الاقتصاد المعرفي: هل بياناتنا هي النفط الجديد؟

الصورة: FuturistGerd.com  - التصميم: منشور

محمد البوص
نشر في 2021/09/28

اقتٌبس عنوان المقال من مقولة لعالم الرياضيات ورجل الأعمال البريطاني كلايف كومبي: «البيانات هي النفط الجديد»، وأضاف لهذه المقولة الطبيب والمؤلف الروائي الأمريكي مايكل بالمر: «مثل النفط، البيانات ذات قيمة، ولكن دون تكريرها فلا يمكن استخدامها حقًا. وبينما يجب تحويل النفط إلى غاز أو بلاستيك أو مواد كيميائية إلخ، فمن أجل إنشاء كيان ذي قيمة يؤدي للنشاط المربح، يجب تقسيم البيانات وتحليلها حتى يكون لها قيمة».

يعتبر الوصول إلى المعرفة غاية المجتمعات والأفراد، وهذا لا يتم دون العناية بالوحدات البنائية للمعرفة، وهي المعلومات، ولا يمكن الحصول على المعلومات دون تحليل الوحدات البنائية للمعلومات، وهي البيانات. ويساعدنا في ذلك علوم البيانات والإحصاء والتقنيات الرقمية للاستفادة من البيانات وتحويلها بعد ذلك إلى معلومات مفيدة، والتي بتراكمها تتحول إلى معرفة.

وتزداد أهمية هذه العلوم في الأزمات، مثل وقت انتشار وباء كورونا، حين تصبح أهمية بناء البيانات وتحليلها مسألة حياة أو موت، إما لإنقاذ الأرواح ومواجهة الفيروس أو لتقليل الأضرار الاقتصادية بعد الأزمة. ويضطر كل من الأفراد والحكومات إلى اتخاذ قرارات سريعة في الأزمات، غالبًا تحت ضغوط شديدة، وهذه القرارات لا تكون جيدة دون أن تكون مبنية على توافر المعلومات للجميع، فاحتكار المعلومات يحول دون مشاركة العامة في صياغة القرار المستنير.

توصلت دراسة أجراها الدكتور شينجي لاي من جامعة ساوثهامبتون، إلى أنه كان بالإمكان أن يكون انتشار وباء كورونا أقل بـ86% مما هو عليه لو أعلنت الصين قبل 20 يناير 2020 بأسبوعين عن الوباء صراحة ودون تكتم. وذكرت منظمة مراسلون بلا حدود أن السلطات الصينية منعت وصول المعلومات حول الوباء عبر وسائل الإعلام، مما أسهم في تعطيل حالة الطوارئ العامة، والتي كان من الممكن أن تجنبنا الجائحة أو على الأقل تساعد في إنقاذ الأرواح.

كيف تدير الدول المتقدمة المعرفة؟

الصورة: blogs.loc.gov

بدأت الدول الغربية في التعامل مع المعلومات في وقت مبكر جدًا، فأول قانون في العالم لحرية المعلومات صدر في السويد عام 1766، وكفل هذا القانون «حق الوصول العام» إلى الوثائق الرسمية والمعلومات دون حجب، وفسر مبدأ حق الوصول العام على أنه ضمان لحق العامة في الاطلاع على الأنشطة التي تمارسها الوكالات الحكومية والوثائق الرسمية ما لم تكن سرية، وحتى الوثائق السرية يكون التعامل مع كل طلب لها بشكل فردي، ويخضع تصنيفها بالسرية للاستئناف والمراجعة في حال إثبات الطاعن أمام المحكمة صفته ومصلحته المباشرة في المعلومات والوثائق التي يريد الوصول لها. وخضع هذا القانون منذ ذلك الحين لعدة تعديلات حتى يومنا هذا، ليعطي حرية أكبر للوصول إلى المعلومات.

