في بداية يوليو 2018، سلطت بيانات صندوق النقد الدولي الضوء على تراجع الدولار قليلًا، كعملة للاحتياطات النقدية في العالم، خلال الربع الثاني من العام. نسبة تراجع الدولار التي بلغت 1.3% لم تكن كبيرة، وبخاصة أنها تزامنت مع المخاوف المتجددة بسبب سياسات ترامب الاقتصادية، والتي تمثلت في الإجراءات الحمائية التي فرضها على الشركاء التجاريين الأكبر للولايات المتحدة.
فور أن تولى ترامب الرئاسة، وعد بأن يعيد «أمريكا عظيمة»، أن يجعل القرن الحالي أمريكيًّا كما كان القرن السابق أمريكيًا في معظمه.
يخوض الرئيس الأمريكي حربًا تجارية ضد شركائه الرئيسيين، أو ما يمكن أن نسميهم «اللاعبين الكبار في الاقتصاد العالمي» (الصين والاتحاد الأوروبي)، وأيضًا ضد عدد من الاقتصاديات الناشئة كالمكسيك وتركيا.
تفتح هذه الحرب التجارية إمكانيات كبيرة للنقاش حول جدوى الدولار كعملة احتياطي نقدي في العالم، وكعملة للتجارة الدولية، وحول الدولار نفسه كمخزن للقيمة الاقتصادية. إذ تكثر المطالبات بأن تحل عملة أخرى محل الدولار في التجارة الدولية، أو تنويع عملات التجارة لتشمل سلة عملات اقتصادات قوية أخرى، مثل اليورو واليوان الصيني، هذا الأخير الذي دخل أخيرًا في سلة عملات صندوق النقد الدولي في سبتمبر 2016.
لم تكن فكرة استبدال الدولار جديدة على أذهان الاقتصاديين، فقد عُرِضت للنقاش أكثر من مرة، سواء على المستوى الضيق والخاص جدًّا من كبار الاقتصاديين في العالم، وحتى على المستوى الشعبي أحيانًا ما تُطرح الفكرة، وبخاصة في الدول النامية. على سبيل المثال، في مصر كان لتعويم الجنيه أثر واضح، ما جعل برامج التوك شو وخبراء الاقتصاد يفتحون النقاش حول: ماذا سيحدث إذا تاجرت مصر بعملة أخرى غير الدولار؟ ويذكرنا هذا بسؤال مكرر: لماذا لا تحصل مصر على إيرادات قناة السويس بالجنيه؟
يبقى السؤال المطروح حتى الآن هو: كيف يمكننا استبدال الدولار؟ وهل يمكن حقًّا الاستغناء عنه بعملة أخرى؟ هل يمكن لليوان الصيني مثلًا، في ظل تصاعد دور الصين في الاقتصاد العالمي، أن يلعب هذا الدور؟ هل الاتفاق على تنويع الاحتياطات النقدية للدول يؤثر في الدولار؟
هذه الآلة تقتل الفاشيين
كتب المغني الأمريكي الشهير ذو النزعات اليسارية «وودرو جوثري»، أغنيته الشهيرة «هذه الآلة تقتل الفاشيين» عام 1941، غناها لأول مرة في مسيرة عمالية في مانهاتن. كان هؤلاء المناوئين للفاشية والنازية، والذين يدعون إلى دخول الولايات المتحدة الحرب بجانب الحلفاء، يحلمون بعالم أكثر سعادة وأكثر عدلًا، يحلمون بتعميم نموذج «أرض الشجعان وموطن الأحرار» الأمريكي على العالم من خلال الانتصار على الفاشية.
تأسست هيمنة أمريكا الاقتصادية بعد الحرب لأنها أكثر البلدان استقرارًا في وقت فقدت فيه أوروبا قوتها الصناعية والاقتصادية.
