عندما نفكر في التغير المناخي، غالبًا ما تخطر على بالنا العواقب البيئية التي تنتج عنه، مثل ارتفاع منسوب المياه أو ارتفاع درجات الحرارة العالمية أو ذوبان الكتل الجليدية.
تؤثر هذه التحولات في الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات على السواء، ففي المناطق المهددة بدرجة أكبر بهذه التغيرات، مثل مدينة ميامي الأمريكية، تُعاد تهيئة البنيات التحتية مثل محطات الصرف والحواجز البحرية ومواقف السيارات، لمواجهة ارتفاع مستويات سطح البحر والفيضانات التي قد تتبعها.
لكن عددًا من الخبراء يرون أن هذه التأثيرات قد تكون البداية فقط، لأن التغير المناخي سيؤدي إلى قلب وجه قطاعات مهنية بأكملها، وسيتعيَّن على المخططين الماليين والمزارعين والمهندسين المدنيين والأطباء أن يبدلوا طريقة مواجهتهم للتحديات المستقبلية، إذ لن يقتصر الأمر على مخططي المدن فقط.
يعني هذا أن هناك نتيجة أخرى لتغير المناخ غالبًا ما تسقط من حسابات المحللين وواضعي السياسات، أي تأثيره في مجال العمل ومتطلباته المتغيرة مستقبلًا، ويحاول مقال منشور على موقع «بي بي سي» أن يستكشف تداعيات هذه الظاهرة على بعض القطاعات ومن يشتغلون بها.
واقع وتحديات: آثار التغير المناخي
يصعب معرفة تأثير تغيير المناخ في مختلف الصناعات على نحو دقيق، لكن هناك بعض التغيرات التي يمكن أن نراها فعلًا، فالكوارث المرتبطة بالمناخ، مثل الجفاف والأعاصير والزلازل، يصل أثرها إلى خارج المناطق السكنية التي تضررت منها، مثلما حدث عندما ضرب زلزال مناطق في اليابان في إبريل 2016، ممَّا ألحق أضرارًا بالمصانع التي تبيع قطع غيار شركة «تويوتا» للسيارات، وأجبرها على تعليق الإنتاج.
حتى قطاع الصحة لن يسلم من هذه الانعكاسات السلبية، فإضافةً إلى التأثير على مدى توفر المياه النظيفة والغذاء، سيزيد الطقس الأكثر دفئًا من خطر الإصابة بأمراض مثل الملاريا وحمى الضنك وتفاقم أوبئة مثل فيروس زيكا، وتتوقع منظمة الصحة العالمية أنه بين عامي 2030 و2050، سيسبب تغير المناخ ربع مليون حالة وفاة إضافية سنويًّا.
خلال المراحل الدراسية، لم يتلقَّ المهندسون المدنيون ولا مخططو المدن تدريبًا مناسبًا للتعامل مع تغير المناخ.
لإدراك حجم الخطر، يشير تقرير المخاطر العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي، الذي يستند إلى تقييمات 750 خبيرًا، إلى أن واحدًا من أكبر خمس أخطار تواجه العالم في عام 2017 هو أسلحة الدمار الشامل، أما الأخطار الأربعة المتبقية كلها فتتصل مباشرةً بالمناخ، وهي الظواهر الجوية المتطرفة، وأزمات المياه، والكوارث الطبيعية الكبرى، وفشل استراتيجيات التخفيف من آثار التغير المناخي والتكيف معه.
على الرغم من التحدي الضخم الذي يواجهه العالم في السنوات القليلة القادمة، يبقى عدد الموظفين المؤهلين لدمج النماذج المناخية في تخطيطهم للمستقبل دون المستوى المطلوب، حسب قول المدير التنفيذي لرابطة موظفي تغير المناخ، «دانييل كريغر».
يرى كريغر أننا حتى الآن ليس لدينا الأشخاص المناسبون وذوو المهارات المناسبة في الأماكن الصحيحة، فلا المهندسين المدنيين ولا مخططي المناطق الحضرية ولا المهندسين المعماريين ولا مسيِّري المدن تلقوا تدريبًا مناسبًا للتعامل مع تغير المناخ خلال دراستهم، وقد أصبح كل هذا الآن حيويًّا ومطلوبًا.
قد يعجبك أيضًا: ثورة الكوكب: لماذا تدعونا الأرض لإسقاط النظام؟
المستقبل للطاقات المتجددة
حسب تحليل البيانات الذي أجراه موقع «لينكدإن»، ترتبط قائمة المهارات التي يطلبها أصحاب الأعمال بشدة في الوقت الحالي بالتكنولوجيا بصورة وثيقة، ويقول بعض المحللين إن الطريقة التي غيرت بها التكنولوجيا متطلبات سوق العمل اليوم قد تحدث بنفس الدرجة مستقبلًا مع التغير المناخي.
بعد انخفاض أسعار النفط تضاءلت فرص العمل في ذلك القطاع، في مقابل ارتفاع جاذبية وظائف الاقتصاد الأخضر.
