منذ العصور القديمة وحتى اليوم، يقال إن التاريخ يكتبه المنتصر، والمنتصر دومًا سلطة، تروي التاريخ أسفل تيجان الملوك وقادة الجيوش والفاتحين العظام.
لكن لا حديث يبقى عن الجنود، أو الثائرين «الصغار»، أو الناس العاديين، الذين شكلوا نواة تلك الأحداث وتروس تلك الحركة التاريخية، سوى ما يعد على الأصابع من ملايين الناس الذين لولاهم لم تقم الحضارة، والإمبراطوريات، والثورات كذلك.
تاريخ الإنسان الصغير
«في داخلك أيها الإنسان تكمن الحقيقة» - القديس أوغسطين.
من بين رواة التاريخ الجدد، الذين يكتبونه لا على لسان المنتصر وإنما على لسان أصحابه، سيدة بيلاروسية مولودة في أوكرانيا السوفييتية هي سفيتلانا ألكسيفيتش، تمثل محصلة أعمالها الأدبية ما بين الرواية والصحافة تأريخًا لحقبة الاتحاد السوفييتي وما بعدها، لكنها تكتب تاريخًا من نوع آخر، لم ترصده من شرفات الكرملين ولا من مذكرات القادة الكبار ووثائق الدولة، وإنما من «شقق المدن، وأكواخ القرى، ومن الشارع، ومن القطار»، كما تذكر في كتاب «ليس للحرب وجه أنثوي».
تصف سفيتلانا نفسها بأنها «مؤرخة النفس والروح»، فهي تكتب «عن الإنسان في التاريخ» وليس التاريخ كمحض أحداث، حيث الإنسان فكرة مجردة، كما في الروايات الرسمية وسرديات البطولة، التي تصير من دون حكاية الإنسان الصغير: فارغة، ومستعملة، كما يصف عنوان كتابها المميز «زمن مستعمل»، الذي تروي فيه حكايات من عاشوا في ظل الاتحاد السوفييتي وما بعد انهياره، محاولة اكتشاف كيف كان هؤلاء الناس، وكيف كانت حياتهم اليومية. جميعهم: من مثقفي الحزب والجامعة، إلى عمال المدن وفلاحي الريف الناجين من المجاعة. من تخلى منهم عن مصيره الشخصي بيد الدولة، ومن اختار التمسك به حتى آخر لحظة، وذلك عبر «الروايات الخاصة التي تُسرد على انفراد، والتي قليلًا ما سردها أصحابها على الجمهور المشبَّع بروح العصر وأوهامه».
في كتابها «آخر الشهود»، يروي العجائز قصص طفولتهم تحت الاحتلال النازي، يتذكرون ملامح آبائهم وأمهاتهم من أعضاء المقاومة.
إنها رواية الذات البسيطة، التي رأت ووعت كل شيء، والتي أصابتها «تخمة العظمة» كما تصف إحدى راويات سفيتلانا، بينما كانت تريد أشياءً أكثر عادية وصغيرة للغاية، كالحب، والثقة في الجار، وحرية الكلام بدلًا من الإمبراطورية، ومسحوق الغسيل بدلًا من أفضل الدبابات في العالم.
هكذا يروي العمال والفلاحون تاريخهم بأنفسهم هذه المرة، بأسمائهم التي لم تُعرف أبدًا، بآمالهم ومخاوفهم، بتأملاتهم وآرائهم التي صاغوها في المطابخ وخافوا التصريح بها، أو تلك التي لم ينصت إليها أحد حتى وقوع كل كارثة.
بينما في كتابها «آخر الشهود»، يروي العجائز قصص طفولتهم تحت الاحتلال النازي، يتذكرون ملامح آبائهم وأمهاتهم من أعضاء المقاومة، ومشاهد دفن الجنود الألمان لهم أحياءً إلى جوار أطفالهم ممن لم تُكتب لهم النجاة، كما يتذكر طفل القسوة التي دفعتهم (أي الألمان) إلى تعليق قطة على المشنقة.
لأجل الإنسان، لا على جثته
شهدت الحرب العالمية الثانية أكبر مشاركة نسائية في التاريخ، خصوصًا بين صفوف الجيش الأحمر، الذي ضم ما يقرب من مليون امرأة سوفييتية.
حرصت سفيتلانا على توثيق الشهادة النسائية على الحرب في كتاب «ليس للحرب وجه أنثوي»، إذ كشفت الفرق الجذري بين إدراك المرأة والرجل للحرب، فإدراك المرأة يميزه تعاطف وحس إنساني عميق واحتقار للعنف، لا يتغنى بالبطولة فقط كما تفعل عادةً حكايات الرجال.
تضيف سفيتلانا أنه دائمًا ما أقصيت تلك الرواية الأنثوية من الأدبيات الرسمية، واحتقرتها السلطة، ربما لأنها خدشت مثالية الإنسان السوفييتي البطل، الذي تضخمت صورته الأيديولوجية والدعائية حتى ابتلع كل ما في الإنسان من مشاعر ومخاوف وحاجات، هي ما تجعله في رأي سفيتلانا إنسانًا حقًا.
لقد هدفت سفيتلانا إلى «تصغير التاريخ الكبير إلى مستوى الإنسان الواحد، في محاولة لفهم شيء من خلال الدموع والمشاعر الحية، إذ تظهر ظلال الخوف والألم، لتجد أن الروح الواحدة أَصعب على التنبؤ والفهم مما هو في التاريخ».
