«من مدينة صيد متواضعة إلى أبرز الحواضر في العالم»، هكذا تُعرَِّف إمارة دبي، أحد قطاعات الإمارات العربية المتحدة، نفسها للزائرين.
هذه المدينة الصحراوية التي تطل على الخليج، والتي تحولت إلى مركز عالمي للتجارة والعمارة والمشاريع الكبرى واستقطاب السياح والفرص الوظيفية، يُعزَى وضع اللبنة الأساسية لنهضتها إلى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، والد الشيخ محمد بن راشد، الحاكم الحالي للإمارة والمنطلِق بها نحو الريادة العالمية.
عمل الشيخ راشد بن سعيد على تأسيس البنية التحتية للإمارة وتزويدها بالخدمات اللازمة للسكان وبناء الطرق والمشاريع الرئيسية، التي استكمل العمل عليها ابنه مكتوم بن راشد آل مكتوم، وخلفه في الحكم وأسس للقاعدة التي تقف عليها دبي ويقف عليها هو نفسه الآن محمد بن راشد اليوم.
دبي: مدينة الأحلام
لا يمكن لأحد أن يتغاضى عمَّا وصلت إليه الإمارة اليوم، ففي وسط منطقة عربية ينخرها الفساد وسوء التخطيط والإدارة، تعيش دبي في كوكب موازٍ وحدها بعيدًا عن الغرق في هذا المستنقع، إذ أصبحت المدينة الأفضل في جودة المعيشة في الشرق الأوسط وإفريقيا بحسب استطلاع «ميرسر» لجودة الحياة عام 2017.
وتحتل دبي المركز الرابع على مستوى العالم من حيث الثراء والرخاء بحسب تصنيف شركة «أركاديس» العالمية، الذي أخذ بعين الاعتبار «البنية التحتية للمواصلات، وسهولة تأسيس الأعمال التجارية، والسياحة، وأهمية المدينة في شبكة الاقتصاد العالمي، ومدى فعالية وسائل الاتصال، خصوصًا الإنترنت وشبكات الهاتف المحمول، وكذلك معدلات التوظيف»، كما يتوقع أن تحقق المدينة المركز الثالث ضمن الوجهات السياحية في العالم عام 2017.
محمد بن راشد: الأب الروحي
حين يُشار إلى دبي فإن أول ما يطرأ على البال هو محمد بن راشد، حاكم الإمارة والرجل الذي يضع سياساتها ويراقب تنفيذها ويتدخل شخصيًّا في تفاصيل إتمام المهام.
بعد تعيينه وليًّا لعهد الإمارة في مارس 1995، قال بن راشد: «لا أعرف ما إذا كنت قائدًا جيدًا أم لا، لكن ما أعرفه أنني الآن في مركز قيادي، وعندي رؤية واضحة للمستقبل، تمتد قدمًا إلى 20 أو 30 عامًا».
«لقد اكتسبت هذه الرؤية من والدي المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي يعتبر بحق في مقام الوالد لدبي، لقد أطلق المشاريع، ووقف عليها شخصيًّا، كان يستيقظ باكرًا قاصدًا مواقع المشاريع ليشرف عليها، وأنا أسير على خطاه، أبقى على اطِّلاع بكل شيء، أذهب إلى المواقع وأراقب، أقرأ الوجوه، أتخذ القرارات المناسبة، أنطلق بخطى سريعة لتطبيق هذه القرارات بحماس وعزيمة عاليين».
تلك الرؤية التي حملها محمد بن راشد أصبح ينفذها ويقوم عليها حتى هذا الوقت، ففي فبراير 2017 أمر بعقوبة بدلًا من السجن على مجموعة من الشباب «المفَحَّطين» (الذين يستعرضون مهاراتهم في قيادة السيارات بتهور) في شوارع دبي، بأن ينظفوا الشوارع أربع ساعات يوميًّا لمدة شهر واحد.
وقبل ذلك، كان بن راشد في زيارة إلى مطار دبي للتأكد بنفسه من سهولة إجراءات السفر، كما انتشرت له لقطات فيديو وهو يقوم بزيارة مفاجئة لإحدى الدوائر الحكومية للتأكد من التزام الموظفين بالحضور، وعندما فوجئ بغياب بعضهم اتخذ ضدهم عقوبات وأحال تسعة منهم إلى التقاعد، وفي دائرة أخرى فوجئ بكمية حواجز زجاجية بين الموظفين والمراجعين وأبواب خشبية مقفلة على المدراء، فاستقدم نجارين لخلعها.
لحظة، لماذا تحتاج المدينة أبًا روحيًّا؟
ربما تبدو هذه التصرفات للوهلة الأولى منتهى الإتقان في العمل وسبيلًا زاهرًا إلى النجاح الذي وصلت إليه دبي اليوم، لكن هناك وجهًا آخر للأمر، فالرجل الذي يستخدم جلسات العصف الذهني ليضع مع فريقه خطط وسياسات الإمارة، ويراقب تنفيذها ويعين كل مسؤول ويتدخل بنفسه في تفاصيل إتمامها، هذا الرجل قد تتمحور حوله كل الأمور هنا.
يتدخل حاكم دبي في أحكام العقوبات، التي يفترض أن تكون قضائية قانونيًّا، مثل عقوبة «المفحطين» وعقوبة معذبي القطط الذين أمر أن ينظفوا حديقة الحيوان أربع ساعات يوميًّا لمدة ثلاثة أشهر، وهو المدقق على إجراءات السفر وحضور وغياب الموظفين، بيده السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية، وسبق أن أصدر قانونًا لتحقيق استقلال أكبر للقضاء ومجاراة المعايير الدولية، لكن العقوبات التي يأمر بتنفيذها تقلص كثيرًا من هذه الاستقلالية، خصوصًا أنه هو نفسه مشرِّع هذا القانون.
