سقطت القطع الأخيرة في مكانها المفترض لأجل تحول كبير في السلطة في إيران، مع توقعات بنتائج محتملة بعيدة المدى للدولة وعلاقتها ببقية العالم. خرج رئيس السلطة القضائية السابق إبراهيم رئيسي منتصرًا في انتخابات الرئاسة أغسطس الماضي، كما توقع، ما منحه حق الحصول على مدة قدرها أربع سنوات في منصبه الجديد. هذا ما ورد في مقال للكاتب الإيراني سجاد صفائي.
بحسب صفائي، يعتبر إبراهيم رئيسي رجلًا محافظًا، مهووسًا بالسلطة، ولكن رئيس إيران الجديد أقل تعصبًا مما قد يبدو عليه. يعرَف رئيسي أيضًا بكونه الخليفة المفترض لعلي خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، وهو منصب قد يشغله مدى الحياة.
لكن إذا أصبح من المهم فجأة فهم رؤية رئيسي للعالم حوله، ورغم صعوبة تحديد ذلك، فإن رئيسي يشار إليه على نطاق واسع باعتباره «متشددًا»، ولكن هذه التسمية لا تكشف بقدر ما تخفي. فاختزال رئيسي في وصفه متعصبًا، يفتقد مُركبًا مهيمنًا لشخصيته السياسية الرئيسية: انتهازيته الذكية. وهي الصفة الفضلى التي تفسر صعوده، وأيضًا الصفة التي يمكن أن يستشف منها أسلوبه في القيادة من الآن فصاعدًا.
انتخابات مضمونة
يرصد صفائي طريقة رئيسي لتحقيق هذه النتائج في الانتخابات، وهو ما ظهر بشكل ملحوظ بصفته المرشح الأوفر حظًا للفوز بالانتخابات الرئاسية، وليس من خلال حملة انتخابية تعكس رؤية محكمة تمكنت من إقناع حشود الجماهير، بل أُفسح المجال له بفعالية كبيرة من قبل حلفائه السياسيين المقربين.
ففي أواخر مايو الماضي، مُنع مجلس صيانة الدستور الإيراني المكون من 12 عضوًا من الترشح للسباق الانتخابي، وهو المجلس الذي يعمل مراقبًا للانتخابات الإيرانية، هؤلاء الأعضاء على صلة وثيقة برئيسي، وهم شخصيات معتدلة بارزة مؤيدة للإصلاح. البعض منهم كان يأمل في تدخل خامنئي كما فعل عام 2005، لإعادتهم لسباق الترشح.
طالب خامنئي بالفعل، آنذاك، مجلس صيانة الدستور بإعادة النظر في سلوكهم غير العادل، ولكن دون أن يذكر مرشحًا بعينه، وكان رد المجلس على هذا الالتماس هو بيان مطول، ولكن خال من أي مضمون حقيقي.
ساعدت استبعادات مجلس صيانة الدستور الإيراني إبراهيم رئيسي بشكل كبير في انتصاره في حملته الرئاسية من ناحيتين مهمتين، الأولى وهي الأكثر وضوحًا أنها أخلت الطريق من أبرز منافسيه، والثانية الأكثر أهمية أنها أحبطت معنويات شرائح الناخبين التي كانت مشاركتهم لها أهمية كبيرة بالنسبة للمرشحين المعتدلين أصحاب التوجه الإصلاحي، مثل عبد الناصر همتي ومحسن مهر علي زاده، الذين لم يستبعدوا من السباق فقط لتحفيز الناخبين للمشاركة بأصواتهم يوم الاقتراع.
انسحب مهر علي زاده من الانتخابات قبل يومين فقط من التصويت.
شعبية كبيرة لرئيسي
يعود صفائي لرصد شعبية رئيسي، فرغم تلك الأسباب، لا يمكن إنكار القاعدة الحقيقة والهائلة التي تدعم رئيسي. فلم يمض وقت طويل على خسارته لانتخابات الرئاسة عام 2017 أمام الرئيس السابق حسن روحاني، حتى عينه خامنئي رئيسًا للسلطة القضائية في البلاد. وقد تحصل رئيسي على شعبية هائلة إبان إدارته لمؤسسة العتبة الرضوية المقدسة بين عامي 2016 و2019، وهي واحدة من أكثر مؤسسات الوقف الدينية ثراء في إيران، والتي يعمل تحت إمرتها آلاف الموظفين في المؤسسات الخاصة بها، وكذلك في الكثير من الأراضي والشركات التي تمتلكها بجميع أنحاء البلاد.
