصغير الذي يبلغ تعداده قرابة 5.5 مليون نسمة، ويعتبره كثيرون قِبلة القيم الليبرالية، اتخذت الحكومة تدابير لمنع أصحاب تلك المآسي الإنسانية حتى من مجرد طلب اللجوء، إذ أطلقت حملة إعلانية مناهضة للاجيئن تحذرهم فيها، باللغة العربية، من القدوم إلى البلاد.
التساول هنا إذًا عن صحة الافتراض القائل إن الدنمارك دولة حريصة على دعم حقوق الإنسان، فالمشهور أن الدنمارك تؤمن بحكم القانون والدبلوماسية والتعددية الثقافية وحل النزاعات بطريقة سلمية، وتلتزم بواجباتها تجاه المجتمع الدولي بتخصيص 1% من إجمالي الناتج المحلي لمساعدات تنموية وإنسانية. لكن بعد الحرب الباردة، تبدلت سياستها الخارجية إلى النقيض، فشاركت عسكريًّا في حروب عدة في كوسوفو والبلقان وأفغانستان والعراق وسوريا وليبيا، وقلَّصت مساعداتها لتصل إلى 0.7% من إجمالي الناتج المحلي.
كان رد رئيس وزراء الدنمارك «لارس لوكه راسموسن» إزاء الكارثة الإنسانية للاجئين بأن بلاده لا ترغب في «تغيير العالم» بعد الآن، ويجب أن تراجع أولويات «مصالحها القومية»، طالبًا من اللاجئين النزوح إلى بلد قريب آمن.
أسهمت سياسات القيود في الدنمارك في انخفاض عدد طالبي اللجوء بشكل كبير مقارنةً بالدول المجاورة، مثل ألمانيا والسويد.
وفي المجر، جاءت السياسات المناهضة للاجئين أعنف، فرفض وزير الخارجية «بيتر زيجارتو» منذ البداية قرار محكمة العدل الأوروبية بشأن نظام الحصص الثابتة لاستقبال طالبي اللجوء على الدول الأوروبية كافة، وأكد أنه قرار يضع مستقبل أوروبا في خطر، و«يغتصب القانون والقيم الأوروبية».
جاءت «القيم الأوروبية» مرةً أخرى على لسان زيجارتو عندما سُئل عن الانتقادات التي تواجهه بسبب تصريحاته المناهضة للاجئين، فكان رده: «أعتقد أن الهجرة غير الشرعية تهديد أمني لأوروبا. يظن بعض الناس أنها مقبولة، ونحن لا نتبنى هذا الرأي. أما عن سؤال مدى إيماننا بالقيم الأوروبية، فأقول بالطبع نحن نؤمن بالقيم والقوانين الأوروبية، وليس من حق أحد توجيه مثل هذه الأسئلة إلينا».
رغم تأكيد وزير الخارجية المجري تمسك بلاده بالقيم الأوروبية، التقطت عدسات الكاميرا مشهدًا قاسيًا لأفراد من الشرطة المجرية تمنع مهاجرًا غير شرعي من عبور الأسلاك الشائكة على الحدود.
أسوار وأسياج وحواجز بُنيت في أرجاء أوروبا لصد تدفق المهاجرين غير الشرعيين، حتى أن ثماني دول من ضمن 26 أعادت حواجز التفتيش منذ سبتمبر 2015. ولم تُقلق الأسوار الدول الأوروبية من الناحية الإنسانية بقدر انشغالها بخسارة 18 مليار يورو في العام أو 0.13% من الإنتاج السنوي لمنطقة «شنغن»، وانحسار التجارة، وتدهور السياحة التي تجلب المليارات.
اقرأ أيضًا: الخريف الأوروبي: كيف يهدد اليورو وحدة القارة؟
حينما قررت الدول الأوروبية الاندماج سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، لم تكن الحدود الدولية أو الاختلافات الثقافية واللغوية حاجزًا، بل تفاخرت بكونها «معزوفة لموسيقى الجاز»، لكل آلة موسيقية دورها ومكانها الخاص، وتتداخل كلها لتستمتع بها آذان العالم، لأن التنوع هو ما يعطيها مذاقها المميز.
لكن تلك الصورة تلاشت، وتحولت شيئًا فشيًا إلى حواجز وأسلاك شائكة أمام اللاجئين، الذين هربوا من الموت السريع في بلادهم إلى موت بطيء في مراكز الإيواء.
القيم الأوروبية على المحك
تروج «فيديريكا موغيريني»، التي تشغل منصب الممثل الأعلى لسياسة الأمن والشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، مفهوم «البراغماتية ذات المبادئ»، ويعني هذا غض الطرف عن، بل والتعاون مع، أنظمة ديكتاتورية من أجل خدمة مصالح أوروبا الاستراتيجية، مما يؤثر سلبًا على مصداقية القيم التي يروج لها الاتحاد الأوروبي.
اقرأ أيضًا: هل تعيد أزمة اللاجئين السوريين تشكيل المجتمع التركي؟
خلال ندوة نظمتها مؤسسة «برونو كرايسكي» لحقوق الإنسان، ضمن القمة الخامسة لرؤساء دول إفريقيا وأوروبا، قال أحد المشاركين الأفارقة إنه «في الوقت الذي نطمح فيه إلى إرساء مبادئ الديمقراطية وحكم القانون في إفريقيا، تتخلى الدول الغربية عن هذه القيم بشكل كبير».
هذه الازدواجية في التعامل مع الأمور لا تؤثر فقط في خلخلة القيم الأوروبية باعتبارها قيمًا إنسانية شاملة، بل تتعدى ذلك إلى تشويش الرؤية السياسية، وتقييد الدور الفعلي للسياسة الخارجية للمؤسسات الأوروبية في الاتفاقات التجارية والمساعدات الإنسانية والتنموية وقضايا حقوق الإنسان.