تبنت الثورة الفرنسية حق الوصول إلى المعلومات في إحدى وثائقها التي صدرت عن الجمعية التأسيسية الوطنية ضمن «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» عام 1789. وتكمن أهمية هذا الإعلان في حجيته الدستورية في القانون الفرنسي حتى يومنا هذا. ففي يونيو 2020 منحت المحكمة الإدارية العليا في فرنسا أحد الباحثين حق الاطلاع على الأرشيف الرئاسي بخصوص دور فرنسا الذي لعبته في الحرب الأهلية في رواندا قبل وبعد الإبادة الجماعية عام 1994. ورغم سرية هذه البيانات، فإن المحكمة ذكرت في حكمها أن الباحث لديه «حق مشروع» في الوصول إليها، وذلك «ليسلط الضوء على نقاش يفيد المصلحة العامة».

واليوم، يبلغ عدد الدول التي لديها تشريعات تسمح بحرية تداول المعلومات وتعطي حق الوصول لها 127 دولة، وفقًا لآخر إحصاء صادر عن إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة (UNDESA)، والتي تعتبر بمثابة الأمانة العامة لمتابعة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، وذلك نظرًا لوجود مبدأ «حق الوصول للمعلومات، أو حرية الوصول للمعلومات» ضمن أهداف التنمية المستدامة، وتحديدًا الهدف رقم 16 بعنوان «مؤسسات سلمية وعادلة وقوية».

أصول غير ملموسة

البيانات مجرد حقائق أو أرقام، وهذا يعتبر أجزاء من المعلومة أو «الوحدة البنائية» للمعلومة، فالبيانات ليست معلومات في حد ذاتها. عندما نخضع البيانات للمعالجة أو التفسير أو التنظيم أو التقسيم أو التقديم بشكل يجعلها مفيدة وذات مغزى، حينها تتحول البيانات إلى معلومات. وبشكل عام يعد توفر المعلومات سياقًا للبيانات، فعلى سبيل المثال، لو اعتبرنا قائمة التواريخ بيانات، فهي مجرد أرقام حتى يرتبط بها تفسير بأي شكل كان ليجعل هذه التواريخ معلومات، مثل تواريخ العطلات.

هناك اتفاق على اعتبار البيانات والمعلومات أصولًا غير ملموسة، وقد فرضت هذه الحقيقة نفسها على أرض الواقع، فمثلًا بلغت القيمة السوقية لشركة مثل فيسبوك في 2021 ما يعادل تريليون دولار، بينما بلغت قيمة أصولها الملموسة (أي ما تملكه من مبانٍ وأماكن وأجهزة ومكاتب إلخ) نحو 150.7 مليار دولار، والفرق بين القيمتين يصل إلى 849.3 مليار دولار، وهو قيمة الأصول غير الملموسة وما تحتويه من بيانات ومعلومات قُدرت قيمتها بناء على تخمينات المتداولين في الأسواق لقيمة البيانات والمعلومات التي تمتلكها فيسبوك.

يزداد النقاش اليوم حول كيفية إدراج البيانات والمعلومات كأصول غير ملموسة في الميزانيات، وهذا النقاش يصطدم بسؤال يتمسك به المحاسِبون حين يصيغون الميزانيات: كيف يمكن تقدير قيمة البيانات والمعلومات؟ لا توجد حتى اليوم طريقة معتمدة توفر حلًا لتقدير قيمة البيانات والمعلومات. فالأصول غير الملموسة الأخرى مثل براءات الاختراع وحقوق النشر وقوائم العملاء والمصنفات الأدبية والعلامات التجارية وحقوق البث وغيرها، قابلة للإدراج في الميزانيات، على عكس البيانات والمعلومات ذات القيمة غير المستقرة.

يقدم الكاتب دوغلاس لاني في كتابه Infonomics طرقًا نظرية مقترحة لتقدير قيمة البيانات والمعلومات، ويحاول الإجابة على سؤال «كيف نقدر قيمة البيانات والمعلومات؟».

