يد خفية: كيف ساوى الحسد بين قبائل «البوشمن» في ناميبيا؟

الصورة: Getty\Hoberman Collection

دينا ظافر
نشر في 2018/05/12

تحظى الصفات الأنانية، مثل الحسد، بسمعة سيئة، فهي «خطايا مميتة»، أو «شوائب تعلق بالقلب»، إضافة إلى أن «بُغيتها تتناقض مع الإحسان الذي تستقي منه الروح حياتها»، وفق القس والفيلسوف الإيطالي «توما الأكويني».

كل الأديان تتوعد الحاسدين بسوء المنقلَب، لا خلاف.

رغم الضرر الاجتماعي الذي تتسبب فيه، فإن صور الحسد تملأ المجتمع، بل ووسائل التواصل الاجتماعي لدرجة خلقت فرص عمل جديدة للمعالجين النفسيين، وأوجدت مصطلحات تشخيصية جديدة، مثل «الحسد على فيسبوك».

يلعب الحسد دورًا أكبر بكثير مما قد نعترف به في تشكيل اختياراتنا وأفعالنا، ليس لأن الحسد كثيرًا ما يتخفى في صورة طموح، أو لأن كثيرين منا يربط قيمته الشخصية بتحقيق توقعات مستحيلة. السبب وراء أهمية الحسد أنه يلعب دورًا تطوريًّا مهمًّا ساعدنا في التوفيق بين هذه الصفة الأنانية والمخالطة الاجتماعية التي تعد حيوية لنجاح الجنس البشري.

لو حكمنا على نماذج بشرية تنتمي إلى القرن العشرين، وتعتمد على الصيد وجمع الثمار، سنجد الحسد واحدًا من مجموعة من الصفات التي ساعدت الجنس البشري على تكوين مجموعات اجتماعية قوية والحفاظ عليها، وهذا ما يستعرضه مقال نُشِرَ على موقع «Aeon».

قبائل البوشمن: مراجعة رؤى التطور الاجتماعي

يعيش في صحراء كالاهاري في ناميبيا مجتمع قبائل البوشمن، الأفضل في الصيد وجمع الثمار على هذا الكوكب، لكن لا أحد منهم بات يعتمد حصرًا على الصيد وجمع الثمار اليوم، فبعد نصف قرن من سياسات نزع الملكية وبرامج التنمية الاقتصادية حسنة المقصد التي أثبتت فشلها رغم ذلك، وعقد من الاحتلال العسكري، لم يعد ممكنًا لقبائل البوشمن أن تعيش بالطريقة التي عاش بها الأسلاف.

لم تمتلك قبائل البوشمن مؤسسات قيادية رسمية ولا هرمية، وتمتع الرجال والنساء بسلطات متساوية، ولا يُمنَح كبار السن أي مميزات.

يقول كاتب المقال إن الأبحاث التي تناولت أوضاع البوشمن في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، عندما كانوا يصطادون ويجمعون الثمار بحرية، أثبتت خطأ عدد من الرؤى الخاصة بالتطور الاجتماعي، فحتى ذلك الحين ساد اعتقاد بأن هذه القبائل عاشت في حرب ضد الجوع، وأن مجيء الزراعة هو الذي حررها من قهر الطبيعة.

لكن في 1964 أجرى عالم الأنثروبولوجيا «ريتشارد بورشاي لي» سلسلة بسيطة من تحليلات المُدخلات والمُخرجات الاقتصادية التي تناول فيها البوشمن بالدراسة، فوجد أن الصيد وجمع الثمار وفَّر لهم رزقًا وتغذية جيدة وسعادة. والأكثر من ذلك أنهم حققوا هذه الأهداف من خلال العمل لنحو 15 ساعة أسبوعيًّا فقط. وبناء على هذا التحليل أسماهم عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي «مارشال سالينز» في كتابه «Stone Age Economics» الصادر في 1972: «مجتمع الرَّغَد الأصلي».

