مع تعاظم القيمة السوقية للعملات الرقمية، والتي تقدر حاليًا بما يقارب تريليوني دولار، ازدادت حدة النقاش بين من يرى فيها عملات المستقبل التي ستحل محل النظام النقدي التقليدي الحالي، وتفكك مركزيته المتجمعة في يد الحكومات والمؤسسات المالية الكبرى، ويغلب على أصحاب هذا الرأي هواة ومهتمون بالتكنولوجيا والبرمجيات. وهناك من يرى في هذه العملات فقاعة اقتصادية يضخمها الهوس بتكنولوجيا لا تقدم أي فائدة اقتصادية واضحة حتى الآن، وهذا هو الرأي السائد في الأوساط الاقتصادية الأكاديمية والمهنية.
سأحاول من خلال هذا المقال أن أبين أبرز الحجج الاقتصادية التي لا ترى في العملات المشفرة (بشكلها الحالي خاصة) أي مؤهل لأن تكون عملة متداولة، أو حتى أصلًا استثماريًا.
كيف تعمل العملات المشفرة؟
هناك تنوع كبير في أهداف وأفكار هذه العملات المشفرة يجعل من الصعب إيجاد تعريف جامع لكل أنواعها، إلا أنه يمكننا تقريبها بالقول إن العملة الرقمية هي سلسلة بيانات مشفرة تشير إلى وحدة العملة، تنظمها غالبًا شبكة نظير إلى نظير (Peer-to-Peer) تسمى بلوك تشين. وعلى عكس النقود التقليدية، فإن الميزة المحورية للعملات المشفرة هي اللامركزية، فهي لا تصدر من قبل الحكومات أو المؤسسات المالية الكبرى، بل تُنتج غالبًا بشكل فردي من خلال معالجة خوارزميات تشفير في عملية تسمى التعدين، تنفذها شبكة من أجهزة الكمبيوتر أو الأجهزة المتخصصة مثل الدوائر المتكاملة الخاصة.
تشير بعض التقديرات إلى أن هناك أكثر من ستة آلاف عملة مشفرة ظهرت إلى اليوم، إلا أن غالبية هذه العملات لم يكتب لها النجاح. وتعمل هذه العملات باستخدام بروتوكولات وخوارزميات متنوعة تخدم عشرات الأفكار والأهداف المختلفة. وقد يتزايد عدد هذه العملات بشكل مطرد نظرًا للسهولة النسبية لعملية ابتكارها. إلا أنه يُعتقد أن أكبر 20 عملة مشفرة تشكل ما يقرب من 90% من إجمالي حجم السوق، بل يُعتقد أن العملة الأقدم والأشهر (البتكوين) تشكل 45% من القيمة السوقية الإجمالية للعملات المشفرة.
وقد بلغ الحماس أشده عند متداولي البتكوين مؤخرًا، حتى باتت عملية تعدينها تشكل قلقًا بيئيًا متزايدًا يتمثل في الاستهلاك المفرط للكهرباء المستخدمة لمعالجة خوارزمياتها الرياضية بهدف التعدين، فقد فاق استهلاك تعدين البتكوين للكهرباء سنويًا استهلاك الأرجنتين بأكملها، وفقًا لتحليل أجري في جامعة كامبريدج.
علمًا بأن معالجة الخوارزميات للتعدين هي عملية تصاعدية، فتعدين كل وحدة بتكوين جديدة يستهلك في الغالب طاقة كهربائية أكبر من وحدة البتكوين السابقة.
ما الذي تقدمه العملات المشفرة أكثر من الورقية؟
مع هذا التعقيد البرمجي والتكاليف الكبرى للإنتاج، يطرح الاقتصاديون سؤالًا جوهريًا: ما الحاجة إلى العملات الرقمية؟ وما المشكلة الاقتصادية التي تحلها هذه العملات؟ فالعملات المعدنية الذهبية والفضية مثلًا ظهرت تاريخيًا كحل لمشكلة عدم التوافق في الاحتياج الخاصة بعملية المقايضة، والتي تحتم احتياج كلا الطرفين في عملية التبادل لسلعة إلى الطرف الآخر تحديدًا.
سيدور جواب مؤيدي العملات المشفرة في الغالب حول عدم المركزية، وعدم سيطرة الدول على إنتاج العملات واستغلالها سياسيًا، وغيرها من العبارات المثيرة والرشيقة، إلا أنها خاوية من أي وظيفة فعلية يعجز عنها النظام النقدي التقليدي لخدمة المتعاملين في الأسواق.
إذا تجاوزنا هذه النقطة، فيبقى السؤال: ما سبب عدم اقتناع أغلب اقتصاديي العالم وكبرى المؤسسات المالية الحكومية والخاصة بفكرة العملات المشفرة بشكلها الحالي، كعملة بديلة أو حتى كأصل استثماري؟
ولفهم ذلك يجب علينا معرفة التوصيف الوظيفي للنقد في علم الاقتصاد.
أولًا، يلعب النقد دورًا حيويًا كوسيلة دفع فعالة ووسيط في التعاملات التجارية. أما الدور المحوري الثاني للنقد فيتمثل في كونه مخزونًا سهلًا للقيمة، يحفظ القدرة الشرائية وينقلها من فترة زمنية إلى فترة زمنية أخرى في المستقبل. وأخيرًا، يمثل النقد وحدة مشتركة لقياس الأثمان والثروات، كما أنه يوفر آلية ثابتة ومستقرة لتحديد الأسعار والقيم للسلع والخدمات. ويُسهل النقد أيضًا عمليات المحاسبة المالية والتقييم الائتماني والإحصاء الاقتصادي.
