تتعاقب السنوات على حانة «هالجيان»، التي تقع على شارع رئيسي في منطقة وسط القاهرة، كتعاقب زبائنها عليها. لا يختلف الحال سوى في شهر رمضان، حين تغلق الحانة أبوابها طوال أيامه، ككل بارات الجمهورية، باعتباره شهرًا مقدَّسًا لدى القطاع الأكبر من المصريين، الذين ينقطعون فيه عن الشرب وأمور أخرى.
يستغل جمال، أقدم ساقٍ أو «بارمان» في المكان، رمضان لمتابعة أعمال الطلاء والتجديد حتى يستقبل البار زبائنه بعد انتهاء الشهر بطَلَّة جديدة. أما هذا العام، فسيكتفي «هالجيان» ببضعة تغييرات بسيطة في أماكن المقاعد والطاولات، فأسعار الأدوات اللازمة لتجديد المكان في ارتفاع متواصل، ويبدو أن الشُّرب في البار تأثر بوضوح في السنتين السابقتين بسبب الأزمة الاقتصادية.
ارتفاع سعر الزجاجة
في وسط القاهرة، يستطيع المرء الحصول على قسط من الانفصال عن صخب شوارعها في أيٍّ من باراتها القديمة بجدرانها الخشبية وسقوفها العالية، التي حصلت على رخصتها في بدايات القرن العشرين في مبانٍ سكنية قديمة.
أبرز هذه البارات «كاب دور» و«هالجيان» و«ستلا» و«جامايكا»، إضافة إلى عدد من الحانات التي تكتفي بوضع لافتة إعلانية شبه متوارية عن الأنظار لمشروب البيرة الأشهر في مصر، وهي البارات التي ترتادها في أغلب الأحيان الطبقة المتوسطة وتحت المتوسطة من الموظفين القدامى والتجار وبعض حاملي الجنسيات الأجنبية.
على العكس، تحافظ أماكن أخرى على النسق البرجوازي لطابعها مثل «الجريون» و«إستوريل» و«كارلتون»، التي تُعَدُّ في المقام الأول مطاعم سياحية. وفي المناطق الشمالية من القاهرة؛ شبرا وعين شمس، تقل أعداد البارات وتتحول إلى مقاهٍ تقدم البيرة في الدور العلوي فقط.
لا تقبض راتبك وتشرب
لم تسلم المشروبات الروحية من الجباية الحكومية في ظل الأزمة الاقتصادية، وناقش البرلمان المصري في يونيو 2016 قانون القيمة المضافة، الذي يُقرُّ ضريبة إضافية قدرها 250% على أسعار البيرة، و150% على النبيذ والمشروبات الكحولية.
جاء ذلك بعد قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي، في يوليو 2014، زيادة قيمة ضريبة المبيعات على السجائر والمشروبات الكحولية بنسبة 200%، وتحصيل ضريبة 150% على لتر النبيذ والكحوليات الأخرى، وكذلك بعد أن زادت حكومة الإخوان المسلمين في 2013 الضرائب على البيرة لتصل إلى 200%، وعلى المشروبات الكحولية الأخرى إلى 150%.
قد يهمك أيضًا: حكاية مستشار أعمال لبناني ترك وظيفته ليصنع النبيذ المحلي
في الركن الأخير من «هالجيان»، يعتاد رجل خمسيني يُدعى حسين الجلوس وحيدًا منذ سنوات. في أغلب الأحيان يطلب زجاجتي بيرة وزجاجتين من البراندي المحلِّي، ولم يكن ذلك يكلفه أكثر من 40 جنيهًا قبل الضرائب الجديدة، إذا أضفنا الإكرامية التي يمنحها للعاملين في البار مقابل الفول النابت والخضراوات، «المزَّة» التي يقدمها المكان مجانًا.
أما في الأيام الحالية، فالكمية ذاتها صارت تكلفه الضعف تقريبًا، هذا إذا قرر الامتناع عن تقديم بقشيش للعاملين حتى يوفر ثمن زجاجة بيرة أخرى لليوم التالي.
