صراع السلطة: الشيخان صباح الأحمد وسعد العبد الله، وكيف وصلنا إلى هنا؟

التصميم: منشور

فريق منشور
نشر في 2022/10/16

امتدادًا لصراعات أسرة آل صباح، بدأ اختلاف في الرؤى بين الشيخين سعد العبد الله وصباح الأحمد بنهاية الثمانينيات، مع بدء احتجاجات «دواوين الإثنين» المطالبة بعودة الحياة الديمقراطية.

يقول الباحث محمد اليوسفي لـ«منشور» إن «كلًا منهما كان له أسلوبه، فالشيخ سعد ذو الخلفية الأمنية كان يحبذ المواجهة، بينما يفضل الشيخ صباح الحوار والدبلوماسية، ولم يكن هذا الاختلاف في أسلوب إدارة الدولة يظهر للعلن، لكنه بدأ يطفو على السطح أثناء الغزو العراقي ووجود القيادة السياسية في الطائف بالمملكة العربية السعودية».

كان الاختلاف بين الاثنين مستترًا طوال تلك السنوات، إلا أنه بدأ يتبلور في العلن خلال التسعينيات، مباشرة بعد الغزو، ولعل وثيقة شباب الأسرة التي أشرنا لها في هذه السلسلة تشكل أحد أوجه الخلاف الذي بدأ في التحول إلى صراع.

«أنا مُصر على استقالتي»

الصورة: @nawafalhamly

خلال التسعينيات، كشف الشيخ صباح الأحمد عن عدم رضاه بشأن أسلوب إدارة الشيخ سعد في أكثر من مرة، وإن لم تخرج الأسباب للعلن. فبعد الغزو مباشرة حالت الخلافات بينهما إلى عدم مشاركة الشيخ صباح في أول حكومة بعد الغزو عام 1991، كما شهدت التسعينيات تمددًا لنفوذ الشيخ سعد العبد الله ونهجه الصِدامي، فكانت نقطة الاختلاف الأبرز حول ما عرف بـ«دول الضد»، وهي الدول العربية التي وقفت مع العراق أثناء غزو الكويت (الأردن، منظمة التحرير الفلسطينية، الجزائر، السودان، اليمن، ليبيا)، إذ كان الشيخ صباح يرى ضرورة إعادة العلاقات مع تلك الدول، بينما رفض الشيخ سعد ذلك رفضًا قاطعًا.

هذا الخلاف بالإضافة إلى خلافات أخرى حول أسلوب إدارة الدولة دفعا الشيخ صباح إلى تقديم استقالته في 1995 و1998 و2000، وانتهت بإثنائه عن الاستقالة من قبل سمو الأمير الشيخ جابر وعودته للحكومة مرة أخرى.

ذكرت الصحافة ما جرى في اجتماع مجلس الوزراء، ففي بداية الجلسة خاطب الشيخ صباح الشيخ سعد قائلًا: «طويل العمر، في هذه الأجواء لا يمكن أن أواصل عملي، وأنا مستقيل». وتحدث بعده عدد من الوزراء (يوسف الإبراهيم ومحمد شرار) وأبدوا الرغبة في الاستقالة، فعقب الشيخ سعد: «الاستقالة مرفوضة».

لكن الشيخ صباح قال: «وضع البلد لا يحتمل، وأنا مُصر على استقالتي»، وكرر الشيخ سعد رفضه: «أرجوك أن تسحب الاستقالة، ما يهمني هو ألا يفرح العدو، فهو سيفرح بهذه الاستقالة، والنظام العراقي لا يزال يهدد، ويشن علينا حملة ينبغي أن نواجهها متكاتفين. إن الأجواء غير مناسبة، وأرجوك لا تقدم استقالتك من أجل الكويت».

لكن الشيخ صباح تمسك بموقفه، وكتب استقالته ووقعها وقدمها لولي العهد قائلًا: «طويل العمل، أنا مُصر عليها».

بعد الاستقالة، جمع الأمير الاثنين اللذين اجتمعا وتوصلا إلى صيغة تفاهم/تسوية سياسية، وقُبلت الاستقالة بناء على ذلك، وكان أبرز ما أفضت إليه خروج قطب حكومي بارز عن التشكيل.