أظهر هذا البحث أيضًا أن البوشمن استطاعوا أن يوفروا حياة كريمة من خلال استغلال بيئة شحيحة الموارد، لأنهم لم يعبأوا بالملكية الخاصة، وكانوا، وهذا هو الأهم، يطبقون المساواة بحزم.  لم يمتلك هذا المجتمع مؤسسات قيادية رسمية، ولا هرمية، وتمتع الرجال والنساء بسلطات صناعة قرار متساوية، ولعب الأطفال ألعابًا غير تنافسية في مجموعات من أعمار مختلفة، ولم يُمنَح كبار السن أي مميزات أو وضع خاص، رغم أنهم كانوا يُعامَلون بحب كبير وفق كاتب المقال.

أظهر البحث كذلك أن تطبيق هذا المجتمع مساواة صارمة جعل الجميع لا يبالي بجمع الأموال، وسمح للموارد المحدودة بالتدفق بشكل عضوي، فضمن حصول الجميع على ما يكفيه في الأوقات الموسمية التي تشح فيها الموارد.

التاريخ والعلم يثبتان نجاح البوشمن

الصورة: hbieser

لا شك أن هذه الديناميكية كانت فعالة جدًّا. فلو حكمنا على المجتمعات عن طريق قدرتها على التحمل، لكان هذا المجتمع هو الأكثر نجاحًا في تاريخ البشرية دون منازع، بحسب الكاتب.

تقترح تحليلات الجينوم الجديدة أن هذا المجتمع وأجداده عاشوا بشكل مستمر في المناطق الجنوبية من إفريقيا عقب استقرار الجنس البشري هناك بوقت قليل، منذ نحو 200 ألف عام. وتشير كشوف أثرية حديثة في مناطق إفريقيا الجنوبية إلى أن عناصر أساسية من الثقافة المادية لهذا المجتمع تمتد إلى ما لا يقل عن 70 ألف سنة أو أكثر.

توضح تحليلات معدل طفرة الجينوم أن المجموعة السكانية الأكبر التي انحدر منها البوشمن لم يشكِّلوا أكبر مجتمع سكاني من الجنس البشري فقط، بل أيضًا لم يعانوا من انخفاضات سكانية مثل غيرهم من السكان خلال المئة ألف سنة الماضية.

لو عرفنا أن مجتمعات أخرى اعتمدت على الصيد وجمع الثمار في الكونغو والفلبين كانوا يطبقون نفس المساواة الصارمة وفق معلومات موثَّقة، فإن هذا يقترح أن أسلاف قبائل البوشمن المباشرين كانوا بشكل شبه أكيد يعتمدون المساواة الحازمة أيضًا.

مساواة مدفوعة بالخوف من الحسد

الصورة: South African Tourism

اعتزاز البوشمن باللحم يعني أن الصيادين قد يرون أنفسهم أعلى شأنًا من الآخرين، ما قد يكسر التوازن الدقيق الذي يحقق المساواة.

لم تكن مساواة قبائل البوشمن نابعة من دوغما أيديولوجية مرتبطة بماركسية القرن الواحد والعشرين، أو المثالية الحالمة للمشاعية (المرحلة الأولى للتطور البشري التي كانت فيها الأرض مشاعة للجميع، والتي بدأت تتلاشى عند اكتشاف الزراعة).

ولم تكن هذه صورة من صور الشيوعية البدائية كذلك. كانت حياة البوشمن النتاج العضوي لتفاعلات بين أشخاص يتصرفون بوضوح لتحقيق منفعتهم الخاصة في مجتمع شديد الأنانية.

كان تحقيق المنفعة الشخصية يلجمه الوجه الآخر له، وهو الحسد، الذي ضَمِن حصول الجميع على النصيب العادل، وكذلك مَكَّنَ من يتمتعون بكاريزما طبيعية وسلطة للقيادة من أن يمارسوا سلطتهم بحذر كبير. وكان المثال الأوضح على هذا هو تقليد «إهانة» لحم الصائد.

بينما كان يُفترض أن يكون الحصول على صيد ثمين سببًا للاحتفال، كان الصياد يتعرض للشتم بدلًا من المديح. وبغض النظر عن حجم الذبيحة أو حالتها، كان من يمتلكون حقًّا في نصيب من الذبيحة يشكون ضآلة حجمها، أو أنها لا تستحق عناء العودة بها إلى المخيم، أو أن كميتها لن تكفي الجميع عند التوزيع. ولهذا، كان يُنتظر من الصياد أن يقدم صيده بأسلوب اعتذاري.

