في مقابلة تلفزيونية لوزير التخطيط السابق علي الموسى، ذكر أن «فكرة» إسقاط القروض نبعت من نكتة ألقاها المدير الإعلامي على أحد النواب، والذي أخذها بدوره على محمل الجد وتقدم بها كاقتراح.
الرحلة من الفكرة إلى المطلب الشعبي
أول ظهور «متداول» لفكرة إسقاط القروض كان على يد عضو بأحد المنتديات في مارس 2005 نقلًا عن «وكالة يقولون»، يشير إلى اقتراح سري من بعض أعضاء مجلس الأمة بإسقاط القروض بدلًا من المطالبة بزيادة الرواتب.
في ذلك الوقت أبدى غالبية أعضاء المنتدى رفضهم للفكرة لعدة أسباب، من أهمها الإخلال بمبدأ العدالة والمساواة، والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي ستنتج عن التنفيذ وتأثيرها طويل الأمد، بالإضافة إلى أنها ستشجع الشعب على الاقتراض مجددًا وعدم السداد إذا حصلت هذه السابقة.
وفي نوفمبر 2005، نشرت جريدة البيان الإماراتية تقريرًا ينقل عن أحد مديري معارض السيارات في منطقة الشويخ الصناعية قوله: «شاهدنا إقبالًا كبيرًا من المواطنين، وبخاصة من ذوي الدخل المحدود على اقتناء سيارة جديدة، وهذا يفرحنا نحن مديري معارض السيارات»، موضحًا أن «أغلب الزائرين للمعرض يسألون عن نظام الأقساط، لأنهم يقولون إن الحكومة ستسقط عنهم القروض».
نرى بوضوح كيف استطاعت «فكرة» أن تزيد عدد المقترضين وتشجعهم على زيادة ديونهم، آملين في الحصول على ما يريدون دون مقابل. احتل السؤال الواجهة حينها، وطرحه المواطنون مباشرة على سمو رئيس الوزراء آن ذاك الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح، الذي أكد مجددًا أن ذلك مستحيل لأن قيمة القروض تجاوزت 4 مليارات دينار وقتها، وفي إسقاطها ظلم للمواطنين الذين ليس عليهم قروض. هذا الرد لم يكن كافيًا لطمس الفكرة، فقد تشبثت بها مجموعة من النواب مستندين إلى الرواج الشعبي الذي حظيت به، وطرحوها بالفعل عام 2006.
الطريق من الإسقاط إلى الصندوق
بنى النواب مطالباتهم على عدة محاور، كما وردت في ندوة «إسقاط القروض مطلب شعبي»:
- الفائض الضخم الذي حققته الدولة في تلك الفترة بالمقارنة مع المبلغ المطلوب لإسقاط القروض، والذي ادعوا أنه لن يتجاوز مليارين (دون تحديد العملة)
- الهبات التي تقدمها الكويت للدول الأخرى
- وجود سابقة المديونيات الصعبة في الثمانينيات، وإسقاط القروض بعد الغزو في التسعينيات
في المقابل، بدأ عدد من الاقتصاديين يحذرون من أن «إسقاط القروض الاستهلاكية عن المواطنين سيلحق الضرر بالاقتصاد الوطني، وسيؤدي إلى زيادة معدل التضخم، وارتفاع الأسعار، وشيوع النمط الاستهلاكي داخل المجتمع الكويتي، وضياع فرص التنمية». ولفتوا إلى أن القضايا التي تستحق الاهتمام والإنفاق هي المشاريع الحيوية، كالمحطات الكهربائية والإسكان وإصلاح الطرق. وهكذا جاء الرفض الثاني للاقتراح في ديسمبر 2006 بأغلبية نيابية وصلت إلى 39 صوتًا.
لكن في 2007 عاد النائب السابق سعدون حماد طرح اقتراح شراء القروض، وتقدم النائب السابق د. ضيف الله بورمية بمقترح مشابه، بالإضافة إلى النائب السابق عبد الله راعي الفحماء الذي تقدم باقتراح بقانون لإسقاط الفوائد وشراء الديون وإعادة جدولتها على المدينين لفترة تمتد إلى 25 عامًا.
محافظ بنك الكويت المركزي السابق الشيخ سالم عبد العزيز الصباح قال إن «قيمة إجمالي القروض الاستهلاكية والمقسطة التي قدمتها مصارف وشركات استثمارية حتى نهاية شهر أكتوبر 2007 بلغت نحو أربعة مليارات و641 مليون دينار كويتي». موضحا أن «عدد القروض المتخذ بشأنها إجراءات قانونية يقتصر على 10,008 قروض، بما يمثل نحو 2.2% فقط من إجمالي القروض الاستهلاكية والمقسطة».
وفي إحدى جلسات مجلس الأمة ديسمبر 2007، تقدمت الحكومة ببديل عن إسقاط القروض عبارة عن مشروع آخر بإنشاء صندوق لمساعدة المتعثرين. وبالفعل وافق البرلمان على المقترح الحكومي بتأسيس صندوق قيمته 300 مليون دينار، بالقانون رقم (28) لسنة 2008 بتاريخ 2008/7/17، لمعالجة أوضاع المواطنين المتعثرين في سداد القروض الاستهلاكية والمقسطة تجاه البنوك وشركات الاستثمار، بحيث تكون تبعيته وإدارته لوزارة المالية وتمويله من الاحتياطي العام للدولة بما لا يجاوز 500 مليون دينار.