حكومة البدع وحكومة الشعب

الصورة: كونا

في تشكيل حكومة 2001، اختلف الشيخ سعد والشيخ صباح على القائمة المرشحة للتوزير من أبناء الأسرة، وسط رغبة من الشيخ صباح في استبعاد الشيخ سعود الناصر الذي «قد يكلَّف بوزارة أخرى غير النفط، أو يعود سفيرًا في واشنطن» كما كان خلال الغزو العراقي.

كما أعرب الشيخ صباح عن عدم ارتياحه من «فتح بابين للمشاورات، أحدهما في الشعب والآخر في البدع»، مؤكدًا ضرورة وجود آلية جديدة تمنع التضارب، وهي أن تكون المشاورات في البدع أو في وزارة الخارجية وتنتهي بالتكليف، على أن يُستدعى المرشح المتفق معه وعليه إلى قصر الشعب لتكليفه رسميًا.

كان واضحًا أن إعادة تكليف الشيخ سعد برئاسة الوزراء أتى لضمان الاستقرار، مع اتفاق ضمني بتكليف الشيخ صباح بتشكيل الحكومة واختيار أعضائها وأن يكون واجهتها، بينما يكون الشيخ سعد رئيسًا شكليًا، أو الرئيس الوالد، وهو ما تكرر لاحقًا بعد عزله عن مسند الإمارة وتسميته بالأمير الوالد.

أسهم الشيخ سالم العلي في حلحلة المسائل وقبول الشيخ سعد للحكومة وتوقيعه على مرسوم تشكيلها، وقد زار الشيخين صباح وسعد وحاول التوفيق بينهما، ويبدو أن المخرج كان بإعادة توزير الشيخ محمد الخالد المقرب من الشيخ سعد.

شهدت تلك الحكومة، التي أطلق عليها «حكومة الجيل الثاني»، دخول شخصيتين مهمتين إلى الساحة السياسية هما الشيخ الدكتور محمد صباح السالم الذي عين وزيرًا للدولة للشؤون الخارجية، والشيخ أحمد الفهد الصباح الذي عين لوزارة الإعلام وكان يبلغ من العمر آنذاك 38 عامًا، وسيكون للاثنين حضور في صراعات الأسرة خلال السنوات اللاحقة.

امتدحت بعض الصحف أسلوب تعيين الحكومة الذي اختلف عن السابق، إذ جرى إبلاغ الوزراء بأسماء زملائهم في المجلس، بينما كان الوزير في السنوات السابقة يفاجأ بزملائه عند إعلان الحكومة.

أدى تدهور الحالة الصحية للشيخ سعد العبد الله وتكرار غيابه عن جلسات مجلس الوزراء ومجلس الأمة، إلى فصل ولاية العهد عن رئاسة الوزراء في عام 2003، وهي خطوة ثبتت أقدام الشيخ صباح الأحمد تجاه كرسي الإمارة. إلا أن الصراع بين الشيخين سعد العبد الله وصباح الأحمد بلغ ذروته بعد وفاة جابر الأحمد عام 2006، حين دخلت البلاد في أزمة علنية كان محورها الوضع الصحي للشيخ سعد وقدرته على الحكم، وتدخل حينها مجلس الأمة لحسم الإمارة لصالح صباح الأحمد.

يقول محمد اليوسفي إن «خلافات الشيخين سعد العبد الله وصباح الأحمد أدت في بعض الأحيان إلى نتائج جيدة في مصلحة الوطن، وإن لم يكن ذلك هدفها الأساسي، فالخلاف حول حقوق المرأة السياسية بين الاثنين أسفر عن حصولها على حقوقها السياسية كواحدة من أولى إنجازات الشيخ صباح في رئاسة الوزراء، كما أدى خلاف المعسكرين في المجمل إلى فصل ولاية العهد عن رئاسة الوزراء، وهو ما طالبت به القوى السياسية طويلًا، لكنه تحقق بفضل الخلاف بين المعسكرين». إلا أن ذلك قد يحصر إطار التقدم في وجود خلاف بين أفراد الأسرة، بدلًا من التعاطي السياسي الطبيعي بين المجلس والسلطة.