الطاقة من بين المجالات التي تشهد هذا التحول التدريجي، ففي بريطانيا مثلًا، ارتفعت نسبة إعلانات الوظائف في قطاع الطاقة المتجددة من 32.9% في الربع الأول من 2014 إلى 51.5% في 2017، ممَّا يرجح أن المتخصصين في قطاع الطاقات البديلة (الطاقة الحيوية والحرارية الأرضية والشمسية والكهرومائية والرياح) ستكون فرص توظيفهم في قادم الأيام أفضل.
أصبح التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة المحافظة على البيئة توجهًا عالميًّا، وحدث هذا نتيجة مجموعة من العوامل، من بينها تنافسية الغاز الطبيعي كبديل عن النفط، الأمر الذي انعكس على الوظائف في تلك القطاعات.
عامل آخر دفع بهذا التحول قُدُمًا، هو الاهتمام المتزايد لأصحاب العمل والموظفين بتخفيض انبعاثات الغازات التي تُسهم في تغير المناخ، فبعد الانخفاض المستمر في أسعار النفط، تضاءلت فرص العمل في قطاع البترول، ومعها تراجع اهتمام طالبي العمل بهذا القطاع، في مقابل ارتفاع جاذبية وظائف الاقتصاد الأخضر (المرتبط بالبيئة).
الاتجاه المتزايد نحو صناعات صديقة للبيئة سيرفع الطلب على الكفاءات التي لديها فهم جيد لتحديات التغير المناخي والسبل الكفيلة بمواجهة تأثيراته، فعلى سبيل المثال، ينبغي على المسؤولين عن سلاسل الإنتاج والتوريد أن يُدخلوا في اعتبارهم الظواهر الجوية المتقلبة المحتملة، التي قد تؤثر سلبًا على سير عملية تصنيع ونقل المنتجات.
تظهر هذه النقلة بصورة جلية في الرواتب التي تدفعها الشركات لمن يملكون مهارات في التعامل وتقييم تبعات التغير المناخي، إذ وجدت دراسة استقصائية للموظفين في قطاع مسؤولية الشركات والاستدامة، ومعظمهم من أمريكا الشمالية وأوروبا، أن متوسط رواتب العاملين الشهري نحو 87 ألف دولار، ووصل راتب 12% منهم إلى قرابة 143 ألفًا،، وهذا أعلى بكثير من المتوسط.
قد يهمك أيضًا: كيف يُسهم تناول اللحوم في التغير المناخي؟
الشركات الكبرى تتَّحد في مواجهة تغير المناخ
الوظائف التي تتأثر بتغير المناخ، مثل الهندسة المدنية والتأمين على الأضرار، سيتحتم عليها أن تتأقلم بسرعة مع هذه التغيرات، أي أن التأثير سيطول المهارات المتوقعة للعاملين فيها، لكن حتى الشركات التي يبدو أنها أقل تأثرًا بالتغير المناخي بدأت تتكيف مع هذه الظاهرة.
إحدى هذه الشركات هي «يونيليفر»، التي تعهدت باتخاذ تدابير جادة في صورة مبادرات إزاء مشكلة المناخ، بما في ذلك الوصول إلى الاعتماد الكامل على الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، في محاولة لخفض انبعاثات الكربون في مصانعها، وعلى نفس المنوال سارت شركات أخرى مثل «كوكاكولا» و«أيكيا».
قد يبدو غريبًا أن هذه الشركات تضع تدابير لجعل عملية الإنتاج صديقة للبيئة، لكن هذا لا يحدث اعتباطًا، فقد وجدت أبحاث جديدة أن 87% من الأمريكيين قالوا إنهم سيشترون منتج الشركة إذا كانت تهتم بنفس القضايا التي يهتمون بها (مثل تغير المناخ).
لا يقتصر الأمر فقط على جعل العلامة التجارية جذابة للمستهلك، فمع أن استخدام الطاقات المتجددة يخفض التكاليف ويحد من تأثر الشركات بتقلب الأسعار، فإن اهتمام الشركات المتزايد بقضايا المناخ والاستدامة أصبح قضية لا مفر منها.
علاوةً على هذا، خلصت دراسة أجريت عام 2016 إلى أن تأثير ارتفاع درجات الحرارة على إنتاجية العمال، لا سيما في المناطق ذات المناخ الحار مثل آسيا وإفريقيا، قد يكلف الاقتصاد العالمي أكثر من تريليونَي (ألفي مليار) دولار بحلول عام 2030، وهو ما قد يفسر الغضب العارم الذي قابل به المديرون التنفيذيون في «فيسبوك» و«غولدمان ساكس» إعلان الرئيس ترامب انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ.
مواجهة التغير المناخي صارت أولوية عالمية، تحتاج إلى الجهود المشتركة للأفراد والشركات، لكن تحريف حقيقة هذه القضية الملحة لأسباب سياسية، واتخاذ قرارات غير محسوبة العواقب مثل ما فعله ترامب، ربما يهدد العالم بدخول عصر ستكون نهايته كارثية.