الدقائق التي انتظر فيها الممثل الأمريكي «جون ترافولتا» (John Travolta) احتلال رقصته بفيلم «حُمَّى ليلة السبت» (Saturday Night Fever) سينمات العالم، هي الدقائق التي قامر فيها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، في خطوة راقصة، بإعلان نيته لسلام دائم مع إسرائيل من قلب الكنيست، وهي نفسها الدقائق التي حصدت فيها أغنية «لا تبكي من أجلي يا أرجنتين» (Don't Cry for Me Argentina) لـ«جولي كوفينغتون» (Julie Covington) شهرةً عالميةً رشحتها للفوز بجوائز عدة.
تلك الدقائق الراقصة من عام1977 ربما كانت مختلفة بالنسبة للنقيب «أدولفو» وزملائه في سلاح البحرية الأرجنتيني؛ فقد كان عليهم في هذا التوقيت التخلص من معتقلين مكبَّلين عراة في المروحيَّة بإلقائهم في المحيط الأطلنطي، إذ قررت القيادات الاستغناء عن خدمات نهر «بارانا» الذي بدأ يلفظ الجثث على ضفافه فاضحًا المهمة.
كان هؤلاء الموثَّقون، قبل إلقائهم، مواطنين أرجنتينيين محسوبين في عداد «المختفين قسرًا».
شارك «أدولفو» في قتل أكثر من 30 مواطنًا أرجنتينيًّا؛ بإلقائهم أحياء من الطائرات المروحيَّة في نهري «بلاتا» و«بارانا» والمحيط الأطلنطي.
وكما تقول تصريحات «أدولفو» السابقة، ارتاب ضابط مبتدئ لم يعرف تفاصيل المهمة التي خرج بصددها على متن المروحيَّة، وكان على «أدولفو»، الضابط الثلاثيني الأكبر سنًّا ورتبة، أن يهدئ من مخاوفه. حاول الاقتراب منه بخطوة مباغتة، كما لو أنها رقصة «تانغو» فوق السحاب، حتى لا يلامس أجساد المعتقلين المثقَّلة أرجلهم بخزانات إسمنتية، وعلى وشك أن يُلقَى بهم.
كان يشعر بالتردد أيضًا، سعى للوصول إلى الضابط قبل أن يحاول أحد المكبلين شبه المخدرين منعهم من إلقائه، لينزلق جسد «أدولفو» من فتحة الطائرة ويكاد يسقط في الأطلنطي لولا أن زميله، بخطوة راقصة أخرى، سحبه من الموت الذي أمرت به القيادات لهؤلاء المعتقلين وليس له، لحظتها أدرك، بحسب ما صرَّح، أنهم «يقتلون بشرًا».
لا تنظروا إلى السماء يا أطفال
وفقًا لما أدلى به من تصريحات للصحافة الأرجنتينية مطلع تسعينات القرن الماضي، فإن النقيب في سلاح البحرية الأرجنتيني السابق، «أدولفو فرانشيسكو سيلينغو» (Adolfo Francisco Scilingo)، شارك في قتل أكثر من ثلاثين مواطنًا أرجنتينيًّا؛ بإلقائهم أحياء من المروحيَّات في نهري «بلاتا» (Río de la Plata) و«بارانا» (Paraná) والمحيط الأطلنطي.
كان هذا ضمن ظاهرة «الاختفاء القسري» التي اختبرها المجتمع الأرجنتيني منتصف السبعينات.
اختطاف آلاف الرجال والنساء والأطفال، لأسباب سياسية دون محاكمة، كانت ممارسات اعتادتها السلطة العسكرية الحاكمة منذ 1976 حتى 1982، قرابة ثلاثين ألف مواطن أرجنتيني اختفوا قسرًا في أثناء حكم الجنرال «خورخي رافاييل فيديلا» (Jorge Rafael Videla).
مِن بين هؤلاء المختفين مَن تخلصوا منه رميًا بالرصاص أو تفجيرًا، أو بالإلقاء حيًّا في المحيط الأطلنطي وأنهار أمريكا اللاتينية، بعد تخديرهم بمعرفة طبيب عسكري وتجريدهم من ملابسهم وربط أقدامهم بالإسمنت وأيديهم بالأسلاك، وفقًا للتحقيقات اللاحقة التي أجرتها السلطات القضائية الأرجنتينية ولجان التحقيق الوطنية ومنظمات المجتمع المدني عقب سقوط النظام العسكري.