في أثناء الحرب العالمية الثانية، غذَّت الولايات المتحدة الحلفاءَ بالسلع الضرورية والأسلحة، من أجل استمرار حربهم ضد الرايخ الألماني. كانت الولايات المتحدة تشترط أن تُدفع لها تلك المبالغ من احتياطات الذهب، وليس بالدولار. لذلك، وبعد نهاية الحرب، أصبحت الولايات المتحدة صاحبة الاحتياطي الأكبر من الذهب في العالم. كانت قاعدة الذهب ما تزال فعالة حتى ذلك الوقت، ما يعني أنه لا يمكن لأي دولة أن تطبع من عملتها إلا بقدر ما تملكه من احتياطات الذهب العالمي، وهذا يشير إلى أن سعر الدولار مرتبط بالعرض والطلب على الذهب في السوق العالمية.
لاحقًا، وقبل أن تنتهي الحرب، تحديدًا في 1944، عُقِد مؤتمر «بريتون وودز» الشهير، والذي حضره ممثلو 44 دولة، كان أبرزها الإمبراطورية البريطانية وفرنسا والولايات المتحدة، أسس هذا المؤتمر لاحقًا لما عُرِف بالهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة على العالم.
تأسست الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة بعد الحرب لأنها أكثر البلدان استقرارًا اقتصاديًّا في ذلك الوقت، ولأن أوروبا فقدت معظم قوتها الصناعية والاقتصادية في الحرب العالمية الثانية.
اللورد «كينز»، أو «جون مينارد كينز»، الاقتصادي الإنجليزي الأشهر في القرن العشرين، مُنِيَ بهزيمة نكراء حين عرض خطته لنظام اقتصادي جديد في أثناء المؤتمر. فبصفته مندوب إمبراطورية غربت عنها الشمس، وتعاني من معضلات كبيرة في تسديد ديونها الخارجية، كان كينز اقترح إنشاء «اتحاد المقاصة الدولية» (International Clearing Union)، مهمته تمكين الدولة المدينة (أي الدولة التي تعاني من عجز في ميزان المدفوعات)، من الحصول على ما تحتاج إليه من سيولة أجنبية. واقترح على المؤتمر استحداث عملة احتياطية جديدة، يمكن تسميتها «البانكور» (Bancor).
عرض رئيس الوفد الأمريكي الاقتصادي «هاري دكستر وايت» خطة أخرى حصلت على موافقة المؤتمرين. ورأت خطة وايت ضرورة استحداث نظام نقدي عالمي جديد، لم تكن له أي قرينة في تاريخ النقود قط: نظام نقدي يتمحور حول الدولار الأمريكي أولًا وأخيرًا، لأن الدولار كان قد أنيط به أن يكون الأساس في تحديد قيمة باقي عملات العالم، فسعره بات محددًا وثابتًا مقابل الذهب الذي أصبح يساوي 35 دولارًا للأوقية الواحدة من الذهب.
وطالبت الخطة الأمريكية بضرورة تأسيس منظمات دولية مختلفة، مهمتها مراقبة آلية النظام النقدي الجديد، والعمل على استقراره من خلال منح القروض للبلدان التي تعاني من مشكلات في ميزان المدفوعات.
تأسست الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة على هيمنتها المالية على سوق العملات العالمية. وُلِدَ الدولار كبيرًا في هذا اليوم، إذ أصبحت الولايات المتحدة تمتلك أكبر نسبة من احتياطات الذهب في العالم، وضخت مليارات الدولارات في أوروبا، في ما عُرِف لاحقًا بـ«مشروع مارشال».
كانت كل الدول الأوروبية، وبخاصة دول المحور، في حالة اقتصادية يرثى لها. كانت السجائر الأمريكية مخزن قيمة أفضل من المارك الألماني بعد الحرب.
