تعود العلاقة التاريخية بين سكان دولة الكويت والمجتمع المدني إلى حقبة ما قبل النفط، فتشكيل الجمعيات والنقابات الثقافية والسياسية والاجتماعية كان أحد محاور المجتمع آنذاك. وبعد الاستقلال، كفل الدستور الكويتي في المادة 43 حرية تكوين الجمعيات والنقابات، وكذلك جاء ذكرها في المادة 20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صادق عليه مجلس الأمة الكويتي.
بعد مرور ستة عقود منذ تنظيم المجتمع المدني في الكويت، نطرح بعض الأسئلة عن مدى فعالية المجتمعات المدنية هنا، وتحديدًا من الناحية الطبقية والمجتمعية: كيف جرى تقنين الشللية بالقانون؟ وما هي الشللية في الأصل؟ وهل هناك بوادر أمل من الجيل الجديد لكسر هذه القوالب؟
مفهوم الشللية
قد يظن البعض أن كلمة «الشلة» تستخدم في سياق الحياة اليومية ولا علاقة لها بالتوصيفات الدقيقة للظواهر الاجتماعية والسياسية، لأنها تقع ضمن نطاق اللغة الدارجة في لغة الخطاب العام، غير أن الأستاذ الأمريكي في العلوم السياسية «روبرت سبرغجبورغ» استخدم هذا المفهوم في كتابه عن الأسرة والسطوة والسياسة في مصر، إذ ذكر أن هناك نوعين من التضامن في المجتمعات، الأول إيجابي وهو التضامن المستنير، والذي يكون أساسه خدمة الآخر ومساعدته، وهناك التضامن المظلم القائم على أساس تحقيق المصلحة الذاتية لصالح فئة ضد أخرى، وهو ما يعرف اليوم باسم «الشلة».
نجد في مفهوم «الشلة» انعكاسات لتفسير الكثير من الظواهر، وخاصة الثقافية منها، فحين يفقد مفهوم الطبقة وجوده الفعلي تتحول الظاهرة الثقافية إلى مجموعات من «الشلل» في كل ما تفعله، بحيث تنصب اهتماماتها في الغالب على مصالح ضيقة بعيدة عن خدمة المجتمع والطرف الآخر والارتقاء به، بعيدًا عن أي تحيز أو انتماء سياسي أو أي مصالح أو عوائد اجتماعية.
علاقة السكان بالقانون
أصبحت جمعيات النفع العام أقرب إلى الديوانية من كونها مجلس إدارة تنافسي، بحيث أنها تتضمن فئات متشابهة ومن نفس الخلفية الاجتماعية والسياسية.
خلال فترتي الستينيات والثمانينيات، عدل مجلس الأمة قانون الأندية وجمعيات النفع العام بإضافة شرط الجنسية الكويتية إلى المؤسسين وأعضاء الجمعية العمومية ومجلس الإدارة، وبالتالي أُعيد تسجيل جميع الجمعيات آنذاك بأسماء كويتية، وانحصر دور غير الكويتي في الجمعية كـ«عضو منتسب»، دون أن يكون له تمثيل في مجلس الإدارة أو حق في التصويت.
وبالنظر إلى اليوم، نجد أن القانون يشمل فقط 17% من سكان الكويت الكويتيين وفوق سن 21 عامًا، القادرين على تأسيس جمعيات نفع عام، مستثنيًا بذلك باقي السكان من غير الكويتيين. كانت هذه أول نقطة فاصلة في المجتمع المدني، وهي عدم قدرة فئات مختلفة من المجتمع مثل المقيمين من مختلف الجنسيات وعديمي الجنسية (البدون) على الحصول على تمثيل في مجالس إدارة الجمعيات المدنية أو قنوات تمكنهم من المشاركة.
الشللية والعمل الجماعي
بالنظر إلى حال جمعيات النفع العام، نجدها أصبحت أقرب إلى الديوانية من كونها مجلس إدارة تنافسي، بحيث أنها تتضمن فئات متشابهة ومن نفس الخلفية الاجتماعية والسياسية.
أصبحت غالبية العضويات المسجلة أسماء موجودة في الكشوف حضورها مكرس لأغراض الوجاهة الاجتماعية، مما يعني تعطيلًا للدور المنوط بالمجتمع المدني في الكويت.
تطرقت إلى الفكرة نفسها ورقة بحثية للدكتورة العنود الشارخ عن الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية في الكويت، وعلاقتها بالعملية المؤسسية وقضايا الجندر. تذكر الورقة أنه «يُنظر إلى استبعاد النساء من نشاطات المجتمع المدني على أنه إشكالية يجب حلها، لكن من المفارقة أن تكون الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية، وهي جمعية نفع عام معنية بتعزيز دور المرأة ودمجها في المجتمع، غالبًا ما تُتهم بنفس الإشكالية». وتشبه الشارخ حال مجالس إدارة جمعيات النفع العام بأنها مثل الديوانية المغلقة، التي تضم أشخاصًا من نفس الخلفيات يديرون الجمعية.