في دلتا نهر «بارانا» شرق الأرجنتين، الذي يلتحم بنهر الفضة «بلاتا» ليصب الاثنان في المحيط الأطلنطي، لا يتعدى صخب القرى الزراعية على ضفاف النهر هناك أغاني «كارلوس غارديل» (Carlos Gardel) في أمسيات ريفية بسيطة، وقليل من النبيذ ورقصتي «تانغو»، لكن السكان بدأوا يشاهدون مروحيات الجيش الخضراء تحلق فوق بيوتهم نهاية السبعينات.
تابع الآباء والأمهات والأطفال الطائرات تُسقط «حِزمًا» واحدة تلو الأخرى. ووفقًا لشهادات سكان الدلتا، فإن هذه العملية كانت تُجرى مرتين أسبوعيًّا.
بدا الأمر كما لو أن السماء تمطر مختفين قسرًا يتحولون في لحظات إلى موتى.
في بادئ الأمر، لم يعرف السكان ماهية الحِزم التي تسقط بسرعة نتيجة ربطها بالثقل الإسمنتي، حتى بدأ النهر يكشف لهم عن الجثث. ظهرت في كل مكان على ضفاف نهري «بلاتا» و«بارانا»، وحتى شواطئ الأطلنطي في منتجعات دولة الأوروغواي المجاورة.
كان سكان القرى يذهبون ناحية النهر ليروا جثثًا لأشخاص مقيدين من أيديهم بأسلاك ومن أرجلهم بالإسمنت، كي يضمن من ألقوهم ألا تطفو الأبدان الميتة إلى السطح، وفي بعض الأحيان كانت بعض الجثث تَعلَق خلال إلقائها بين الأشجار.
حين أبلغ السكان السلطات لم تعرهم انتباهًا، وحين كرروا نداءهم هددوهم بالمصير نفسه إن لم يكفوا عن الحديث، فاكتفوا، في بعض الأحيان، بدفن عدد من الجثث كي لا تبقى على ضفاف النهر.
بعدها صار الأطفال ممنوعين من مشاهدة السماء. كان الأهالي يضعون أيديهم على عيون أبنائهم إذا مرت إحدى تلك الطائرات التي تلقي بالأحياء في النهر أو المحيط، وبدا الأمر كما لو أن السماء تمطر مختفين قسرًا يتحولون في لحظات إلى موتى.
كيف تُخفي جريمتك؟
في العام 1978 كان كوكب الأرض يضج بالاحتجاجات، حصاد ما أنتجه مهرجان «وودستوك» للعالم في 1969 من هلوسات واقع بديل لا تحتاج فيه البشرية لهذا الكم من الحروب والنزاعات.
في يناير، فرَّق الجيش الإيراني تظاهرات لطلبة وزعماء دينيين ضد سياسات الشاه، اتسعت رقعتها لتتحول بعد عام واحد إلى ثورة. وفي تونس، اشتعلت تظاهرات نقابية ضد السياسات الاقتصادية التي اعتمدها الرئيس بورقيبة. سكان أمريكا الأصليون (يُطلق عليهم خطأ الهنود الحمر) نظموا مسيرة من ولاية سان فرانسيسكو إلى العاصمة واشنطن؛ لمنع الكونغرس من تمرير قوانين تمنعهم حقوقهم في عدد من المحميات الطبيعية في نيويورك وماين.
أما في الأرجنتين، فـكانت نهائيات كأس العالم لكرة القدم تُقام بينما تعج مراكز الأمن السرية بالمختفين قسرًا، ووقتها حرص النظام على التخلص من مظاهر انتهاك حقوق الإنسان؛ كي لا يتسرب أي منها إلى وسائل الإعلام التي وصلت بوينس آيرس لتغطية الحدث الرياضي الأكثر متابعة عالميًّا.
ضباط الجيش الأعلى رتبة كانوا يقولون إن عمليات القتل تستهدف مخربين وشيوعيين وإرهابيين، وإنها «مباركة» كحرب الكنيسة ضد الهراطقة في الحقب السابقة.
كان على النظام أن يتخلص من أعداد هائلة من المعتقلين السياسيين المختفين قسرًا المكدسين في مراكز الأمن. بدا أن المحيط الأطلنطي هو الوسيلة الأسرع لابتلاع الذاكرة، وبالفعل زاد عدد الطلعات الجوية للطائرات المحملة بـ«المختفين» حتى وصلت إلى خمس أسبوعيًّا، ولاحظ سكان القرى ارتفاع عدد «الحِزَم» التي تُلقى من السماء إلى عشرين شخصًا في الطلعة الواحدة.