في سنواته الأخيرة كرئيس للسلطة القضائية، أسس رئيسي لملفه السياسي بالشروع في إنفاذ سلسلة من الإصلاحات القضائية الشاملة التي قللت من عقوبات بعض الجرائم، والتي تتراوح بين عدم القدرة على دفع مهور الزواج وتهريب المخدرات إلى إصدار الشيكات البنكية دون رصيد.
سمحت تلك الإصلاحات الجنائية لأعداد كبيرة من المدانين بتجنب عقوبة السجن وحتى الإعدام، وعززت من شعبية رئيسي، وأصبح اسمه ووجهه يترددان بانتظام في النقاشات الشعبية ووسائل الإعلام الوطنية، ما جعله شخصية معروفة في أنحاء البلاد. اسمه ووجهه أصبحا يتقدمان صناديق الاقتراع قبل حتى أن تبدأ الانتخابات الرسمية، ولم تعد الانتخابات الرسمية سوى وسيلة للإشارة إلى الطريقة التي ربما سيؤدي بها رئيسي دوره كرئيس لإيران.
الفصل المظلم من تاريخ رئيسي
اكتسب رئيسي سمعة كونه أحد أعضاء «لجنة الموت» التي أشرفت على حملة الإعدامات السرية لآلاف من السجناء السياسيين في صيف عام 1988، والتي وصفها المؤرخ إرفان أبراهميان بكونها «أعمال عنف غير مسبوقة في تاريخ إيران، غير مسبوقة في الطريقة والمحتوى والشدة».
وفقًا لتسجيل صوتي انتشر لأول مرة أغسطس من عام 2016 بحسب صفائي، يربط إيرانيون عديدون رئيسي بهذا الفصل المظلم من تاريخ البلاد. ففي هذا الشريط الصوتي الشهير، يتعرض رئيسي وعضو آخر من اللجنة لهجوم عنيف من الراحل آية الله حسين علي منتظري لدورهم في الإعدامات. يسمعون، من خلال التسجيلات، محاولين مساومة منتظري، نائب المرشد الأعلى في ذلك الوقت، للحصول على الإذن بإعدام 200 سجين إضافي. في حين يرفض منتظري بشدة إضفاء أي شرعية على ما أراده رجلا اللجنة، واصفًا الإعدامات بأنها أخطر جريمة في تاريخ الثورة الإسلامية.
لا يمكن إنكار عمليات الإعدام التي نفذتها لجنة الموت، ولكن مشاركة رئيسي في اللجنة تكشف رؤى مهمة عن شخصيته السياسية. يبدو من العدل التساؤل عما كان يدور في خلد شاب في السابعة والعشرين من عمره، يساوم على حياة معارضين سياسيين في المقام الأول. تقترح التسجيلات المسربة عن رئيسي أنه شخص لا تحركه أفكار أيديولوجية أو يقين ما.
حين رفض منتظري السماح بإرسال 200 سجين إلى قبورهم، سمع حينئذ صوتًا يُنسب إلى رئيسي، متجنبًا الخلاف مع نائب المرشد الأعلى في ذلك الوقت، وقابلًا لقراره: «حسنًا، نحن نطيع قرارك». ولا تزال التفاصيل الكاملة المحيطة بالإعدامات غامضة، بما في ذلك الجدول الزمني المحدد لها.
رجل يسعى إلى السلطة
شكلت مواقف الولاء تلك الطابع الرئيسي للمسيرة المهنية المستقرة لإبراهيم رئيسي، والتي امتدت لأربعة عقود. كان بحثه عن السيطرة وسعيه الدؤوب لاكتساب السلطة هو بوصلته التي وجهت حياته السياسية، ولم يكن مدفوعًا بالتعصب الأعمى للأيديولوجيا.
برغم التناقضات التي ميزت الحياة السياسية، ورغم الدينامية المتغيرة للأزمنة السياسية، واصل رئيسي على نفس المنوال. وبعد 30 عامًا على مشاركته في لجنة الموت، كان هدفه كرئيس للسلطة القضائية هو استمالة العامة استعدادًا للترشح لانتخابات الرئاسة. قدم رئيسي نفسه مُصلحًا للقضايا الجنائية، بتخفيف شدة العقوبات، والحد من عقوبات الشنق العلني، وزيادة أحكام العفو العامة على المذنبين.