بالطبع كان الجميع يعرفون الفرق بين ذبيحة هزيلة وأخرى قيِّمة، لكنهم كانوا لا يتوقفون عن رشق الصياد بالسباب بينما يملؤون بطونهم بلحم صيده.

نادرًا ما كان الصيادون يأخذون الشتائم على محمل الجد، أما من كانوا يطلقون السباب، فعادة ما كانوا يفعلون ذلك وعلى وجوههم ابتسامات عريضة، وفق الكاتب. يكون هذا المشهد بمثابة عرض يلعب كل من فيه دوره باقتدار، إلا أنه عرض ذو هدف واضح، فتحت هذا الستار من السباب المازح يقبع غضب حاد قد ينقلب شرًّا.

كان اللحم خصوصًا، وأكثر من غيره من أنواع الطعام، قادرًا على أن يجعل قبائل البوشمن ينسون أخلاقهم الحميدة، لذا تطلَّب توزيعه قدرًا إضافيًّا من الحذر. هذا الاعتزاز باللحم كان يعني أيضًا أن الصيادين الأكثر مهارة أو نشاطًا قد يرون الآخرين مدينين لهم بالعرفان، ما قد يكسر التوازن الدقيق الذي يحقق المساواة ويحافظ على روابط الأقرباء. ضَمِنَ توجيه السباب ألا يحققوا نجاحًا كبيرًا في الصيد يجعلهم يعتقدون أنهم أكثر أهميةً من غيرهم، كحال مجتمعات الصيد.

في كتابه «The Dobe Ju/ Hoansi» يصف ريتشارد لي هذا المشهد على لسان أحد أفراد البوشمن: «حين يَقتل شاب كثيرًا من الطرائد، يعتقد أنه أصبح رئيسًا أو رجلًا ذا شأن، ويعتقد أننا خَدَمُه أو أقل منه. لا يمكننا أن نقبل هذا، ولهذا نظل نقول إن ذبيحته لا قيمة لها. بهذه الطريقة نبرِّد قلبه، ونجعله أكثر رقة».

لم يكن هذا السلوك الذي يدفع إلى التواضع مقتصرًا على الصيد، فأي شخص يتفاخر، أو يصيبه العجب بشيء يمتلكه، كان يواجه نفس رد الفعل. أي شخص يراه الآخرون أنانيًّا لحيازته التبغ أو الطعام كان لا بد أن يتوقع نفس السيل من السباب. وهذا ما خلق أجواء التناغم وفق الكاتب.

يوضح كاتب المقال، وهو عالم أنثروبولوجيا أيضًا، أنه حين بحث الأسباب التي جعلت البوشمن يسارعون في الانتقاد والسخرية، كان يجد نفس الأجوبة التي تُذكِّر علماء الأنثروبولوجيا بأن العادات الثقافية «عادات» لأنها مقبولة دون تشكيك، ولأنها تقدم نفسها باعتبارها طبيعية وحتمية. في كل مرة كان يسأل عن سبب السخرية، كانت الإجابات تُحيل هذا السلوك إلى الخوف من مشاعر «الحسد»، تمامًا مثلما كان التواضع الذي يُظهره الصيادون يُحال إلى «الخجل». «هكذا نحن»، كانت دائمًا الإجابة التي يتلقاها.

كان الجميع يتفحص حياة الآخرين كل الوقت، وكان هذا سهلًا لأن كل مظاهر الحياة الاجتماعية تمارَس في العلن. الجميع يلحظ ما يأكله الآخرون، وما يمتلكونه، وما يتلقونه، وما يعطونه من هدايا. ومعظم الوقت كان الجميع يبذل جهدًا كي لا يُتَّهَم بإظهار أنانية أو غرور، وقد خلق هذا جوًّا من التناغم.

لم تكن الشتائم والسخرية الأداة الوحيدة التي استُخدمت للحفاظ على المساواة. هناك وسيلة أخرى ترتبط بالتعبير عن الحسد، وهي «تقاسم الطلب»، ففي الوقت الذي نرى فيه أن طلب الآخرين لشيء نمتلكه، أو توقعهم الحصول عليه دون استحياء، من قبيل سوء الأدب، ترى قبائل البوشمن ذلك أمرًا طبيعيًّا. الأكثر من ذلك أن رفضهم طلبًا من هذا القبيل قد يعد شكلًا من الأنانية.