الزبون الحزين.. الزبون الغاضب
الحالة المزاجية لزبون البار صارت تميل إلى الحدة والغضب.
يقول جمال، ساقي بار «هالجيان»، إن أيام نهاية الأسبوع (الخميس والجمعة) كانت الأكثر ازدحامًا بالزبائن، أما في الوقت الحالي فأصبح عديد من الطاولات شاغرًا حتى في ليالي الزحام.
يوضح جمال لـ«منشور» أن سعر زجاجة البيرة ارتفع أكثر من مرة خلال العامين السابقين، من سبعة جنيهات ونصف في 2013 إلى 12 جنيهًا، حتى وصل في 2017 إلى 27 جنيهًا في البار العادي، و35 جنيهًا وأكثر في البار الملحق بفندق أربع أو خمس نجوم.
تغيَّر المناخ الذي كان يخلقه البراندي في رؤوس المصريين، الذين يفضلونه مع الويسكي منذ وقت الاستعمار الإنجليزي على أي نوع آخر من الخمر، بحسب جمال. كان من المعتاد أن يدفع الزبون حساب ضيوفه الذين شاركوه الشرب، أما الآن فأصبح ذلك نادرًا، وانكمشت أرقام الإكراميات التي يتركها الزبون، كما انخفض عدد الزجاجات التي تُقدَّم على الطاولة بنسبة 40%.
يضيف جمال أن الحالة المزاجية للزبون الذي يشرب في المكان أصبحت تميل إلى الحدة والغضب، وشجارات الزبائن زادت كثيرًا. كان من المعتاد أن يدفع عدد من الزبائن ثمن ما شربوه آجلًا، أما الآن فصار البار بحاجة إلى مصاريف كثيرة تجعل من الصعب عدم تحصيل نقود ما قُدِّم من مشروبات في ليلته ووقته.
اقرأ أيضًا: تاريخ الكحول في العراق منذ اختراع البيرة إلى منع البرلمان
باحثًا عن مقعد يستند إليه قبل أن يسقط أرضًا، يحاول رجب الوصول إلى دورة المياه، فيما يخبرني أصدقاؤه أنه انقطع عن الشرب لفترة طويلة بسبب قلة موارده المالية وارتفاع أسعار الكحول، ولكنه عاد أول أمس، لهذا أصبحت دماغه «خفيفة».
يتذمرون من حديثه السوداوي عن الأوضاع السيئة التي يعيشها مع عائلته، ويطلبون منه أن ينسى ويفرح، ويؤكدون أنه «كان أكثر ابتهاجًا حين يشرب في السابق، يتحدث عن كرة القدم ويسبُّ ويلعن اللاعبين، أما الآن فصار يسبُّنا نحن».
يتذكر رجب أنه حينما توقف عن الشرب زاد دخله الشهري نحو مئة جنيه فظنَّ أنها بركة طاعة الله، ثم صدمه ارتفاع حادٌّ في الأسعار، لينظر إلى دخله الشهري الذي لا يتعدى ألفي جنيه ويفكر أنه لم يعُد يكفي لسلسلة الدروس الخاصة التي يحضرها أبناؤه في الثانوية العامة والشهادة الإعدادية.
يَهيم الرجل في شوارع وسط المدينة ثملًا حتى الفجر، مطالبًا الحُكومة في نوبات السكر بطلاء الهرم الأكبر باللون الأحمر، لإيمانه بأن الأحمر يعبِّر عن «خلفية» مناسبة لبلادنا وتاريخها، وأنه لا يوجد أقدر من الهرم على إبرازها، يقصد خلفية البلد.
بارات وسط المدينة، كـ«هالجيان» و«كاب دور»، تفتح أبوابها في الحادية عشرة صباحًا، هذا الوقت من اليوم مخصَّص بشكل غير رسمي لـ«زبون الصبح» كما يُطلَق عليه في عالم البارات، وهو في الأغلب عميل دائم في المكان، يحضر إلى البار في أثناء توجُّهه لإنهاء مشوار أو قبل بدء عمله أو خلال الاستراحة، ويجيء في المساء أيضًا، إذ يظل البار مفتوحًا حتى الواحدة ليلًا.