ويذكر لاني أنه لكون البيانات بحاجة للمعالجة المستمرة للاستفادة منها، لذا فتكلفة المعالجة هي أحد العوامل المحددة لهذه القيمة، كما أن سرية المعلومات ترفع قيمتها عن تلك المشارَكة مع أطراف أخرى. وعلى العكس في حالات أخرى يكون انتشار المعلومات وكثرة تداولها بين المستخدمين سببًا لارتفاع قيمتها، «فمقطع الفيديو ذو الـ50 مشاهدة على يوتيوب ليس بذات قيمة المقطع ذي الـ50 مليون مشاهدة».

حالة الكويت: الجهل المؤسسي بإدارة المعرفة هي أمّية جديدة تطرق الأبواب، فمن دعاها؟

الصورة: Getty

من الواضح عدم وجود جهة مركزية تدير عملية جمع البيانات وإدارة المعرفة بشكل استراتيجي، فالحكومات المتعاقبة ركزت الجهود لتنجح بدورها كمزود خدمة أكثر من تخصيص الموارد تجاه دفع عملية تنظيم المعرفة وإدارتها إلى الأمام، وهذا يتضح من البنية التحتية للبيانات في الهيكل الحكومي، فالبيانات لها صفة بنائية وتراكمية، ولذلك فإن الجهات المعنية بجمعها ومعالجتها تحتاج لأن تكون موحدة، فلا يوجد تفسير لتعدد وجود جهات مثل الجهاز المركزي للإحصاء، والهيئة العامة للمعلومات المدنية، وأمانة المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية، وكلها تعمل بشكل منفصل، وكذلك الهيئة العامة للاتصالات وتقنية المعلومات والجهاز المركزي لتكنولوجيا المعلومات، رغم أن «تقنية المعلومات» هي ذات المعنى في الترجمة العربية لـ«تكنولوجيا المعلومات».

كما أن التعامل مع البيانات وتحليلها لإيجاد معلومات مفيدة عملية لا تنفصل عن مبدأ حق الاطلاع على المعلومات أو حرية الوصول لها، فكلاهما يلتقيان في استراتيجية إدارة المعرفة وتنظيمها. ففي الكويت صدر أول قانون لتنظيم حق الاطلاع على المعلومات رقم 12 لسنة 2020، وأعطى الحق للأشخاص في الاطلاع على المعلومات التي بحوزة الجهات، سواء كانت المعلومات خاصة أو عامة، إلا أن الشرط الذي يجب أن يتوفر في مقدم الطلب هو أن يكون «ذا صلة مباشرة».

لم يُشر دستور دولة الكويت سنة 1962 صراحة إلى حق الاطلاع على المعلومات أو حرية الوصول لها، رغم أن هذا الحق معترف به كأحد حقوق الإنسان وفقًا لعدة مواثيق دولية، ومنها قرار الجمعية العامة سنة 1946، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية سنة 1966، وإعلان الأمم المتحدة حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي سنة 1969، وأخيرًا اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد سنة 2003، وغيرها من مواثيق دولية أخرى.

إيجاد قانون لـ«تنظيم حق الاطلاع على المعلومات» يعتبر أفضل من العدم، ولكن ما زالت هذه الخطوة قاصرة عن بلوغ الغاية المستحقة.

ورغم أن هذا القانون جاء متأخرًا، لكن أن يأتي متأخرًا أفضل من ألا يأتي، برغم وجود بعض الملاحظات عليه، مثل تقييد حق الأشخاص في الوصول للمعلومات العامة لعدم تحديد ضوابط «شرط الصلة المباشرة» بين المعلومات العامة وطالبها، فضلًا عن غياب دور الأجهزة الحكومية المتخصصة مثل الجهاز المركزي لتكنولوجيا المعلومات مثلًا في مساعدة الجهات الحكومية على تنفيذ الالتزام التشريعي الملقى على عاتقهم، من خلال إيجاد قوالب موحدة للمعلومات التي يراد تحديثها وأرشفتها لاستدعائها وقت الحاجة وفق ما ذكر في القانون.