يجادل كثيرون في أن الهيمنة النقدية للدولار على التجارة الدولية كانت سابقة على مؤتمر «بريتون وودز»، وأنها وليدة فترة ما بين الحربين، وهي الفترة التي استطاعت فيها الولايات المتحدة تحقيق معدلات نمو كبيرة وصادرات ضخمة لأوروبا التي خرجت جريحةً من الحرب العالمية الأولى. وسواء كان بريتون وودز هو الذي أسس لهيمنة الدولار، أو أنه فقط كان تتويجًا رسميًّا لعقود سابقة، كان الدولار عملة مهيمنة بشكل ما على التجارة الدولية. فنحن الآن أمام حقيقة أن الدولار العملة الأكثر قوة في العالم، والأكثر تأثيرًا في كل اقتصاديات الدول الصناعية والناشئة على حد سواء.
خلال عقدي الخمسينيات والستينيات ارتفعت معدلات النمو في البلدان الصناعية. كان للأوربيين نصيب كبير، وبدأت المؤشرات الاقتصادية لتلك الدول في التحسن بشكل كبير. لعل نموذج الاقتصاد الألماني مثال كبير على هذا. حتى تلك الفترة، كان نظام تقييم العملة يخضع لمقياس الدولار المرتبط بالذهب، أي إنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تطبع دولارات كيفما تشاء، لأن كمية الذهب الموجودة في جميع دول العالم تكاد تكون محدودة، ويمكن تقييم أسعارها بالدولار.
في 1971، وبينما كانت الولايات المتحدة تعاني بداية تباطؤ النمو الاقتصادي الكبير، والقفزة التي حققتها في الخمسينيات والستينيات، كان لدى الرئيس الأمريكي «ريتشارد نيكسون» صدمة للعالم، تمثلت في عدد من الإجراءات الاقتصادية، أهمها التخلي عن قاعدة «غطاء الذهب» كأساس لتحديد قيمة العملة. قاعدة الذهب التي اعتمدتها بريطانيا للمرة الأولى عام 1821، تعني أنه لا يمكن لدولة أن تطبع نقودًا تتخطى قيمة ما تملكه من احتياطي الذهب.
كان هذا جيدًا للنظام المالي العالمي نوعًا ما، إذ لم يُسمح لدولة واحدة أن تهيمن بشكل كامل على الاقتصاد العالمي. فرغم أن الإمبراطورية البريطانية كانت في أوج عظمتها بداية القرن العشرين، وكان الإسترليني عملة عالمية، فإنها لم تهيمن بشكل كامل، إذ ما زالت القوى الاستعمارية الأخرى تمتلك كثيرًا من المقومات.
عودة إلى نيكسون، كان قرار الرجل مدفوعًا بعودة الدول الأوروبية إلى قاعدة غطاء الذهب بعد التعافي الاقتصادي، ومحاولتها تخزين احتياطات كبيرة منه بسبب خوفها من احتمالية تذبذب الدولار كمخزن عالمي للقيمة، بسبب حرب فيتنام التي أدخلت الاقتصاد الأمريكي في حالة من عدم الاستقرار. كان لنيكسون الجمهوري رأي آخر، فخرج يعلن فك الارتباط، ووضع جميع الدول أمام فخ لا يمكن الفكاك منه.
العولمة كسياق منتِج للهيمنة النقدية
يرتبط ثلث الناتج المحلي العالمي بالدولار، أي إن ثلث ما ينتجة العالم يُقيَّم بالدولار مباشرة.
التشابك الشديد بين الاقتصادات القومية والمعاملات الاقتصادية الدولية، التي تضع الدولار مخزنًا مهمًّا للقيمة الاقتصادية، واحتياطيًّا لا غني عنه، يبدو أنه لا فكاك منه.
نشأ هذا التشابك الاقتصادي مع بدايات الرأسمالية ليدخل مرحلة أكثر تعقيدًا في القرن العشرين، وبخاصة في نهايته، مع مشروع العولمة الذي اقتضى تحرير الأسواق وفتحها أمام إمكانات الرأسمالية الجديدة في نسختها الأكثر تطرفا: «النيوليبرالية»، تلك التي تقضي فى النهاية أن تكون الأسواق أكثر حرية، دون تدخُّل مباشر من الدولة، لكن لا بد في النهاية من حَكم، أو ملك كبير، يمكنه أن يلعب دور الموزع لأرباح تلك المنظومة بين الدول والاقتصادات.