بالنسبة إلى ذلك الزبون، يصير البار محطةً لشحن الطاقة من أجل مواصلة اليوم. يخبرني جمال أن هذا الزبون أصبح يكتفي بالحضور ليلًا، أي مرة واحدة في اليوم بدلًا من مرتين، ومن كان يشرب أربع زجاجات صار يشرب اثنتين بعد ارتفاع أسعار الكحول.
قد يهمك أيضًا: كيف يُستهلك الكحول في الدول العربية التي تمنعه؟
«أنا مش سباك، أنا مهندس مواسير»
السيد عطية يرفض الانقياد وراء الأسماء التي فرضها المجتمع على مضمون وظيفته كسبَّاك، ويتعمد الزهو دومًا قبل توجُّهه إلى دورة المياه، القابعة في آخر بار «كاب دور» في وسط العاصمة، إذا استبدَّ بمثانته شراب البراندي المصري.
يشكو عطية ارتفاع أسعار الخمر، فهي وسيلته للهرب من بؤس الحياة.
يسحب عطية قدميه المحشورتين في نعلَين مهترئَين بصعوبة بالغة. ولَدَى خروجه من الحمام، يُطلِعُه نديم الشراب الدكتور محمود على سر، ويضفي الشيب في شعر رأسه بعض المصداقية على ما يقول: «ماحدش عمره قال عليك سباك يا عطية، إنت بتتخيل حاجات».
يقول عطية: «زوجتي تعايرني، تخبرني أن إخوتي تجري في أيديهم الأموال مثل الأرز لأنهم يواظبون على الصلاة، في حين أعمل أنا في مصلحة حكومية بمرتَّب قليل وبعد الظهر سباكًا، وفي الليل أشرب. أردُّ عليها بأن إخوتي فيهم الخير لأنهم يصلُّون بالنيابة عني وأنا أسكر بالنيابة عنهم، كل واحد يفعل ما يقدر عليه».
يشكو الرجل ارتفاع أسعار البيرة والخمور، فهي وسيلته للهرب من هذا البؤس الذي يحياه، الآن أصبح من الصعب عليه أن يشرب يوميًّا، مما يدفعه إلى الدخول في مشاجرات عديدة مع معظم من يتعامل معهم.
لا تبدو منحوتات الزمن على وجه عطية كالدكتور محمود، الذي كان يهوى تدخين السجائر المستوردة ويرتدي حذاءً رياضيًّا، إلا أنه استغنى عن السجائر المستوردة وأصبح يدخن سجائر «كليوباترا بوكس» المحلية، ويكتفي بزجاجتين من البيرة بدلًا من ثلاث.
أما الأستاذ حسن، الذي قدم من السودان ليستقر في مصر منذ 23 عامًا، فكان يتلو كل ليلة ما تيسر من شعر أحمد شوقي في البار ويطلق النكات، بعدما تترنح ثمالة زجاجتي الـ«أولد ستاج» (ويسكي) في نظراته، لكني أجده اليوم دائمًا ينظر إلى الأرض صامتًا أو يقرأ الجريدة ثلاث مرات، ويكتفي بشرب ربع زجاجة براندي.
في عام 2010، اعتمدت جمعية الصحة العالمية قرارًا يؤيِّد وضع استراتيجية عالمية للحد من تعاطي الكحول على نحو ضارٍّ، يتضمن الحدَّ من الطلب على الكحول من خلال آليات فرض الضرائب والتسعير.
حثَّ القرار بلدان العالم على تعزيز الاستجابات الوطنية للمشكلات الصحية العمومية الناجمة عن تلك الظاهرة، فضلًا عن التزام جماعي من الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية بالاستمرار في العمل للحدِّ من عبء المرض الناجم عن تعاطي الكحول على نحو ضارٍّ.
وتشمل الاستراتيجية سياسات من بينها تنظيم عمليات تسويق المشروبات الكحولية، لا سيَّما للشباب، وهو الأمر الذي لا نجد له صدًى في معظم المجتمعات العربية التي لا تقنن الشراب لأنه «حرام»، فضلًا عن فرض ضوابط وقيود على توافر الكحول.