تداولات العملة الخوارزمية: الثروة المشفرة

الصورة: Getty - التصميم: منشور

سلمان النقي
نشر في 2021/06/14

نبوءة «ميلتون فريدمان»، رسول السياسات الاقتصادية الليبرالية، في 1999 بوجود نظام غير تقليدي لنقل الأموال متحرر من القيود الحكومية والمركزية عبر الإنترنت كانت ضربًا من الخيال، لكن هذه النبوءة تحققت بعد مرور عقد ونيف في شكل العملات الافتراضية المشفرة، وأصبحت واقعًا حتميًا على بنية النظام المالي العالمي وحديث الساعة في المحافل الاستثمارية.

دوَّن التاريخ البشري ظهور أول عملة في العام 600 قبل الميلاد خلال عهد إمبراطورية ليديا. ومع التطور البشري ظهرت العملات الورقية الوطنية التي نعرفها بشكلها الحالي ونتداولها كل يوم، وهي خاضعة لاستراتيجيات تضعها البنوك المركزية لتنظيم تعاملاتها وضبط قيمتها.

بداية صعود نجم العملات المشفرة

صعود نجم العملات المشفرة مؤخرًا بوتيرة جنونية نزع اللثام عن نظام نقدي غير تقليدي، نظام يختلف عن العملات الورقية في المركزية والقوانين، وكذلك في الحركة والقيمة.

عملة البتكوين هي المثال الأبرز والأعلى قيمة بين العملات الافتراضية، وتحكي فصول هذا النظام الجديد من ناحيتي النشأة والحركة. الحكاية بدأت بظهور شخصية مجهولة باسم «ساتوشي ناكاموتو»، نشرت في 2008 «الورقة البيضاء» لمعالجة الإنفاق المزدوج ومركزية التحويلات المالية بواسطة التشفير بشكل خوارزمي معقد، وهذه الورقة مجهولة المصدر صارت الكتاب المقدس لعالم العملات الرقمية.

عوضًا عن البنوك المركزية، تعمل البتكوين عبر تقنية «سلسلة الكتل» (Blockchain)، كشبكة غير مركزية أشبه بدفتر حسابات للمتعاملين بالتحويلات، ومن هذه الشبكة تنطلق حظوة العملات الافتراضية باعتبارها متحررة من وجود طرف ثالث مركزي للتحويلات (peer-to-peer). وخلافًا للعوامل الاقتصادية التي تحدد طباعة العملات الورقية، فإن إصدار البتكوين ومثيلاتها يعتمد على عدد المُعدِّنين (Miners) والمتعاملين، وعلى التطورات التكنولوجية وتكلفة الطاقة.

ديناميكية الحركة

الصورة: Getty

الفصل الأول من حكاية العملة المشفرة كان في 2009، عندما أُجريت أول عملة تحويل للبتكوين على يد «هال فيني»، وكانت قيمتها أقل من دولار. لكن التحولات الدراماتيكية بدأت في 2013، لحظة صعودها إلى 1200 دولار ثم إلى 20 ألف دولار بشكل فجائي في 2017، ليبدأ الاهتمام الإعلامي لفهم هذه الظاهرة.

أغلب التحليلات كانت تصنف البتكوين على أنها فقاعة مالية عابرة بعد تهاوي قيمتها عقب القفزة الثانية في 2018، لكنها اليوم تحولت إلى بالون ضخم لا يُعرف وقت انفجاره بعد كسرها حاجز 60 ألف دولار بفترة قياسية. فهل هي فقاعة يتناوب عليها المضاربون، أم ظاهرة علمية في نظام النقد العالمي كما يصورها مريدوها؟

الارتفاع الأخير والسريع لقيمة البتكوين يؤكد كونها نمطًا رقميًا جديدًا في عالم الأصول الاستثمارية.

في الآونة الأخيرة، تنظر معظم التحليلات إلى البتكوين على أنها أصل استثماري أكثر من كونها عملة، لصعوبة جعلها مقياسًا سعريًا أو وعاء لحفظ القيمة نظرًا لتقلباتها المتكررة، فهي أشبه بالبجعة السوداء التي يصعب التنبؤ بأفعالها.

رغم ذلك، فإن العديد من الدراسات العلمية اتفقت على وجود إشعارات أولية تساعد على فهم ديناميكية حركة سعر البتكوين. فهناك عوامل داخلية تتمثل في المعروض من تداولات البتكوين وتعدينها، والتأثير الأكبر يأتي من الظواهر الاقتصادية المتمثلة في حالة الأسواق المالية وأسعار الصرف والذهب ومعدلات الفائدة. أما جاذبية المستثمرين لهذه العملة فهي رهينة بالقيود التي تفرضها الحكومات والمؤسسات المالية على التداولات، إذ تلعب مؤشرات محركات البحث على الإنترنت مثل «Google Trends» دورًا في رسم تهافت المستثمرين على البتكوين.