لم يؤدِّ هذا السلوك إلى حرية طلب مفتوحة لا تحكمها أي قيود بشكل يفسد الإحساس بالملكية الخاصة، على العكس، فقد كانت الطلبات عادة، وإن لم يكن دائمًا، تخضع لتفكير متأنٍّ. والنتيجة أن صور انعدام المساواة المادية زالت سريعًا.

الحسد: يد اقتصاد البوشمن الخفية

الصورة: Panasonic DMC-Gh3

كيفية عمل «الحسد» تقترح أن مجموع المصالح الفردية يمكن أن تضمن أكثر توزيع عادل لـ«ضروريات الحياة» في المجتمعات القبلية.

كان الحسد «اليد الخفية» لاقتصاد البوشمن، لكنه تجلى في صورة السخرية وتقاسم الطلبات.

هذه اليد الخفية كانت تعمل بطريقة مختلفة عن اليد الخفية التي تخيلها عالم الاقتصاد «آدم سميث» في كتابه «The Wealth of Nations» الصادر في 1776. ففي نظر سميث، يسعى الإنسان لتحقيق مكسبه الخاص فقط، لكنه حين يفعل ذلك ترشده «يد خفية» إلى هدف لم يكن جزءًا من نيته، وهذا يحقق مصلحة المجتمع بشكل أفضل مما لو انتواه الإنسان. اعتقد سميث أن التجارة والأعمال التي تهدف إلى الإثراء الشخصي، ولا يخضع تنظيمها لتدخل، تضمن أكثر صور «توزيع ضروريات الحياة» عدالة وفعالية.

حتى لو كانت اليد الخفية ما زالت تحظى باحترام بعض الناس، فإن قلة قليلة من الاقتصاديين تدافع عن تطبيق نظرية سميث بصرامة. بل إن الأكيد أن سميث نفسه كان ليكون من أوائل الذين يعترفون بأن المشهد الاقتصادي المعاصر، بأدواته الاستثمارية المعقدة وقيم أصوله الآخذة في التضخم، يختلف كثيرًا عن مشهد «الباعة والتجار» السائد حين تخيل الفوائد غير المقصودة للتجارة التي يحكمها تحقيق المصلحة الشخصية، بحسب الكاتب.

ما يثير السخرية رغم هذا أن كيفية عمل «الحسد» في مجتمعات مثل البوشمن تقترح أن اعتقاد سميث بأن مجموع المصالح الفردية يمكن أن يضمن أكثر توزيع عادل لـ«ضروريات الحياة» كان صحيحًا في المجتمعات القبلية الصغيرة، حتى وإن لم يكن مفهوم اليد الخفية ينطبق بشكل تام على الرأسمالية الحديثة.

بالنسبة إلى مجتمع الصيادين وجامعي الثمار، كان مجموع المصالح الفردية يضمن أفضل توزيع لضروريات الحياة لأنه لم يشجع التبادل المربح والتراتبية وجمع الثروات، وصور انعدام المساواة المادية الصارخة.

رغم فوائده، الحسد يهدد الحياة الاجتماعية

تسليط الضوء على الدور الواضح الذي يلعبه الحسد في حياة البوشمن قد يعطي انطباعًا بأنه مجتمع مترصد من دعاة المساواة، وهو انطباع سينفيه أي من ينتمي إلى تلك القبائل الذين تتسم حياتها اليومية بالبشاشة والعاطفة المتبادلة.

وبينما لا تكافئ المساواة كسلوك، فإن أعضاء قبائل البوشمن واعون بالفوائد العاطفية الإيجابية والاجتماعية التي تجلبها المشاركة والتعاون والتناغم، إضافة إلى الانتماء. وحتى لو كان تركيز علماء الأنثروبولوجيا مُنصبًّا على الفوائد المادية للمساواة التي خلقت شبكات تساعد الناس في حالات تعرضهم للخطر المادي، فإن هناك أدلة على أن الفوائد النفسية للروابط العاطفية التي ربطتهم كانت اعتبارًا ذا أهمية أكبر.