التقلبات الكبيرة في أسعار العملات الرقمية المشفرة تجعلها غير صالحة لأن تؤدي أيًا من هذه الوظائف بشكل فعال. تقول لايل برنارد عضوة مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، إن «قيمة البتكوين قد تتقلب بمقدار الربع في اليوم الواحد. ومثل هذه التقلبات الشديدة تحد من قدرة الأصل على تحقيق وظيفتين من الوظائف الكلاسيكية للمال: العمل كمخزن ثابت للقيمة يمكن للناس الاحتفاظ به واستخدامه بشكل متوقع في المستقبل، والعمل كوحدة حساب ذات مغزى يمكن استخدامها لتعيين قيمة قابلة للمقارنة للسلع والخدمات». كما أن هذه التقلبات تُفقد هذه العملات المشفرة الملاءمة المطلوبة لتكون وسيلة دفع فعالة.
هل للعملات المشفرة وظيفة مالية حقيقية؟
هناك أمر أكثر تعقيدًا وهو أن النقد جزء من بنية الاقتصاد الحديث بكل تعقيداته، ويدخل بشكل جذري في أغلب النماذج التفسيرية للاقتصاد الكلي. ويمثل العرض النقدي أداة محورية في إدارة الاقتصادات، بل يتداخل العرض النقدي بشكل بنيوي مع جميع القوى المؤثرة في الاقتصاد. ففهمنا لقيمة الدولار الأمريكي مثلًا لا يتم بدون فهم مؤشرات أداء الاقتصاد الأمريكي. كما لا يمكن فصلها عن استراتيجيات تغطية هذه العملات من خلال ميزانيات البنوك المركزية.
إذا استخلصنا أن العملات الرقمية لا تصلح كعملة بديلة للنقد، فهل تصلح أن تكون أصلًا استثماريًا؟ غالبًا سيكون الجواب لا، إذ إن هذه العملات المشفرة ليس لها أي عوائد مستقبلية كالأصول الاستثمارية الأخرى، والتي يمكن من خلالها تحديد قيمة لها.
هنا ربما نجد سؤالًا آخر: هل يمكن اعتبارها كالمجوهرات الثمينة والأعمال الفنية؟ قد يكون هذا أفضل تقريب لها، إلا أن الإشكالية هنا تكمن في أن المجوهرات لها غرض وظيفي هو الزينة، فما الغرض الوظيفي للعملات المشفرة؟ أما القطع الفنية فتكتسب عادة قيمة مضافة لا تنخفض (على الأقل) مع التقادم، بينما المنتج التكنولوجي بشكل عام (البروتوكول أو الخوارزمية في حالة العملات المشفرة) يفقده التقادم قيمته بالمرة في العادة.
لا يزال حجم قبول العملات من قبل الأعمال التجارية عالميًا في مستويات متدنية جدًا.
يصعب إذًا إيجاد وظيفة مالية «عقلانية» للعملات المشفرة الحالية، بعد كونها لا تصلح كعملات أو أصول استثمارية. نعم، توظيف التكنولوجيا المستخدمة أمر آخر قد يتعلق بنوع البرتوكولات والخوارزميات المستخدمة. فلماذا إذًا هذا الارتفاع المتواصل والتماسك في أسعار هذه العملات لفترات طويلة؟ وإذا كانت فقاعة سعرية، فهل يُتوقع أن تستمر لفترات طويلة دون انفجار؟
أفضل إجابة قرأتها كانت لعالم الاقتصاد بول كروغمان، وهي: نعم، قد تستمر هذه الفقاعة السعرية لفترات طويلة دون انفجار إذا توفرت لها سردية تمد المتعاملين بها بالثقة في المستقبل. ولعل براعة المؤيدين للعملات المشفرة تكمن في سرديتهم الشيقة حول الاعتقاد المطلق بسمو فكرة لامركزية العملة، ومنع تلاعب الحكومات بالنظام النقدي واستغلاله، وبدقة التكنولوجيا المستخدمة وجمال ولياقة خوارزمياتها الرياضية (التي قد لا تبرر نفعيتها الوظيفية).
كما لا تفتأ هذه السردية في تذكيرنا بكيف جوبهت أغلب الأفكار التكنولوجية الحديثة (كشبكة الإنترنت) في بدايتها. وعلى كلٍ، فالتبشير والوعود الكبرى بالمستقبل المشرق للعملات المشفرة فقد شيئًا كبيرًا من بريقه مع مرور 12 عامًا على ابتكار أول عملة مشفرة (البتكوين في 2009)، إذ لا يزال حجم قبول العملات من قبل الأعمال التجارية عالميًا في مستويات متدنية جدًا.
أخيرًا، قد يشير البعض إلى الدخول المحدود لبعض البنوك الاستثمارية العالمية في سوق العملات المشفرة، وهو لا يتعدى حتى الآن أمرين: تنفيذ رغبات خاصة لبعض المستثمرين، أو متابعة التطورات التكنولوجيا المالية عن كثب وبشكل مستمر.
يجب أن نفرق هنا في نظرنا لاستراتيجيات الاستثمار في العملات المشفرة بين مستثمر يوزع محفظته ويضع جزءًا هامشيًا منها في العملات الرقمية لتعظيم النطاق الربحي الإحصائي بشكل فني، وبين مهووسين بجمال الفكرة التكنولوجية وعدم مركزية النظام النقدي، وبين مقامرين يلهثون بحثًا عن «طاولة روليت».