لعبت الولايات المتحدة هذا الدور بشيء من الذكاء منذ الثمانينيات. فالمؤسسية الاقتصادية (بنك احتياطي مستقل، ومؤسسات مالية قوية تعمل في سوق ذات معدلات شفافية عالية) التي توفر لأمريكا ما يمكن أن نسميه «النجاعة الاقتصادية الأخلاقية» التي تقتضي أن تدفع الولايات المتحدة مليارات الدولارات في هيئة مساعدات للدول الفقيرة، حتى تحافظ على توازن هش للنظام، وأن تؤطر نفسها مركزًا لهذا التوازن، ومركزًا ثقافيًّا للعالم من أجل ترويج عدد من القيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بجانب القيم الثقافية للرأسمالية الأمريكية.
يمثل الدولار الآن نحو 62% من احتياطات النقد الأجنبي حول العالم، وهو العملة الرئيسية إلى الآن في التجارة الدولية، حتى إن هناك ما يقرب من 580 مليار دولار تُدفع فواتير سنوية خارج الولايات المتحدة.
يرتبط نحو ثلث الناتج المحلي العالمي بالدولار بشكل مباشر، سواء من خلال الدول التي تقيم عملتها وناتجها المحلي به، أو من خلال الدول التي تحتفظ بالاحتياطات النقدية منه في بنوكها المركزية. مثلًا 80% من صادرات كوريا الجنوبية وتايلاند يجري تقييمها بالدولار، في حين أن 20% فقط من صادرات البلدين موجهة إلى السوق الأمريكية.
تزايدت الهيمنة الأمريكية في الثمانينيات والتسعينيات مع العولمة الاقتصادية، التي شكلت الولايات المتحدة فيها رأس حربة إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي، ما جعل اقتصاديين كثيرين يربطون بين قوة الدولار والقوة العسكرية الأمريكية. فالولايات المتحدة الوحيدة التي تمتلك حق طباعة الدولار، ولذلك هي الوحيدة التي تمتلك رفاهية أن تكون معدلات الدَّين العام فيها ممولة ذاتيًّا، فيمكنها أن تطبع ما تريد لدفع تلك الديون أو لعلاج اختلالات ميزان المدفوعات مع أي دولة، ما يمنح الولايات المتحدة قدرة المناورة في حربها التجارية مع جميع الدول، تلك الحرب التي يقودها ترامب.
يُسمى هذا «تسييل الديون» (Monetizing Debt). إذ يمكن للولايات المتحدة أن تطبع ما تشاء من الدولارات دون خوف من «التضخم الانفجاري» (Hyper Inflation) كبقية دول العالم، لأن الطلب على الدولار لا يتوقف في السوق العالمية. فدائمًا هناك مستثمر أو حكومة يريدان أن يشتريا تلك الدولارات التي يطبعها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. لكن طباعة الدولار لا تسير بجنون كما يمكن أن تعتقد.
فخلال السنوات العشرة الأخيرة، لم تضاعف الولايات المتحدة حجم الدولارات المطبوعة، رغم أنها خرجت للتو من أزمة مالية كبيرة. لذلك حافظ الدولار على قوته وقيمة تداوله في السوق الدولية، رغم وجود مؤشرات إلى أن الاقتصاد الأمريكي لم يتعاف كليًّا بعد أزمة 2008.
يحيل هذا إلى أزمة أكثر تعقيدًا تهدد الاقتصاد العالمي طيلة الوقت، وهي أزمة الديون الأمريكية. في 2019، ستقترب فوائد الديون الأمريكية من تريليون دولار في العام الواحد، ما يتطلب من الاحتياطي الفيدرالي طباعة مزيد من الدولارات. لذلك ستقل قيمة الدولار في السوق الدولية أمام العملات الأخرى، ما يمكن أن يضع الاقتصاد الأمريكي في أزمة كبيرة إذا استمر الحال هكذا.