لكن تأسيس الصندوق لم يكن كافيًا، فاستمرت المطالبات بإسقاط القروض، وعاد الموضوع للمناقشة أمام مجلس الأمة في يونيو 2008، أثناء الوفرة المالية الحادة التي سبقت الأزمة الاقتصادية العالمية في سبتمبر 2008. لكن ذلك لم يكبح جماح الاقتراح، الذي رُبط بقضية إنقاذ الاقتصاد الوطني عقب الأزمة الاقتصادية، بل استخدمه النواب ككارت للمساومة مقابل دعم شركات الاستثمار المتعثرة.
الحلقة المفرغة التي لا تنتهي
في يناير 2010، أقر مجلس الأمة مشروع قانون لشراء قروض المواطنين بتكلفة 6.7 مليار دينار (23.3 مليار دولار)، بعد مناقشته والتصويت عليه في مداولته الثانية، رغم أنه في عام 2006 قيل إن التكلفة لن تتعدى مليارين وقوبل المشروع بمعارضة الحكومة.
أحيل المشروع للحكومة التي أكدت أنها لن توافق عليه، وفي المقابل قدمت البديل مجددًا من خلال إصدار قانون رقم (51) لسنة 2010 في شأن تأسيس صندوق لمعالجة أوضاع المواطنين المتعثرين في سداد القروض الاستهلاكية والمقسطة تجاه البنوك وشركات الاستثمار بتاريخ 1 أغسطس 2010.
وخلال الفترة بين 2011 و2012، حُلّ المجلس تارة وأُبطل تارة أخرى، ومن ثم تعرض للحل مجددًا، لذا لا نجد الكثير من الاقتراحات لإسقاط القروض في تلك الفترة. لكن هذا لم يستمر طويلًا، إذ عاد البرلمان في مارس 2013 إلى إقرار قانون شراء الديون بشكل أولي.
اتفق المجلس مع الحكومة في إبريل 2013 على إنشاء «صندوق الأسرة»، والذي تكون تبعيته لوزارة المالية لشراء الأرصدة المتبقية من القروض الاستهلاكية (لمن يرغب من المواطنين) والممنوحة لهم من البنوك وشركات الاستثمار قبل تاريخ 30 مارس 2008، بتكلفة 744 مليون دينار.
أثّر ذلك في سلوك المقترضين، إذ أظهر تحليل أجرته «العربية» للبيانات الصادرة عن بنك الكويت المركزي أن معدل النمو السنوي للقروض ارتفع بنهاية فبراير 2014 إلى 7.4%، وهو أعلى معدل للنمو منذ 6 سنوات، وقد كان هذا السلوك مؤشرًا لنتيجة حتمية وهي العودة مجددًا إلى المطالبة باسقاط القروض في 2018.
وما زال الخبراء الاقتصاديون يحذرون من تلك الخطوة، وعلى رأسهم الخبير الاقتصادي جاسم السعدون الذي أكد مرارًا وتكرارًا أن رأيه في إسقاط القروض «قديم قدم قضية المديونيات الصعبة، باعتباره قرارًا لا يجوز أخلاقيًا، ويفتقر إلى العدالة، ويضر بالاقتصاد الوطني، ويهدد مستقبل الوطن».
وأضاف أن «قرارات إسقاط القروض تسويق عملي لقيم غير سوية، وغرس لمفاهيم خاطئة لدى المواطن، مفادها "اقترض وأنفق ببذخ، وعندما ترتفع عليك قيمة القروض ستقوم الحكومة بالسداد بدلًا منك"».
وقد كشفت وثيقة رسمية حصلت عليها جريدة «الأنباء» أن حجم القروض الاستهلاكية والمقسطة المقدمة من البنوك الكويتية للمواطنين الكويتيين بنهاية أكتوبر2018 يبلغ نحو 10.96 مليار دينار، أما عدد المواطنين المقترضين فقد بلغ 429 ألفًا.
عادت المطالبات مجددًا في عام 2021 عقب جائحة كوفيد 19، وفي ديسمبر 2022 حين بلغت تكلفة أصل الدين للقروض المشمولة بالاقتراح 14.6 مليار دينار، فوافقت لجنة الشؤون المالية والاقتصادية بمجلس الأمة على الاقتراح ليشمل 520 ألف مقترض، وهو ما رفضته الحكومة ملوحة بتقديم استقالتها بسبب إصرار النواب، مع العلم أن الحكومة مشكلة حديثًا في أكتوبر 2022.
18 عامًا قضاها المجتمع الكويتي (وما زال) في نقاش عقيم ومضيعة تامة للوقت والمال بشأن قضية خاطئة في جوهرها، أدت لتعزيز نمط استهلاكي في سلوك المواطنين، دون أي تنمية مرجوة أو بحث حقيقي في أصل مشكلة الاقتراض وإيجاد حلول حقيقية لها.
لو عاد بنا الزمن إلى عام 2005 وقابلنا «فكرة» إسقاط القروض بفكرة الادخار (كلٌّ على قدر استطاعته)، حتى ولو 50 دينارًا بشكل شهري توفر للفرد شراء ما يشاء من حر ماله، لما وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه اليوم.