الشيخان أحمد الفهد وناصر المحمد والتراتبية الغائبة

الصورة: كونا

يوضح اليوسفي أن «الخلاف بين الشيخين صباح وسعد كان نظيفًا رغم قسوته، فكلا الطرفين كان يقبل الهزيمة من الآخر، وكان الشيخ جابر الأحمد صمام الأمان، يتدخل في الوقت المناسب لفض الاشتباكات. كان صراع مبادئ، فالشيخ سعد كان مع دولة الرفاه بينما كان الشيخ صباح مع الضرائب وتحمل المواطنين لدورهم، كما كان مع عودة العلاقات مع دول الضد بعد الغزو، بينما رفض ذلك الشيخ سعد، وكل هذا كانت صراعات مبدئية حول رؤية كل منهما لمصلحة البلد».

ويضيف: «لم يتعد طرف على الآخر بطعن شخصي أو حرب شاملة كما يحصل في السنوات الأخيرة بين الشيخين ناصر المحمد وأحمد الفهد على سبيل المثال، إذ أصبح التصارع أكثر شراسة، متنوع الأدوات، يعتمد في بعض الأحيان على إفساد مؤسسات ناجحة لشراء الولاءات، وهدفه الكرسي لا تطبيق مشروع أو رؤية مختلفة عن الآخر، وأصبح الشيخ مشغولًا بتقوية معسكره المؤيد عبر شراء القنوات والصحف والحسابات، غير آبه بالضرر الذي يسببه للوطن». 

طموح الشيخ أحمد الفهد غلبه، وعلم الجميع بالحرب الباردة بينه وبين رئيس الوزراء السابق الشيخ ناصر المحمد، والتي خرجت إلى العلن لأول مرة في الاستجواب الذي قدمه مرزوق الغانم وعادل الصرعاوي له في 2011، وما تلاه من تحريك الشارع بين الأطراف المتصارعة، والذي أنتج عزل الشيخ ناصر المحمد عن رئاسة الوزراء، وبعدها أجبر الشيخ أحمذ الفهد من قبل الأمير السابق الشيخ صباح الأحمد على الاعتذار عبر تلفزيون الدولة الرسمي عن القلاقل التي تسبب فيها، من تسريب مقاطع فيديو اتُّهم بتزويرها وأوراق لا صحة لها وتحريك النواب والشارع.

يعزي اليوسفي هذه الصراعات إلى الضبابية في نظام توارث الإمارة، فالمتنافسون على الحكم والمناصب كثر، وهذا ما جعل الصراعات أكثر شراسة، وسط غياب التوجيه والتواصل من الكبار.

ويضيف: «للأسف راحت فكرة "الحشيمة" في صراعات الشيوخ، فلا حدود لما يفعله أي طرف، وفي ذلك تدمير للبلد، فالمتنافسون لا يملكون رؤية أو مشروع، وحده الشيخ ناصر صباح الأحمد الذي كان يتبع النموذج القديم في الصراع، ولذلك نجح، فلم تكن محاولاته لدخول السلطة فجة، وكان يحمل رؤية اقتصادية وسياسية تنموية».

يرى د. صالح النفيسي الأستاذ المساعد في العلوم السياسية بجامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا، أن صراع الأسرة وإصرارها على الانفراد بالحكم لا يأتي إلا من خلال تخريب النظام الدستوري، لأنه نظام مقيد لسلطاتهم، ولا حل أمامهم إلا بكسر هذا القيد: «يكفينا أن ننظر لما يجري الآن في مجلس الأمة من سوابق دستورية كلها تهدف إلى بقاء بعض الشخصيات من الأسرة في السلطة، حتى لو أدى ذلك إلى نقض الدستور».

ويضيف النفيسي أن التوسع في تعيين أبناء الأسرة في مناصب متعددة بالهيئات العامة والاتحادات الرياضية والوزارات وغيرها من شأنه أن يزيد من وتيرة المنافسة والخلافات: «المشكلة للأسف تكمن في خلط مشروع الحكم مع مشروع الدولة، وهذا مرده إلى الفشل، فالنافذ حين يدخل في صراع مع أحد أبناء عمومته يكون مستعدًا لأن يضرب بكل القيم والمبادئ عرض الحائط حتى يعزز مشروعه، وذلك يسهم في خلق ثقافة وقيم جديدة في المجتمع، كانتشار الفساد والمحسوبيات ودعم تيارات على حساب أخرى».

ما الذي يحمله المستقبل؟

الصورة: الجريدة

لعب صراع الشيوخ طوال العقود الماضية دورًا رئيسيًا في النظام السياسي الكويتي، وطالما كانت رئاسة الوزراء والمناصب الحكومية مقدمة للحكم فسيبقى التنافس بين أبناء الأسرة، وتبرز أقطاب جديدة على الساحة، وتعود بعض الأسماء لتصفية الحسابات القديمة. 