يجمع محمد بن راشد بين حكمه للإمارة ورئاسته لمجلس وزراء اتحاد دولة الإمارات، ومن صلاحياته تعيين وزراء الدولة، وهو ما فعله، إذ نقل طريقته المبتكرة في الإدارة من دبي محليًّا إلى إدارة الاتحاد، عن طريق ابتداع وزارة للسعادة والشباب والتسامح بكوادر نسائية، وتعيين وزراء شباب لم تتجاوز أعمارهم 25 عامًا بناءً على ترشيحات جامعاتهم.
يوضح بن راشد في خطاب له أسباب هذا التوجه فيقول: «لا ننسى أن بداية التوترات في المنطقة، وما يسمى للأسف ربيعًا عربيًّا، إنما كانت لأسباب تتعلق بتوفير فرص للشباب وبيئة يستطيعون من خلالها تحقيق أحلامهم وطموحاتهم»، ممَّا يبين محاولته لتفادي أي مد لـ«توتر المنطقة» إلى الداخل الإماراتي، الذي يشكل نموذجًا مبهرًا في الإنجاز لكنه لا يختلف كثيرًا في طبيعة نظام الحكم الفردي المنتشر في الخليج، غير أنه يحاول دمج هذا النظام مع نظام مؤسساتي.
لا شك أن ما يقوم به محمد بن راشد يأتي بدافع الحرص على أن تكون دبي تلك المدينة التي يتطلع إليها العالم، لكن هذا الحرص يفرض سؤالا مهمًّا: كيف ستكون دبي دون محمد بن راشد؟
اقرأ أيضًا: كيف تهدد السيارات الكهربائية اقتصاد دول الخليج؟
دبي دون محمد بن راشد: ماذا ستفعل الإمارة دون أب؟
من يريد بناء أي مشروع عظيم يجب أن يمنعه من أن يتمحور حول شخص بذاته.
تقول نظرية الانفجار العظيم إن الكون قبل مليارات السنوات كان عبارة عن نقطة واحدة في الفراغ، وتحت ضغط حراري انفجرت لتكوِّن كل المجرات والنجوم والكواكب، وتطورت بعدها الحياة بنفسها بناءً على ما تحتويه من مواد، أما في دبي فالانفجار العظيم الذي انطلق على يد رجل ليحول المدينة الساحلية إلى مركز عالمي لم يتركها تتطور بنفسها بحسب ما أعطاها من مواد وقيم، بل كان حاضرًا طَوَال الوقت، فهل ستبقى على ما هي عليه في حال عدم وجوده؟
دبي، التي واجهت أزمة اقتصادية في 2009 راكمت عليها ديون بمليارات الدولارات ولم ينقذها منها سوى إمارة أبو ظبي التي تنافسها لإثبات نفسها في المنطقة، هل يمكنها الاعتماد على ذاتها لو طفت أزمة أخرى إلى السطح؟ أو لو غابت رقابة بن راشد على التفاصيل؟ هل تظل مدينة السحاب ودانة الدنيا؟
إن الأخبار التي تقول باكتشاف بن راشد غياب موظفين أو إهمال آخرين ومعاقبته تدل على وجود سلوكيات خاطئة كأي مكان آخر في هذا العالم، لكن، وهذا ما يعرفه بن راشد جيدًا، لو تُرِكت هذه السلوكات دون عقاب ستتحول إلى فساد وعادة. إذًا، إن لم يكن بن راشد موجودًا، فهل ستنهار هذه المنظومة التي يحافظ عليها بحضوره؟
هل يتمكن محمد بن راشد من صنع نجاح يتجاوزه شخصيًّا ويكون مستدامًا؟ أم سيظل النجاح مرهونًا بأبٍ يرعاه؟
لا يمكن الجدال في الإبهار الذي تقدمه إدارة محمد بن راشد كنموذج يحتذى في الفعالية والنشاط والتطوير، لكن المَحَك دائمًا هو الاستمرار. إن من يريد بناء أي مشروع عظيم يجب أن يمنعه من أن يتمحور حول شخص بذاته، بحيث يستمر النظام بوجود هذا الشخص أو آخرين، لكن عقلية الحكم العربية هي في معظمها عقلية أبوية، سواءً كانت تقدم نموذجًا فاشلًا أو حتى ناجحًا كما في دبي، عقلية مبنية على رعاية الأب وتحمله المسؤولية والعناية وحده.
قد يهمك أيضًا: 14 علامة تخبرك أنك تعيش في «مجتمع فاشي»
على الجانب اﻵخر، فإن المشاركة الأبوية في اتخاذ القرار عبر الاستماع إلى الآراء ليست كافية بالنسبة لجيل يريد بن راشد مواكبته، بل المشاركة المطلوبة تكون عبر صناعة نظام يعتمد كليًّا على الجميع، يكون فيه الفرد جزءًا من نظام كبير، يعمل الجميع على تشغيله وتطويره، يشارك فيه الأفراد في بناء الوطن ووضع تشريعاته والإشراف على تنفيذها.
النظام العظيم هو النظام الذي يعمل بنفسه ويُطبَّق على الجميع، ومهما تغير الأشخاص لا يقف عند أحد ولا ينتظر أبًا يرعاه، ولطالما كان محمد بن راشد الذي يعمل على الوصول إلى المريخ اليوم هو صانع الأمل في المنطقة، فهل يتمكن من صنع نجاح يتجاوزه شخصيًّا ويكون مستدامًا؟ أم سيظل النجاح مرهونًا بأبٍ يرعاه؟