الأبطال حقيقون، بعضهم وحشي للغاية، وبعضهم الآخر رقيق إلى أقصى حد.
في ردها على منتقدي الرواية التاريخية الخاصة أو الفردية للغاية في كتاباتها، تؤكد في «ليس للحرب وجه أنثوي» أن الحياة التي ترويها هي ببساطة المادة الخام للحياة «كما نثرتها يد الرسام، ولم تنظفها»، فهي روايات لا تمثل «حدث الوقائع» بقدر تمثل «حدث المشاعر»، الذي تعده الواقع نفسه، وهو واقع مَن حرروا أوروبا ثم عادوا إلى المساكن الجماعية أو معسكرات الاعتقال بتهمة عداء الشعب. واقع من تلصصوا على جيرانهم، ومن أحبوا وكتبوا الأشعار، ثم شنقوا أنفهسم صغارًا. من آمنوا حقًا بالمثل العليا، ومن لم يؤمنوا لكنهم اتبعوا النظام. من سكنوا الأكواخ، ومن ارتزقوا من الخوف والصمت. من قرأوا الكتب وذهبوا إلى المسارح، ومن عُدنَ من الحرب بشعر أبيض.
هو إذًا تاريخ اكتشاف «ما في الإنسان من إنسان» كما يقول دوستويفسكي، فالأبطال حقيقون، بعضهم وحشي للغاية، وبعضهم الآخر رقيق إلى أقصى حد. بعضهم يسلِّم جاره إلى الحبس، بينما بعضهم الآخر يضحي بحياته أو بخبزه في المجاعة من أجل رفيقه.
هكذا يثيرون أسئلة غير محسومة، وأظن أنها ستظل غير محسومة على الأقل لفترة طويلة، حول ما إذا كان مصير كل فكرة نبيلة الواقعي هو الوحشية، ومصير كل ثورة معسكرات الاعتقال، وهل يظل الإنسان إنسانًا حقًا بعد مشاركته في الحرب، أم أن تلك الفكرة المجردة المدعوة «إنسانية» هي مجرد وهم، أم أنها على افتراض حقيقتها، هشة أكثر من اللازم، إذ تكمن هشاشتها في حاجة الإنسان للطعام والدفء قبل أي شيء. صحيح أنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» كما يقول المسيح، لكن لا حياة ممكنة أصلًا دون خبز.
المساواة والحلم والواقع
هل كان مصير الثورة الروسية، وكل ثورة أخرى ماضية كانت أم مستقبلية، هو باختصار «الاتحاد السوفييتي» وتحويل الناس إلى تروس وعبيد حتى وإن لم يؤمنوا بآلهة في السماء؟ لقد أنكر الناس الله، لكنهم عبدوا لينين، وهكذا تقريبًا في كل مكان، تتبدل الآلهة حتى وإن لم تصف نفسها بذلك، وما يتغير هو الاسم فقط.
الأكيد أن الأحلام النبيلة تنهار، وتتوحش حين تهمل، وتستلب الإنسان الفرد محولة إياه إلى كتلة ضخمة من الخوف والكذب والشعارات. وحين تعتاش الأمم على دماء الإنسان الذي قامت لأجله، بقمعها لفرديته ورغباته وتحويله إلى مجرد ترس يدور في المصنع وبيدق يحارب، حتى يسهل التخلص منه في أي لحظة باسم الدفاع والحفاظ على اليوتوبيا أو القضية الكبرى، تلك الأخيرة التي تقضي بالموت على نفسها حين تقضي بالموت على الإنسان، فيصبح مصيرها العدم، ذلك لأن أهداف الأرض أو الثروة أو الوطن ليست ذات قيمة بغير حق الإنسان في التمتع العادل بها، دون خوف أو رقابة.
لقد صنع الناس (أبطال سفيتلانا) تاريخ كل مكان وكل حدث، بعضهم مات بشرف أو عاش زاهدًا، بعضهم قال الحقيقة، أو أنكرها حتى أمام نفسه. بعضهم يخلي مسؤوليته عن الفظائع بحجة أنه لم يكن يعلم، أو أنه آمن أكثر من اللازم حتى صار مغفلًا، بينما بعضهم الآخر يتحمل مسؤوليته كاملة بحجة أن الأمور لم تكن لتسير بغير ذلك.
لم تمر تلك السنوات التي تمثل عمر الاتحاد السوفييتي هباءً ولا دون أن تعلمنا شيئًا عن أنفسنا، حتى وإن اختزل كثيرون عبثًا ذلك التاريخ في إنسان ذي بعد واحد، وصورة رمادية لأناس ليس لديهم سوى الخوف. هكذا تحكي بطلة سفيتلانا، الممرضة في المقاومة ضد النازية سيرغييفنا رومانوفسكايا، عن كيف ظل الناس أنقياء رغم أنهم كانوا عميانًا أيضًا:
«أتتصورين أن تذهب معي إلى المقاومة امرأة حامل، كانت تنتظر ولادة طفل، كانت تحبه، كانت تريد أن تحيا. كانت تخاف بالطبع، لكنها ذهبت للمقاومة، ليس من أجل ستالين، بل من أجل أبنائها، من أجل حياتهم المقبلة».