تذكر وثيقة شباب الأسرة الصادرة عام 1992 أنه «تعاقب على حكم الكويت أمراء من آل الصباح نذروا أنفسهم لهذه الأمة، وصارعوا الأهوال والحروب والغزوات والصراعات الدولية والتكتلات حتى نجوا بالكويت وأهلها ووصلوا بها شاطئ الأمان»، فهل يستمر ذلك؟

معرفة التاريخ ودراسة أحداثه تفرض علينا القبول بوجود صراع على المال والنفوذ والسلطة، فأينما وُجدت المغانم حضر التنافس والتدافع البشري (الطبيعي) للاستيلاء عليها. وهذا ليس محصورًا في الكويت وبين أفراد آل صباح، فهذه هي سنة الحياة، ولا بأس من التعامل والتعايش معها. لكن القبول بالصراع لا يعني بالضرورة القبول بآلياته وأسلحته وأدواته وأدبياته وأثمانه، خاصة مع اتساع رقعة ميادينه، ومضاعفة حجم خساراته وأضراره.

بالعودة إلى الكويت وصراعات الشيوخ فيها، نجد اليوسفي يقول إن «الدولة ومواطنيها دفعوا أثمانًا باهظة نتيجة لهذه المعارك المنفلتة، إذ فُتحت أبواب التدخلات الخارجية، والتغييرات الديموغرافية، والإفساد الإداري، والسرقات المليارية، ففي صراع الإخوة وأبناء العمومة كل الأسلحة متاحة، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا سياسة سوى سياسة الأرض المحروقة، ولا مبدأ يتقدم على شعار "عليَّ وعلى أعدائي"».

هكذا تعطلت مصالح الناس وضاعت حقوق العباد دون تحقيق أي هدف أو مكسب يعود على الدولة ومواطنيها بالخير، بل إن هذه الصراعات أسهمت في وصولنا إلى الشكل الذي نحن عليه اليوم، بنية تحتية مهترئة، وجهاز إداري متهالك، وهيكل اقتصادي متهافت، ونشاط سياسي مخرِّب، فلولا الحرب الروسية على أوكرانيا وتضاعف أسعار براميل النفط لانكشفت عورة ميزانياتنا المخجلة، ودخلنا في عصر العجوزات والقرارات الترقيعية.

يضيف اليوسفي: «هذا ما يجعلنا اليوم أبعد ما نكون عن الحاجة إلى صراع يتنافس فيه أصحاب المراكز الأولى في الفساد والفشل، فما الذي جنته الكويت أو ستجنيه من وصول هذا الشيخ أو ذاك من الذين أثبتت الأحداث إفلاسهم الفكري والإداري؟ في نهاية الأمر كما يشير عنوان السلسلة: صراع على الكراسي تغيب عنه الرؤى المستقبلية والتنموية».

من هنا، ولأننا نعرف التاريخ وتدارسنا أحداثه، ولا نريد أن نقع في فخ القراءات الرومانسية الخاطئة، لا بد لنا من استغلال هذه المساحة لتوجيه دعوة صادقة إلى القيادة السياسية الحالية لاتخاذ موقف حاسم من هذه الصراعات وتهذيبها، وتطويق آثارها وأبعادها وأضرارها، وحماية المصالح العامة من التأثر بها، ومحاولة نقلها من حالة الصراعات العبثية العنيفة إلى التنافس الشريف في خدمة المواطن والوطن، وذلك بداية من الاستثمار في التربية والتعليم، ووضع الضوابط والتشريعات المناسبة لقصقصة أجنحة هؤلاء المتصارعين وتقليص نفوذهم في مؤسسات الدولة وخارجها، وهو ما لمسناه في الفترة الأخيرة من تغيرات إيجابية طالت أجهزة الدولة كافة، واستعادة ثقة المواطن في دولة المؤسسات، وخطابات صريحة ومباشرة تشخص الوضع السياسي بكل مصداقية وتدعو إلى تصحيح المسار ورسم ملامح المستقبل، فالكويت تستحق الأفضل، والتحديات القادمة أخطر مما مضى.

يمكنكم قراءة سلسلة «صراع السلطة: حضرت الكراسي وغابت الرؤى» كاملة على الرابط التالي

مواضيع مشابهة