يضيف المثال السابق إلى الشللية التي أشرنا لها في البداية، فحتى بعد شللية الجنسية وإقصاء الآخر بناء على الهوية الوطنية، توجد شللية من الطبقة الاجتماعية الواحدة، التي عادة ما تكون متناسقة مع بعضها ولا تعكس إلا واقعًا ضيقًا يمثل الطبقة التي هي منها.
في هذا السياق، تخبرنا هدى صالح الدخيل الباحثة الكويتية في مجال الدراسات الثقافية أن وجود الشلة مفيد في بداية تأسيس أي مجموعة مرخصة أو غير مرخصة، فهي عامل قوة للمجموعة لأنها تحقق شرط تجانس فريق العمل وتسهل التواصل بين مجتمع المؤسسة الحديثة. ولكن ما أن تكبر هذه المجموعة، فإن استمرار عملها بمنطق الشلة يصبح عاملًا تعطيليًا لها، إذ توضح الدخيل أن «على أي مجموعة أن تتجاوز حدود الشلة بعد أن تتوسع دائرة عملها وتحقق تماسك المجموعة الأولى، فقد يعطل منطق الشلة استقطاب الناس».
وتشير إلى أن مشكلتنا في الكويت في المجموعات التي تستمر في العمل بمنطق الشلة، مع تجاهلها للمهنية التي تقتضي منح كل فرد منظم دوره والقدرة على تحقيق ذاته، لذلك أصبحت غالبية العضويات المسجلة مجرد أسماء موجودة في الكشوف تدفع رسومًا دورية وحضورها مكرس لأغراض الوجاهة الاجتماعية، مما يعني تعطيلًا للدور المنوط بالمجتمع المدني في الكويت.
مساوئ الوضع الحالي
نشير هنا إلى دراسة ميدانية عن المجتمع المدني في الكويت، والتي شملت استبيان 130 جهة من قادة منظمات المجتمع المدني عن التحديات التي يواجهها المجتمع المدني. توضح الدراسة اتفاق 73.2% من العينة على أن مشاركة المجتمع المدني في الكويت ما زالت ضعيفة. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أهمها أن الشللية تشارك في منع وصول آراء مختلفة من السكان للمشاركة في هذه الجمعيات. وعليه، تبدو الجمعيات كأنها حلقة محدودة الأفراد لا تعكس المجتمع بكل أطيافه.
بالإضافة إلى ذلك، واستكمالًا للدراسة، أكد المشاركون أن أسباب هذا الضعف ترجع إلى محدودية الوعي والتسويق غير الكافي لأنشطة المنظمات المختلفة، وغياب الرؤية الواضحة وضعف التنظيم، وعدم وجود دعم مادي كافٍ، وضعف التنسيق والتكامل بين المنظمات القائمة، والقيود الحكومية المفروضة.
النور آخر النفق
يتميز الجيل الجديد بقدرته على اتخاذ موقف مستقل عن كل التيارات وتجمعات المجتمع المدني التقليدية، والتي تحتكرها طبقة نخبوية معينة، مما يجعل من الصعب عليها خدمة فئات المجتمع المختلفة والانخراط بينها. هذا الجيل كوَّن مجتمعًا مدنيًا مغايرًا وغير تقليدي، مثل منظمة «الخط الإنساني» التي تضم عدة أشخاص من مختلف الجنسيات والخلفيات.
تتميز هذه التجمعات غير التقليدية بقدرتها على خلق التغيير من الأسفل، أي بدء التغيير الحقيقي من المجتمع، مما يجعلها الأقرب لطرح نفسها كبديل عن السائد. وأثبتت التجارب أن هذه المجتمعات المدنية الموازية للمجتمع المدني التقليدي تمتلك أساليب أكثر فعالية ومرونة في الاستجابة للاحتياجات التنموية لسكان الكويت، وتتمتع بمهارات أكثر إبداعًا في التعامل مع المشكلات، إذ تستطيع جمع التمويل المناسب لها من خلال التعاون مع القطاع الخاص أو أي جهات تمويلية أخرى دون التضييق عليها، فضلًا عن التكلفة المنخفضة لما تقدمه من خدمات، ناهيك بملامستها لاحتياجات الطاقات الكويتية الشبابية بطريقة مباشرة من خلال تبني منهج قائم على المشاركة القاعدية.
ختامًا، تؤكد الدخيل لـ«منشور» أهمية بناء الثقة بين الحكومة والمجتمع المدني، حتى يتعاملوا مع بعضهم البعض كشركاء، ولا يتأتى هذا إلا من خلال الأفراد وعن طريق مبادرات يطلقها المجتمع المدني للتعامل مع أجهزة صنع القرار، سواء كانت تشريعية أو تنفيذية، من أجل تقريب وجهات النظر. فمثلًا، قانون الصحة النفسية لم يخرج للنور إلا عندما تعاون المجتمع المدني بكل أشكاله التقليدية وغير التقليدية مع وزارة الصحة. لذلك فمن المهم جدًا تجديد لغة الخطاب، وعلى الحكومة أن تأتي بلوائح تتعامل فيها مع المجتمع المدني كشريك لا كمنافس وتقيد نشاطه.