الارتفاع الأخير والسريع لقيمة البتكوين يؤكد كونها نمطًا رقميًا جديدًا في عالم الأصول الاستثمارية، فقد ساعد استثمار شركة «تسلا» في البتكوين في الصعود الجنوني لها، والتي يراها مستثمرو «وول ستريت» أداة رقمية وقائية من التضخم أشبه باحتياطي مغاير لأداة التحوط التقليدية الذهب، خصوصًا أن التنبؤات الاقتصادية تنذر بقدوم موجة تضخم بعد جائحة كورونا بسبب ترسبات الحزم التحفيزية. كذلك فإن قبول شركات مثل تسلا وباي بال وماستركارد التعامل بالبتكوين كأداة للدفع أضفى عليها نوعًا من «الاعتماد التنظيمي» في العالم، وبعث شعورًا بالاطمئنان لدى متداوليها.

ومثلما هو الحال في دورة الأعمال (Business Cycle) التي تحكمها متغيرات العرض والطلب، يسهم الرهان على محدودية المعروض من البتكوين في حياكة خيوط ارتفاعها الأخير، فنطاق تعدين البتكوين مجدوَل بحيث لا يتخطى 21 مليونًا بحلول عام 2140، لكن الموجود منها حتى مارس 2021 كان 18 مليونًا، ما يعني أنه لن يكون بإمكان المعدنين إصدار أكثر من ثلاثة ملايين فقط خلال الـ119 سنة القادمة.

يتناقص المعروض من البتكوين بنسبة 2% كل عام، ولهذا يراهن كثير من المستثمرين على نمطها ودورتها، فمثلما تأتي التذبذبات يأتي الصعود.

لماذا تخشاها البنوك المركزية؟

الصورة: Getty

أثبتت السنوات العشر الأولى من عمر البتكوين أنها تتفاعل بحساسية مفرطة مع الأخبار الصادرة من البنوك المركزية في أنحاء العالم، فأي تحرك سلبي يطيح بها أرضًا، والعكس صحيح.

بعض الدول تمنع العملات الافتراضية في المطلق مثل الصين، والبعض الآخر يتركها في حالة غير منظمة بالاكتفاء بمنع المؤسسات المالية من التعامل بها.

خلال القفزة الأشهر لأسعار البتكوين في عام 2017، أطلقت معظم البنوك المركزية في دول العالم تحذيراتها من التعامل بالعملات الرقمية، وكان السبب المعلن هو منع عمليات غسيل الأموال وحماية مستثمريها من أخطار المضاربات التي تقود إلى تذبذبات تفوق مثيلاتها في الأسواق المالية.

ربما تُغفر خشية البنوك المركزية من غسيل الأموال لارتباط العملات الافتراضية بهذه العمليات، والتي فاقت 1.3 مليار دولار في العام الماضي وحده، إنما السبب الحقيقي وراء ممانعة البنوك المركزية لهذه العملات هو خشيتها على أنظمتها المالية وقواعد اللعبة الاقتصادية لدى مؤسسات النقد.

وجود عملات بمحافظ إلكترونية ليست خاضعة لرقابة وتنظيم مركزي وبعيدة عن التأثيرات السياسية يمثل تهديدًا للسياسات النقدية للبنوك المركزية، التي تتلاعب بخيوط حالة الاقتصاد لتحفيزه أو تثبيطه، وخصوصًا أن هذه العملات باتت أداة تحوط جديدة من التضخم، وهذا ما قد يهدد أدوات النقد التقليدية (معدل الفائدة – النقد المتداول) ويضعف العملة الورقية. كذلك، فإن اعتبار العملات الرقمية المشفرة وسيلة جديدة للدفع وتحويل الأموال ينذر بسحب البساط من تحت النظام المصرفي، ويلغي دور الوساطة المالية.

على إثر الاحترازات الاقتصادية يتباين الموقف الرافض لهذه العملات، فبعض الدول تمنعها في المطلق مثل الصين، والبعض الآخر يتركها في حالة غير منظمة بالاكتفاء بمنع المؤسسات المالية من التجارة أو التعامل بها. وعلى الضفة الأخرى من العالم، فإن أكبر الاقتصاديات مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا تشرعن حالة التداول بالبتكوين ومثيلاتها من العملات لدواعٍ ضريبية. فمثل هذه الدول تنظر إلى العملات المشفرة من زاوية أنها أصول وممتلكات تخضع للاستحقاق الضريبي كغيرها من أنواع الاستثمار.