في ذلك الوقت، كان النقيب «أدولفو سيلينغو» قد كرر مهمة إلقاء المختفين من المروحيات مرتين، بحسب تصريحاته السابقة، وبعدها بدأت تهاجمه نوبات من الخوف.
في المرة الأولى عاد إلى بيته وجَرَعَ كأسين من الويسكي ثم نام، غير أنه بعد المرة الثانية التي عُهد إليه فيها بإلقاء 17 شخصًا كانوا حتى لحظتها في عداد المختفين قسرًا؛ تحدث إلى قِسٍّ مُعين في الجيش الأرجنتيني، فرد عليه بأن «عمليات القتل التي يقوم بها ضرورية حتى يُفصَل الصالح من الطالح».
ويقول «أدولفو» إن ضباط الجيش الأعلى رتبة كانوا يخبرونهم أن عمليات القتل تستهدف مخربين وشيوعيين وإرهابيين، وأنها «مباركة» كحرب الكنيسة ضد الهراطقة في الحقب السابقة.
قد يعجبك أيضًا: الوصفة الصينية لترويج القمع
الحرب «المباركة» ضد الإرهاب
اتهم قطاع من المجتمع المدني الأرجنتيني والمنظمات المحلية المعنية بمصير «المختفين»، إبان الحكم العسكري، الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بالموافقة على جرائم النظام العسكري تحت حكم «فيديلا» وغض الطرف عنه، وردت الكنيسة بأنها أرسلت خطابات لجنرالات الجيش وقتها للاستعلام بشأن مصير المعتقلين السياسيين والمختفين قسرًا ولم يأتها رد، وأن عددًا من الكهنة كانوا ضحايا الاحتجاز والتعذيب والقتل من قِبَل السلطة العسكرية.
وحين سُئل الرئيس الأرجنتيني وقتها، «رافاييل فيدلا»، من أحد الصحفيين بشأن ما إذا كانت الحكومة تعتزم اتخاذ إجراءات تتعلق بالمختفين قسرًا، أجاب: «ليس بإمكاننا تنفيذ أي إجراءات خاصة طالما هم مختفون. إنهم علامات استفهام، غير موجودين، لا هُويَّة لهم ولا وجود، ليسوا أحياء ولا أمواتًا، إنهم ببساطة مختفون».
النقيب «أدولفو» في بادئ الأمر كان يؤمن أنه يقتل «أسرى حرب»، بحسب ما أبلغته القيادات العسكرية، وأن هؤلاء المعتقلين كانوا مخربين يمثلون خطرًا على استقرار الوطن.
هذا الاستقرار كان دافعًا في الأصل لتدخل الجيش في المشهد السياسي لـ«بسط السيطرة»، بحسب ما أُعلن بعد الانقلاب العسكري على «إيزابيل دي بيرون» (Isabel Martínez de Perón) عام 1976، التي اختبرت الأرجنتين في فترة حكمها حالة من عدم الاستقرار السياسي؛ فتنازعت مجموعات يسارية على الوصول للحكم، ومارست بعض التنظيمات التفخيخ والاختطاف في شوارع بوينس آيرس.
وفي دولة تمنح للمؤسسة العسكرية صلاحيات كثيرة في المجتمع، تحرك الجيش الأرجنتيني بقيادة الجنرال «خورخي رافاييل فيديلا» ليقصف القصر الرئاسي بالدبابات، ويعلن«العملية الوطنية لإعادة النظام»، وينصِّب نفسه رئيسًا للبلاد.
عمل النظام العسكري الجديد في البدء على اعتقال كل خصومه السياسيين وإخفائهم، وطالت هذه الإجراءات عددًا من الصحفيين والكُتَّاب، ثم بات كل من يتحدث في الشؤون السياسية مُعَرَّضًا، أو ذويه، للإخفاء القسري.
استمر الوضع حتى عام 1983، حين خسر الجيش معركته مع بريطانيا في السيطرة على جزر فوكلاند جنوب الأرجنتين، وبعدها انتُخب المحامي «راؤول ألفونسين» (Raúl Alfonsín) لرئاسة البلاد، بعد فشل المؤسسة العسكرية في إدارة الاقتصاد وخسارتها ثقة الشعب.
