في الحروب، وسط الدمار الذي طال كل شيء، الجثث المتناثرة في الأرجاء، الأطفال المقتولون غدرًا، الأحياء الذين تذرف قلوبهم دمًا، ترى الاستثمارات على حالها، تزيد ازدهارًا يومًا بعد يوم، المصانع قائمة لم تُكسر لها نافذة، والبضائع تخرج إلى المواني في مواعيدها دون تأخير، ويجني أصحابها الملايين وكأنهم يعيشون في برج عالٍ لا تمسه نيران الحرب، ويدلنا مقال نُشر على موقع «يور ميدل إيست» على السر.
البيزنس المشبوه
تمارس بعض الشركات العالمية العاملة في مناطق الحروب أنشطة مشبوهة أخلاقيًّا، لضمان عدم تأثر مصالحها واستمرار عمل مصانعها وتدفق البضائع دون توقف رغم الصراعات القائمة،من ضمنها شركة الإسمنت الفرنسية السويسرية «لافارج هولسيم»، التي اعترفت أخيرًا بالممارسات غير المقبولة التي لجأت إليها بين عامي 2014 و2015 ليستمر العمل في مصنعها الموجود في بلدة الجلبية السورية.
اتُّهمت الشركة بدفع الضرائب لتنظيم «داعش» وشراء البترول منه لاستخدامه في صناعة الإسمنت، واستغل «داعش» هذه الأموال في شراء الأسلحة وإشعال الحرب في المنطقة، واستمر التعاون بينهما حتى استولى التنظيم على المصنع.
لماذا لا يهتم رجال الأعمال بالطرق التي ستُصرف فيها أموالهم المدفوعة للتنظيمات الإرهابية؟
يمتلئ التاريخ المعاصر بالفضائح التي تكشف تمويل أصحاب الأعمال للجماعات المسلحة، ودورهم في استمرار الحروب وتعاظمها.
يذكر المقال شركات الموز، التي استمرت في دفع الرشاوي للفرق الكولومبية شبه المسلحة منذ عام 1990 حتى 2000 لحماية مكاسبها، وصُنَّاع الجواهر الذين تاجروا في «الألماس الدموي» الذي تبيعه الفرق العسكرية لدعم أنشطتها في الكونغو وليبيريا، ومُصنِّعي الهواتف المحمولة المتهمين باستخدام معادن مستخرجة من محاجر إفريقية تسيطر عليها الجماعات العسكرية.
قد يعجبك أيضًا: كيف يعيد المال تشكيل معتقداتنا؟
لماذا لم يهتم رجال الأعمال بالطرق غير الإنسانية التي تُصرف فيها أموالهم المدفوعة لتلك الفرق؟ هل لأنهم سيجنون من ورائها المزيد من الثروة؟ أم أنها أخطاء غير مقصودة سببَّتها قرارات غير حكيمة؟
حلول تجارية لإراحة الضمير
يتمثل الحل الأفضل في عدم الاستثمار في مناطق خطرة منذ البداية.
في المناطق التي لا تزال منهمكة في الحروب، وفي البلاد التي أنهت صراعاتها للتو وبدأت مرحلة الشفاء من الآثار المدمرة التي لحقت بها، تتحول شركات الأعمال إلى شريك أساسي في الشأن العسكري، سواءً بإرادتها أو رغمًا عنها.
ورغم القواعد الأخلاقية التي تتبناها الشركات الكبيرة وتتغنى بها، إلا أن هذه الأخلاقيات ليست كافية للتوفيق بين رغبتها في الربح وحقوق الإنسان الأساسية، فنجد شركة «لافارج هولسيم» تعلن رغبتها في أن تصير رائدةً عالميًّا في مجالها، وأن تجعل من العالم مكانًا أفضل، لكن هل فعلت ذلك في سوريا؟
فضَّلت الشركة أن تكون رائدةً في مجالها فقط، وأهملت تحويل العالم إلى مكان أفضل حين تعارضت رغبتها في استكمال مسيرتها الاقتصادية مع الوضع الذي تمر به سوريا.
قد يعجبك أيضا: من إعلانات نانسي عجرم إلى الحملات الخيرية: كيف تغيرت استراتيجية العلامات التجارية لجذبنا؟
تضم مناطق النزاع رجال أعمال لا يعبؤون بأخلاقية ما يفعلونه، كما تضم مستثمرين حيارى، يقفون على أرض محايدة، لا يعرفون ما الأصح لفعله في مثل هذه الحالات المربكة، يحاولون الالتزام بالاتفاقات التي عُقدت، وحماية موظفيهم، ويسعون وراء حلٍّ وسط يُرضي ضمائرهم ولا يؤثر على أعمالهم، آملين في تغيير الأحوال بسرعة ليخرجوا من هذا الموقف الذي لا يُحسدون عليه.
يتمثل الحل الأفضل لتجنب هذا المأزق في عدم الاستثمار في مناطق خطرة منذ البداية، أو على الأقل سحب الأعمال من البلاد بمجرد اندلاع أي كارثة، وهذا ما فعلته شركة النفط الفرنسية «توتال»، إذ غادرت سوريا عام 2011 عندما بدأت الثورة، كما خرجت شركة الغاز الصناعي «إير ليكويد» من شرق أوكرانيا لمَّا قرر الانفصاليون الموالون لروسيا السيطرة على التجارة.
ملاحقة «البيزنس القذر» قانونيًّا
كانت الشركات لتبقى قليلة الحيلة دون وجود الوسطاء، الذين يمثلون حلقة وصل بينها وبين الجماعات المسيطرة على منطقة النزاع. ولا يمكن إغفال الدور الذي يلعبه المسؤولون المحليون في هذه الوساطة، وكذلك المغتربون العرب، الذين تجعلهم جنسياتهم أقل عرضةً للخطر، وفي نفس الوقت يمكنهم التواصل مع السكان المحليين باللغة ذاتها.
يجد المسؤولون عن إدارة الأعمال في هذه البلاد أنفسهم تحت ضغط شديد يجبرهم على التساهل وتقديم تنازلات، ومنذ اللحظة التي يستجيبون فيها يصعب عليهم التراجع. ولعل الخطأ المصيري الذي وقعت فيه شركة «لافارج» أنها لم تعلن بوضوح حدود التعامل مع شركائها المحليين، والخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه وإلا أُلغيت جميع اتفاقيات العمل بين الطرفين.
قد يعجبك أيضًا: الصلاة تواجه البيزنس: قصة بترول داكوتا كما يرويها أحد السكان الأصليين لأمريكا
اتُّخذت عدة إجراءات ضد الشركات الدولية التي تدور حولها الشكوك، فيذكر المقال على سبيل المثال أن مؤسسة «Sherpa» الفرنسية للمحاماة، التي تدافع عن ضحايا الجرائم المالية، رفعت دعوى قضائية ضد شركة «لافارج» تتهمها بدعم الإرهاب، كما أصدرت فرنسا قانونًا يفرض على الشركات العالمية إعلان الإجراءات التي تتخذها لحماية أعمالها في مناطق الاضطرابات.
لماذا يصر بعض رجال الأعمال على استمرار نشاط شركاتهم في ظل الحروب الخطيرة والنزاعات؟ هل لأنهم يعلمون أن للحرب مزايا، فهي تجلب لهم العمالة الرخيصة والمواد الخام المسروقة؟ أم أنهم لا يرغبون إلا في استمرار العمل على حاله دون تغيير؟
هل تعاون الشركات العالمية مع الجماعات المسلحة قلة حيلة أم دهاء؟