لا أحد يمكن أن يجزم بقدرة الرأسمالية الأمريكية على معالجة مثل هذه الأزمة، ولا التنبؤ بمدى تأثير هذه الأزمة في الدولار كعملة عالمية. لكن مع استمرار تلك المخاوف، تحاول دول كثيرة تنويع احتياطاتها النقدية وتوقيع اتفاقيات تجارية مشتركة، وبخاصة الصين التي تملك حصة كبيرة في أذون الخزانة الأمريكية وسنداتها، ولذلك تعد أكبر دائني الولايات المتحدة.
لماذا لا يمكننا الفكاك؟
لنفترض أن هناك حكومة ما تريد أن تقترض من السوق الدولية بالعملة المحلية. لنفترض أن مصر مثلًا هي هذه الحكومة. سيريد المستثمرون الأجانب الحصول على فائدة مرتفعة من تلك السندات، على أن يحين أجل سدادها بعد خمس سنوات مثلًا، وبفائدة تقدر بـ10%. لكن بما أن معدل التضخم في مصر يتخطى 11% سنويًّا، فبعد خمس سنوات، إذا استمر الحال على ما هو عليه، فمن الممكن أن يفقد الجنيه نحو 50% من قيمته الحالية بسبب تآكل القدرة الشرائية.
لذلك يعمد المستثمرون إلى شراء السندات بالدولار الذي من غير الممكن أن يفقد 50% من قيمته في خمس سنوات. فالاقتصاد الأقوى والأكثر استقرارًا في العالم، والقادر على توليد دخل ضريبي عالٍ، ويمثل فيه الابتكار التكنولوجي قيمة عليا، يمنح الدولار أهميته الحالية.
لذلك تعتمد معظم دول العالم على الدولار في الاستدانة. فالأمر يبدو جيدًا للطرفين. إذ يحافظ المستثمرون على أرباحهم، وتستدين دول العالم بعملة لا تفقد كثيرًا من قيمتها مع الوقت. فالاقتصاد الأمريكي رغم كل العثرات التي يمكن أن يعاني منها، يحافظ على بنية مؤسسية قوية تجعل عملته قوية كذلك. لا ينفي هذا أن التفوق السياسي والدبلوماسي والعسكري للولايات المتحدة، يلعب دورًا مهمًّا في هيمنة الدولار.
لنفهم الجزء الأخير، علينا النظر إلى نموذج اقتصادي مستقر آخر، وهو النموذج الألماني، ونسأل السؤال التالي: لماذا لا يكون اليورو عملة الاحتياطي النقدي والأكثر تداولًا في العالم؟ فالاقتصاد الألماني نموذج جيد على الاستقرار وتوليد القيمة العالية عن طريق الشركات المتوسطة والصغيرة، ويمثل بيئة أعمال مستقرة بشكل أكبر من الأمريكي، ومنذ أن كان المارك الألماني العملة الرسمية، يحافظ الاقتصاد على قيمة قوية لعملته، ولم يخفض قيمة العملة من أجل دعم التصدير كما تفعل الصين الآن، لذلك كان يمكن للمارك الألماني، ولاحقًا اليورو، أن يحلا محل الدولار.
لا يمكننا أن نجزم بأن صعود التنين الصيني كقوة في الاقتصاد العالمي يمكن أن يفضي إلى عالم أكثر ديمقراطية وعدالة.
هنا نحيل إلى عامل حاسم آخر، وهو البترول، السلعة الأهم في الرأسماليات الصناعية الحالية. يرتبط البترول بالدولار، وتتحدد أسعاره تبعًا للأخضر. فالولايات المتحدة، بجانب حلفائها في الخليج وبقية المنتجين الأكبر، متفقون على التقييم بالدولار، ولذلك يكتسب الدولار مزيدًا من الهيمنة.