مزارع التعدين في الكويت

رغم القيود الحكومية المفروضة على هذه البيتكوين، تعتبر الكويت تعتبر أحد أهم وجهات تعدينها في العالم، وتحتل المرتبة الثالثة على الشرق الأوسط بعد ليبيا وإيران.

الكويت كحال أغلب شقيقاتها في الخليج، باستثناء البحرين وإمارة دبي، تتخذ موقف «السهل الممتنع» أمام العملات الافتراضية، فلا منعًا ولا دعمًا تجاه تداولات الأفراد، وتكتفي الجهات الرسمية بإطلاق تحذيراتها للمستثمرين من التداول وللمؤسسات المالية من التعامل مع كل موجة صعود في أسعار العملات الرقمية. وبذلك تترك الكويت بيئة العملات الافتراضية بشكل غير منظم، وهذا ما يجعل أحوال «مجتمع البتكوين» يعتريها نوع من الغموض من ناحيتي أعداد المتعاملين وحجم استثماراتهم.

ورغم هذا الغموض، فإن بعض المؤشرات القليلة تفصح عن رواج واسع وقديم للاستثمار بالعملات الافتراضية في الكويت، إذ يشير Google Trends إلى أن باكورة اهتمام الكويتيين بالبتكوين كانت عام 2011، ووصلت إلى القمة عند قفزة أسعارها في 2017، وعاود الاهتمام الارتفاع في مطلع العام الحالي.

ورغم القيود المحلية، تضاعف عدد الكويتيين من مُلاك العملات الافتراضية حول العالم من 12 ألفًا في 2018 إلى 48 ألفًا اليوم، ما يعكس حالة اندفاع محلي مستمر تجاه الثروات المشفرة.

من المفارقات المثيرة في السياق المحلي للبتكوين، أنه ولرغم القيود الحكومية المفروضة على هذه العملة، فإن الكويت تعتبر أحد أهم وجهات تعدينها في العالم، وتحتل المرتبة 23 عالميًا والثالثة على الشرق الأوسط بعد ليبيا وإيران، وفقًا لخريطة جامعة كامبريدج لمزارع تعدين البتكوين. ولا عجب في ذلك، فرخص أسعار الكهرباء المدعومة في الكويت تجعلها وجهة مرغوبة لإنشاء مزارع تعدين البتكوين، فتكلفة التعدين في الكويت تبلغ 1900 دولار، وهي بذلك أرخص من شرائها، آخذين في الاعتبار كذلك وجود مكافأة للمُعدن مقابل فتح كل كتلة للتعدين.

مناخ جديد؟

تفرز حالة التهافت من الكويتيين على العملات المشفرة دلالات واسعة وتنبيهات مهمة لا ينبغي الإغفال عنها. نجد أن «سيكولوجية المال» لدى الفرد الكويتي المندفعة نحو الربح السريع تدفعه إلى دخول مغامرات جديدة، في ظل ضيق آفاق الاستثمار المحلية وانحصارها في ثلاثة أنشطة تقليدية، هي المناقصات الحكومية ومضاربات العقارات والأسهم.

إلا أن المعضلة الأكبر التي تواجه الكويتيين في تداولات العملات الافتراضية هي حالة عدم التنظيم، وكذلك ممانعة البنك المركزي لهذه العملات. فمع انعدام وجود شركات محلية مرخصة للتداول، يلجأ الكويتيون إلى منصات تداول أجنبية للبيع والشراء، مثل منصة «رين» المرخصة من السلطات البحرينية وغيرها.

تتشابه وقائع تداولات البتكوين في الكويت مع أحداث سوق المناخ التراجيدية من جانبي المسببات المتأصلة والمآلات الجارية، فترك الجهات المحلية الحبل على الغارب، واتخاذ موقف المتفرج أمام التداولات الهائلة لآلاف الكويتيين، وإجبارهم على اللجوء إلى منصات أجنبية، كل هذا يذكرنا بمأساة سوق المناخ الذي لم تنظم وزارة التجارة تداولاته، وجعلت فرسانه يتحايلون على القوانين بفتح شركات خليجية والمضاربة بأسهمها في الداخل. ولئلا يطل رأس سوق المناخ من جديد، على الجهات المحلية تأطير تداولات العملات الافتراضية وحفظ حقوق مستثمريها، لحمايتهم من احتمالات هضمها.

مواضيع مشابهة