في انتخابات الرئاسة عام 2017، وصف روحاني منافسه آنذاك إبراهيم رئيسي، بكونه واحدًا من «هؤلاء الذين لا يعرفون شيئًا عن السياسة سوى السجن والإعدام».
وصل رئيسي إلى كرسي الرئاسة والجميع يعلم بما دار في الانتخابات وصولًا إلى هذه النتيجة، ولا يمكن لأي انتخابات عادلة وذات شفافية واضحة أن تترك فراغًا سياسيًا كذلك الذي خلفته الانتخابات التي جعلت من رئيسي رئيسًا لإيران، هذا الفراغ غير المشغول بدعم قطاعات كبيرة من السكان يمكن أن يخلف بدوره مناخًا غير مستقر، والذي من شأنه أن يهدد حالة الاستقرار والسلم المجتمعي في الداخل الإيراني.
ادّعى رئيسي محاولته جعل الانتخابات أكثر تنافسية، ولكن الواقع المغاير لا يضمن صمت ودعم المعارضين، مناصرين المنافسين المغدور بهم، في حين يحاول مجلس صيانة الدستور، والذي دعم رئيسي منذ البداية، تحذير النقاد السياسيين من طبيعة الرئيس الجديد ذي الخلفية القضائية، صاحب الشخصية التي لطالما أمْلَت العقوبات على وجوه المتهمين طوال 40 عامًا.
ففي انتخابات الرئاسة عام 2017، وصف الرئيس السابق حسن روحاني منافسه آنذاك إبراهيم رئيسي، بكونه واحدًا من «هؤلاء الذين لا يعرفون شيئًا عن السياسة سوى السجن والإعدام»، ومن المرجح أن يؤثر هذا الجانب من مسيرة رئيسي على كيفية استجابته لأي اضطرابات شعبية محتملة، بالأدوات العقابية التي يمكن أن يستخدمها، وبالاستعانة بحلفائه من القضاة، الذين يدينون بنجاحهم المهني لرئيسي نفسه. هؤلاء القضاة الذين سبق وهددوا الصحفيين والنشطاء ومنعوهم من إبداء أي آراء نقدية حول طبيعة الانتخابات ومرشحها الرئيسي آنذاك.
مع بداية أولى سنوات رئيسي في منصبه الجديد، بلغ علي خامنئي القائد الأعلى عامه الثاني والثمانين، وهو سن يضع رئيسي في موقع فريد ومؤثر بموازين وديناميات القوى في السلطة العليا لإيران، حال وفاة خامنئي. فرئيسي واحد من أبرز المرشحين لخلافة خامنئي، بجانب شغله منصب الرئيس، والذي من شأنه أن يجعله صاحب التأثير الأكبر في عملية اختيار القائد التالي.
لا أحد يعرف متى يتوفى خامنئي، ولكن هذه الاحتمالية لا تلغي افتراض وتصور رئيسي لنفسه يحكم البلاد بقبضة من حديد، أمام منافسين سياسيين محتملين، وسيكون لدى الرئيس الحالي كل حافز ممكن للقتال من أجل توسيع سلطته وتعزيزها أمام احتمالية الخلافة التي تبدّت في الأفق.
الطريقة التي صعد بها رئيسي لمنصب الرئاسة، ومزاجه العقابي، والسؤال المطروح حول خليفة خامنئي، أعطت أرضًا خصبة لما يمكن أن تكون عليه إدارة رئيسي السياسية، والتي يمكن أن تُغرق إيران أكثر وأكثر في مستنقع النزعات الاستبدادية. كما أن وجود رئيسي أيضًا على مقعد رئاسة إيران من شأنه أن يؤثر على علاقاتها الدولية، ولكن ليس للأسباب التي يتخيلها هؤلاء الذين لا يعرفونه جيدًا.
بالنسبة لكثيرين داخل وخارج إيران، يبقى اسم رئيسي ملوثًا للأبد بإعدامات 1988. وإذا ما ظهر محور جديد مناهض لإيران، كمثل الذي قاده الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، فسوف يجد هذا المحور أداة دعائية جاهزة لتشويه إيران وشيطنتها، تتمثل في شخص رئيسي نفسه، فمسألة تشكيل إجماع دولي ضده عملية أسهل بكثير مما كانت عليه في سنوات روحاني.