إضافةً إلى ذلك، ترتبط أوروبا واليابان والصين بعلاقات تجارية قوية مع الولايات المتحدة، والسوق الأمريكية مهمة بالنسبة إليهم. يعتمد اقتصاد الدول الأوروبية واليابان بشكل كبير على تصدير المنتجات للولايات المتحدة، لذلك يعمد الثلاثة، ما عدا الألمان، إلى تخفيض قيمة عملتهم لتشجيع التصدير، ليس فقط إلى الولايات المتحدة، لكن إلى بقية دول العالم.
قد يهمك أيضًا: أنا، أو الانهيار الاقتصادي: ترامب يبدأ عملية تصدير الورطة
كان ترامب يعي هذه اللعبة القديمة. ففي حملته الانتخابية التي بُنيت على أن هروب الشركات من الولايات المتحدة نحو الصين والمكسيك ذات العمالة الأرخص، ليس سببه العمالة الرخيصة فقط، بل تلك الحرب التجارية التي زعم أن الصين تشنها على الولايات المتحدة.
الصين تخفض عملتها مقابل الدولار، وتشجع التصدير، وتمتلك عمالة رخيصة، ليس فقط في الداخل، بل حتى في إفريقيا التي يمكنها الآن أن تمد التنين الصيني بعمالة أرخص من عمالته. لذلك لا يمكن للولايات المتحدة أن تنافس الصين كأكبر مُصَدِّر في العالم. لكنها يمكن أن تخوض حربًا من أجل إعادة التوازن وتقليم أظافر التنين الصيني.
تشكل الحرب التجارية الحالية بين الولايات المتحدة وحلفائها فرصة أخرى لتوزيع أرباح الرأسمالية المعاصرة وأعبائها، والتي تنتقل من المركز الرأسمالي (أوروبا وأمريكا واليابان)، كما كان في العقود الثلاثة الأخيرة، إلى أن تكون رأسمالية معممة ومحددة في الوقت نفسه، من خلال دخول الأطراف والهوامش الرأسمالية المتمركزة في آسيا بالأساس (الصين ودول النمور الآسيوية والهند).
لكن هذا الانتقال لا يمكن أن يحل معضلة هيمنة الدولار على التجارة الدولية، لأنه من مصلحة هذه الدول أن تحافظ في الوقت الحالي على الدولار. فنموذجها الاقتصادي قائم على التصدير، وعلى قيمة عملتها في مواجهة الدولار. إذ كلما تقل قيمة اليوان أو الروبية الهندية مقابل الدولار، كانت صادرات تلك الدول أكثر، ويمكنها أن تحافظ على استدامة نموذجها الاقتصادي.
نشعر بأننا واقعون في فخ سلطة أو قوة لا يمكن الفكاك منها، أو حتى إعادة التفكير في كيفية إعادة هيكلتها لتكون أكثر عدلًا. العالم القديم ذو القطبين قد مات، والعالم الجديد ولد على أنقاضه. لكن عالم القطب الواحد يعاني من مرض عضال، ومع ذلك لا يمكننا أن نقر بأن موته أصبح حتميًّا. فالعالم الجديد أضحى متشابكًا لدرجة أن موته قد يعني موتنا معه.
لا يمكننا أن نجزم بأن صعود التنين الصيني كقوة في الاقتصاد العالمي يمكن أن يفضي إلى عالم أكثر ديمقراطية وعدالة. فالصين ليس لديها ما تصدره من قيم سياسية وثقافية إلى العالم، ولا تستطيع قيادة عولمة شاملة كالتي تقودها الولايات المتحدة منذ الثمانينيات. لدى الصين نموذج شديد الخصوصية والمحلية في آن واحد، يقوم على معدلات نمو اقتصادي عالية، وهيكلة أكثر دكتاتورية للاقتصاد، وبنية هرمية شديدة المركزية للسلطة السياسية. أعتقد أنه علينا أن نشعر بالرعب من النموذج الصيني أكثر من خوفنا الحالي من الهيمنة الأمريكية.