عمل «ألفونسين» على تقليص صلاحيات الجيش في الشؤون السياسية والاقتصادية، ثم شكَّل لجنة لبحث الاختفاء القسري الذي وقع في عهد الحكم العسكري وتوثيقه، ونتيجةً لما كشفته اللجنة؛ تمكن أهالي المختفين قسريًّا من معرفة مصير ذويهم للمرة الأولى منذ سنوات.
ورغم التوتر في صفوف الجيش بعد هذه الإجراءات، وتظاهر كثير من مناصري الحكم العسكري في الشوارع مطالبين بعودته، أُحيل عدد من قادة الجيش للمحاكمة لأول مرة في إبريل 1985، وصدرت بحقهم في ديسمبر من العام نفسه أحكام مشددة بين السجن مدى الحياة والسجن 17 عامًا، وعلى رأسهم الجنرال «رافييل فيدلا»، الرئيس السابق، بتهم تتعلق بالتصفية السياسية والتعذيب والقتل خارج القانون وإخفاء آلاف المواطنين.
اقرأ أيضًا: الفرار من الربيع العربي: تجارب الجزائر وعمان والأردن
حق متأخر
في شهادات لاحقة لضباط بالجيش الأرجنتيني، قال هؤلاء إن «أغلب المعتقلين في الطائرات كانوا يشعرون بالإعياء من شدة التعذيب الذي لاقوه في مراكز الأمن، ولم يكونوا يدركون أنهم على وشك أن يُلقى بهم بعد لحظات في المحيط أو النهر».
وتضيف التقارير الصحفية الأرجنتينية أن ما بات يُعرف بـ«رحلات الموت»، التي نفذها ضباط في الجيش الأرجنتيني بحق مواطنين اختفوا قبلها قسرًا، لا يزال محل التحقيق حتى اليوم، وأن هذه العمليات أودت بحياة الآلاف ما بين 1976 و1981، بحسب جهات التحقيق الأرجنتينية.
وحتى يومنا هذا، ينقِّب فريق من علماء الأنثروبولوجيا في الأرجنتين ضمن مناطق عديدة؛ للتعرف على جثث الضحايا الذين تمت تصفيتهم خارج القانون إبان الحكم العسكري.
ويعمل الفريق بالتنسيق مع عدد من المنظمات المحلية التي أنشأها ذوو المختفين قسرًا، وتوصل حتى عام 2014 إلى تحديد هوية 600 جثة أُلقي القبض على أصحابها في الفترة من 1976 إلى 1981 من بيوتهم أو مقار أعمالهم أو في الشارع، ثم اختفوا قسريًّا لفترة طويلة.
حين أدلى «أدولفو» باعترافاته للصحافة الأرجنتينية في التسعينات، في خطوة راقصة كالتي كادت تودي بحياته في المروحيَّة، أكد أنه لم يكن له دور في اتخاذ قرارات التصفية وإلقاء المحتجزين من الطائرات: «كنت أنفذ الأوامر، كانوا يقولون لنا نحن في حالة حرب».
لكن الضابط السابق يؤكد أن هذه الأوامر دمرت حياته، أصبح يعيش على المنومات والخمر، لم يستطع الجلوس في مكان دون أن تكون به ضوضاء تشتت ذاكرته، التي ربما تحوي محتجزين يُلقَون أحياء في المحيط.
كان الاقتراب من حافة الجنون وطلب الاستدعاء من المحكمة الإسبانية ما دفعه للسفر إلى مدريد في 1997 للاعتراف أمام جهات تحقق في موت مواطنين إسبان بالأرجنتين تحت الحكم العسكري. أدلى «أدولفو» بشهادته بشأن «رحلات الموت» وعمليات التعذيب التي كانت تقع في كلية بوينس آيرس العسكرية لسلاح المهندسين، والتي كانت تُستخدم مقرًا للاحتجاز.
وفي عام 2005، كان «أدولفو» على مشارف الستين من عمره، غير قادرٍ على أداء خطوة راقصة أخرى، حين حُكم عليه بالسجن 640 عامًا لارتكابه جرائم ضد الإنسانية. وفي قاعة المحكمة صرخ أحد ذوي المختفين قسرًا في وجهه: «تعفَّن في السجن يا قاتل».
حقًّا، تحفل هذه الحياة بعبث لا يفنى.