الدبلوماسية الإيرانية أولى ضحايا رئيسي كرئيس
يذكر صفائي في مقالته كيف أن هذه الفكرة ليست محض تخمين، فخلال فترة رئاسة محمود أحمدي نجاد من 2005 إلى 2013، كانت تصريحاته العدوانية ضد إسرائيل وحول الهولوكوست مفيدة للغاية في عزل إيران عن المسرح الدولي. كان أحمدي نجاد فزاعة إسرائيل المفضلة، لدرجة أن الرئيس السابق للموساد إفرايم هليفي وصفه بأنه «أعظم هدية لنا»، وأضاف: «لم يكن بوسعنا تنفيذ عملية في الموساد أفضل من وضع رجل مثل أحمدي نجاد على قمة السلطة في إيران». ويقول هاليفي مبديًا شماتته إن نجاد «أثبت للجميع أن إيران اليوم دولة لا يمكن التعايش معها. نجاد يوحد العالم كله ضد إيران».
إذا ما أثبتت مسيرة رئيسي شيئًا ما، فهو أنه استطاع تكوين حلفاء أقوياء له بمرور الوقت، وأنه لن يسمح بوقوف أي شيء في طريقه نحو السلطة.
في أواخر أغسطس الماضي، وبعد أيام من وصول رئيسي إلى مقعد الرئاسة، لم يكن اسم وزير الخارجية محمد جواد ظريف ضمن أسماء تشكيلته الوزارية الجديدة. وهو الوزير السابق، والذي لعب دورًا جوهريًا في ملف إيران النووي، وخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، وعرف بقيادته الفعالة لجبهة إيران الدبلوماسية في مواجهة حملة الضغط المكثفة التي مارسها ترامب ضد إيران. وكان بذكائه وفطنته شوكة في حلق محور الحلفاء الذي قاده ترامب سعيًا إلى كسر الاتفاق النووي ومحاولة عزل إيران.
لم يكن ظريف مرحبًا به في حكومة رئيسي الجديدة، وكان من الواضح منذ الحملة الانتخابية رغبة رئيسي في التخلص من الوزير الذي حصل على تعليمه في الولايات المتحدة الأمريكية، حين أعطى مجتبى أمين، منتج أحد المسلسلات التليفزيونية التي انتقدت جواد ظريف بشدة، دورًا رئيسيًا في الترويج لحملته الانتخابية.
حين أعلن ظريف استقالته الأولى عام 2019، كان يمكن سماع تنهيدة ارتياح المجتمع الدولي المناهض لإيران بوضوح، حتى أن رئيس الوزراء السابق لإسرائيل بنيامين نتنياهو غرد آنذاك: «رحل ظريف.. بئس المصير».
رغم نفوذ رئيسي الكبير في مسائل الأمن القومي، وضمنها السياسية الخارجية، فإنه لم يبدِ بعد نية لخرق اتفاقية خطة العمل الشاملة المشتركة، فقد أعلن مسبقًا نيته حين قال: «نحن ملتزمون بخطة العمل المشتركة، ولكنها بحاجة لحكومة قوية من أجل تنفيذها». غيّر رئيسي من هيكل السياسة الخارجية الأساسي، لكنى أعطى مستوى ما من الاستمرارية لاستراتيجيات الدولة الكبرى. فالحكومة نفسها أيضًا ليست المحدد الوحيد لسياسة إيران الخارجية.
يرى صفائي أن ضمان نجاح استراتيجية ما، سواء كانت خطة العمل الشاملة المشتركة أو غيرها، يحتم وجود دبلوماسيين وتكنوقراط أكفاء. فغياب الدبلوماسيين المهرة في بعض المواقع المهمة يمكن أن يؤثر بشكل سلبي على تروس الدبلوماسية الإيرانية، مثلما حدث في فترة أحمدي نجاد، حين تسبب غياب الكفاءة التكنوقراطية في تقويض الاستراتيجية ذاتها التي عملت الحكومة على تنفيذها.
إذا ما أثبتت مسيرة رئيسي شيئًا ما، فهو أنه استطاع تكوين حلفاء أقوياء له بمرور الوقت، وأنه لن يسمح بوقوف أي شيء في طريقه نحو السلطة، حتى لو تسبب هذا في تعطيل النظام السياسي القائم في إيران.
يختتم صفائي مقالته بطرح هذا السؤال الحاسم عما يمكن أن يحدث إذا حاول القائد الأعلى للنظام الحالي، علي خامنئي (الذي يأمل رئيسي في خلافته)، الوقوف في وجه رئيسي ومحاولة كبح جماحه المنفلت والطموح نحو السلطة.