من الملاحظ أيضًا أن قانون تنظيم حق الاطلاع على المعلومات توسع في حالات حظر الاطلاع على المعلومات وذلك بهدف حماية المعلومات، فقد حظر القانون الاطلاع على المعلومات في 10 حالات. وبغض النظر عن حالات الحظر، أعطى القانون لمجلس الوزراء صلاحية حظر أي معلومات أخرى يرى سريتها بعد العرض على الوزير المعني. وكان من الأولى إضافة شرط مهم وجوهري لنجاح القانون، وهو عدم السماح للحكومة بحظر المعلومات من أجل التستر على سوء الإدارة الحكومية وغياب الكفاءة في العمل التنفيذي، أو إخفاء المعلومات التي تجنب المسؤولين الحكوميين الإحراج أمام الرأي العام.

يطل علينا في 28 سبتمبر اليوم العالمي لحق الجميع في الحصول على المعلومات تحت اسم «اليوم الدولي لتعميم الانتفاع بالمعلومات». وبمراجعة قانون الكويت بشأن تنظيم حق الاطلاع على المعلومات، نستطيع أن نستنتج أن الاشتراطات المقيدِّة للوصول إلى المعلومات العامة جعلته أشبه بقوانين الخدمة المدنية التي تنظم علاقة الموظفين بجهة عملهم وحقهم في التظلم، مع إعطاءهم الحق في الاطلاع على المعلومات والقرارات والوثائق التي تمس حقوقهم، إذ أنه من الواضح أن الذي يستطيع الاستفادة من القانون دون قيود معرقلة هم فئة موظفي الدولة فقط، وذلك لانطباق «شرط الصلة المباشرة» المذكور في القانون بين الموظفين والمعلومات التي يطلبونها من جهة عملهم. ومما لا شك فيه أن إصدار القانون «بهذه القيود» لا يخدم الهدف من إيجاده، وهو تسهيل وصول العامة للمعلومات.

السير بطيئًا أفضل من الرجوع إلى الخلف، ولكن

سبق وذكرنا أن إيجاد قانون لـ«تنظيم حق الاطلاع على المعلومات» يعتبر أفضل من العدم، ولكن ما زالت هذه الخطوة قاصرة عن بلوغ الغاية المستحقة. فالقانون بشروطه المقيدة للوصول إلى المعلومات لا يخدم عملية تعزيز الشفافية والحوكمة والمحاسبة ومكافحة الفساد وتعزيز النزاهة. وبغض النظر عما سبق من قيم، فتعميم الانتفاع بالمعلومة يتيح للرأي العام أن يكون مشاركًا في صنع القرار بشكل بناء.

كما أن عامل الحماس لا يكفي وحده لمساعدة الكويت على التحول إلى الاقتصاد المعرفي والرقمي، فالتجارب تشير إلى أن توفير البيئة التنظيمية الممكّنة لهذا التحول يعتبر أكثر فائدة من عامل الدوافع، لذلك فإعادة هيكلة الأجهزة التي تدير المعرفة في الجهاز الحكومي لخلق بيئة تنظيمية فاعلة وبنية تحتية للبيانات، بات خطوة ضرورية اليوم لمساعدة متخذي القرار على اتخاذ قرارات أكثر فعالية وأكثر سرعة وأكثر استنارة، إذ لا يمكن رسم سياسات عامة دون معالجة البيانات.

وبات واضحًا اليوم تزايد التقدم بالتكنولوجيا الرقمية، ويتزامن هذا مع نمو البصمة الرقمية لمستخدمي الإنترنت حول العالم، وازدياد الحاجة لجمع وتخزين ومعالجة البيانات، لما لهذه العملية من انعكاس على جودة الحياة ودعم الابتكار وخلق قيم عامة، والأهم لكون هذه العملية تمثل استثمارًا عالي المردود. لذلك فالطموح نحو التحول للاقتصاد المعرفي لن يتم دون العناية بوحدة البناء لهذا الاقتصاد، وهي «البيانات».

مواضيع مشابهة