ما زال الحسد مسؤولًا عن معظم النزاعات التي تنشب بين أفراد البوشمن في هذا العصر، الذي زادت فيه مظاهر انعدام المساواة أكثر من أي وقت مضى، لأن بعضهم لديه مهن أو يحصل على موارد، مثل المعاشات، ليس لآخرين حق فيها. الحسد يقبع مترصدًا في الظلام ليهدد الحياة الاجتماعية، ويُذكِّر الجميع بوجوده حين تنشب المشاحنات.

وكي ينحُّوا الحسد والغيرة جانبًا، يؤكد البوشمن أهمية الأخلاق الحميدة والتواضع، ويبذلون جهدًا لتجنب خلق مشاعر الحقد لدى الآخرين.

لماذا صار انعدام المساواة وقودًا أقوى للفعل السياسي، بل أشد من الفقر نفسه؟

بقدر ما ساعدت المساواة الصارمة البوشمن وأسلافهم، فإنها تمثل اليوم تحديًا. فهم حاليًّا أفقر مجتمعات ناميبيا العِرقية وأكثرها تهميشًا. ورغم هذا فهم لا يرتاحون إلى رفع أقرانهم إلى مراكز القيادة، وحتى من يُنصَّبون قادةً، كثيرًا ما يقبلون القيادة كارهين، لعلمهم أنهم سيخضعون للتمحيص أو النقد العنيف. والنتيجة أنهم ضعيفو التمثيل في مؤسسات الدولة، ما يجعل مصالحهم متجاهَلة.

وبشكل مماثل، فإن كثيرًا من البوشمن الذين باتوا يعتمدون على الاقتصاد النقدي كعمالة رخيصة بشكل أساسي، بكل ما تعنيه من تراتبية وظيفية وأنظمة إدارية، يكرهون قبول الوظائف الإدارية أو تقبل مسؤولية تتطلب اتخاذ قرارات وفرضها على الآخرين.

إذا كان الحسد قد لعب دورًا بناءً في مجتمعات قَبلية صغيرة مثل البوشمن، فمن الصعب إثبات أن له نفس الفائدة في مجتمعات أكثر تعقيدًا وتراتبية. الأكيد أن المشاعر تلعب دورًا مهمًّا في تشكيل اختياراتنا الاقتصادية وانتماءاتنا السياسية.

فهم دور الحسد مهم لأغراض تحليلية

فهم الدور الذي يلعبه الحسد في زيادة ترابط المجتمعات القبلية مهم لأغراض تحليلية. هذا الفهم قد يوضح لنا سبب استمرار هذه الخصلة السيئة التي لم تقهرها عملية الانتقاء الطبيعي (من آليات التطور)، ويذكِّرنا بأن إحساسنا بالعدالة له جانب جيني قوي بشكل شبه أكيد.

الأهم أن هذا الفهم يساعدنا في الوقوف على الأسباب التي تجعل انعدام المساواة وقودًا أقوى للفعل السياسي، بل أشد من الفقر نفسه، وكذلك على الأسباب التي تجعل مظاهر الإثراء الصارخة دافعًا لغضب أفراد الطبقة المتوسطة، وأسباب نجاح الغوغائيين حين يصورون أنفسهم باعتبارهم أعداء «الصفوة».

انعدام المساواة هو الشغل الشاغل لديمقراطيات أوروبا والولايات المتحدة، فتفاقم صور انعدام المساواة موضوع تحليلات قادها بعض من المستنيرين في عالم الاقتصاد المعاصر.

يقول كاتب المقال إن مظاهر انعدام المساواة لم تكن شاخصة في وجوهنا كما هي الآن، حتى وإن لم تكن الهوة بين الأغنياء والفقراء قد اتسعت بالقدر الكبير الذي حدث في الثمانينيات.

تملأ مظاهر التفاخر والتباهي البرامج ووسائل التواصل الاجتماعي، وهذا الوضع يخلق الكراهية التي تشعل الثورات، وفق ما يقوله التاريخ.

وبينما فشل تطبيق الشيوعية على النطاق الأوسع كوسيلة لتحقيق المساواة، فمن الممكن أن توفر التكنولوجيا المحرك لذلك الوعي بالذات المقترن بالحسد، الذي حافظ على المساواة الصارمة التي تميزت بها مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار، والتي ضمنت ازدهارهم لفترة طويلة جدًّا.

مواضيع مشابهة