عندما حاولت العودة بذاكرتي إلى مرحلة الغزو، توقفت حياتي اليومية، صارت الصور تتزاحم في مخيلتي، تضحكني أكثر مما تبكيني، تشعرني ببهجة ما. كنا أطفالًا سعداء، لم يمنعنا الخوف عن فعل ما نريد، وفي الوقت الذي نريد. الساعة لا دور لها في حياتنا اليومية خلال فترة الغزو ما دمنا مسلحين باللعب، مع احتفاظنا بكلمة سرية كحرز يعمي الجنود عنا: «الله يساعدك» بالعامية العراقية.
بعد أن تراوحت صور تلك الحقبة بين ذاكرتي وقلبي، مع مرور 29 عامًا على الاحتلال، لم تفلح تلك الكلمة السرية في انتشالي من براثن المستشفى الذي دخلته لاعتلال ألَمَّ بقلبي.
وحقيقة، لا أدري ما الخلل الذي أَلم بي، إذ إنه حل فجأة بصورة كدت معها أعتذر عن كتابة هذا المقال، فدقات قلبي لم تستوعب قوة ذاكرتي عن أيام الغزو، التي كنت خلالها طفلًا في التاسعة من عمره، يقضي أغلب وقته لاعبًا بالكرة وبدراجته الهوائية.
سرعة توارد الصور جعل عدد نبضات قلبي تصل إلى ما يزيد عن 160 نبضة في الدقيقة مع عدم انتظامها، حتى إن الأطباء جهدوا لمعرفة السبب الذي كنت أنا على يقين منه: إنها صور الغزو.
أعتذر عن كتابة المقال؟ سألت نفسي، وسرعان ما توصلت إلى الجواب: إذا لم تفتك بي الصور فسأحكي شيئًا منها، وإلا فسأُدفن معها، هذا هو القرار، وهذا ما جعل الصور تهدأ وتدع مسافة بيني وبين الصاعق الكهربائي الذي قد يلجؤون إليه لإعادة قلبي إلى انتظامه.
الخميس: الثاني من أغسطس 1990
كنا نتسابق أنا وأخي عبد الله على الاستيقاظ المبكر يوم الخميس، ففي الأغلب هناك صيد مما تبقى من عشاء الليلة السابقة، والصيد ليس وفيرًا، لذا نعتمد مبدأ «من سبق لبق».
هذه المرة، كنت أنا الفائز في هذا السباق كما اعتقدت، وفي العادة الفائز فينا يكون هو وصيده وحيدًا، لكنني فوجئت بوالدتي قد سبقتني وحضَّرت الإفطار بهدوء تام. «اليوم الخميس؟»، تساءلتُ، فالعادة أكون إما أنا أو عبد الله من يسبق الجميع في الاستيقاظ. لا يهم أي الأيام اليوم، لكن علي أن آخذ صيدي وأجلس أمام التلفزيون لأرى رسومي المتحركة قبل الجميع.
بعد أسبوع واحد من الغزو، تراجع الغازي عن رغبته في الانسحاب. عرفت معنى «الغزو والاحتلال»، شاهدته في التلفزيون، رأيته في وجوه الجنود أصحاب الأسلحة التي كانت تشبه أسلحة رامبو. لكن أن تكون في وسط التجربة ليس كأن تكون خارجها. كان المعدن الأسود يسبب الرعب بحد ذاته، تهديدًا لم أشهده من قبل بشكل مباشر، تهديدًا من الممكن أن يأخذك من هذه الدنيا في أي لحظة، أو يأخذ منك أي عزيز.
الحفلة الكبرى بدأت، فرحتي لم تسعني، انتقلنا من بيتنا في منطقة القرين التي تفتقر إلى الخدمات وسبل الاتصالات لكونها في ذلك الوقت منطقة جديدة، إلى بيت «بابا يعقوب»، جدي من ناحية والدتي.
هذه الفرحة لم تكن طويلة المدى، فالبهجة لم تعد كما كانت في بيت جدي، هناك وجوه تضحك وتغني، وهناك دموع مخفية، لا يُحكى لنا عنها. كل الأمور حيكت لتكون مبهجة، لكن دون بهجة، فصوت الرصاص تحول إلى أصوات ألعاب نارية، وصوت القنبلة صار انفجارًا لعلبة مشروب غازي أحرقت مع النفايات بطريق الخطأ.
الخميس: 27 سبتمبر 1990
«بابا جابر» على التلفزيون، الكل متسمر في محله يشاهد بترقب، جدي لم يكن مع الجميع، عزل نفسه.
بحثت عنه، تسللت إلى غرفته، رأيته متسمرًا كما الآخرين أمام تلفزيونه الخاص، ينظر إلى الأرض وأذناه معلقتان بصوت يأتيه: «جئت إليكم حاملًا رسالة شعب أحب السلام..». بهذه الكلمات استطاع الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد أن يخطف قلوب العالم، وليس قلوب أهله وناسه فحسب. التصفيق الذي جاء بعد الكلمة، وبكاؤه خلال الكلمة، هزَّ جسد جدي، وجفَّف حلقي.
مسح جدي براحة يديه دموعه أكثر من مرة، تحيرت، ماذا أفعل؟ هل أرتمي في حضنه أم أنسحب وكأنني لم أرَ شيئًا؟
الوقت المعدوم والكلمة السرية
محمد وعبد الله، تعرفت إليهما في المسجد، لم أكن أعرف أيًا منهما. محمد ليس ابن فريج (حي) بيت جدي، كان يسكن في الفريج الذي خلفنا، أما عبد الله فبيته يبعد مسافة بيتين من بيت جدي.
الكرة جمعتنا في البراحة، الساحة الرملية التي أمام بيت «بابا يعقوب»، منذ أن نصحو إلى أن تغيب الشمس، وبعدها نجتمع حتى الفجر في بيت محمد، نلعب في حوش (فناء) بيتهم بالدراجات الهوائية والأراجيح حتى يؤذن الفجر.
هذا جدولنا اليومي، أنا وأخي عبد الله ومحمد وصديقنا عبد الله، حتى أخي فهد الذي لم يكن قد تجاوز السنتين، ولا يُخل بهذا الجدول إلا بعض الأمور التي كان علينا فعلها، مثل الوقوف لساعات أمام المخابز أو الجمعيات، لأخذ أكبر عدد ممكن من الخبز المحسوب لكل فرد، فلقد كنا نذهب كلنا لتكون الحصيلة كافية لأيام، لا أحد يدري بأي يوم سيُقطع عنا الخبز.
لم يكن هذا الجدول غير مبرر، فالمراد هو دب الحركة الدائمة بين البيوت طوال الليل، وهذا ما قد اتفق عليه رجال الفريج وأتمته النساء فيه. حتى تجمُّعنا في بيت محمد صديقي لم يكن دون سبب، كان لحماية والده، الذي غير اسمه من أنور إلى محمد لإخفاء شخصيته العسكرية، واتفقنا ألا نخبر محمد صديقنا بمعرفتنا بذلك.
طُرق الباب علينا ونحن في الحوش، فتحناه، رجل عراقي بلباس مدني (بدلة سفاري بيضاء)، شاربه الأسود الكث كان يميزه، وخلفه جنديان. سأل عن أنور، وأجبناه مجتمعين بأننا لا نعرف أي أنور في البيت، هز رأسه، إلى أن جاء والد محمد بنفسه، وسألوه عن هذا الشخص الذي يدعى أنور، لكنه نفى معرفته به. والد محمد كان واحدًا من أصحاب الرتب الرفيعة في الجيش الكويتي، استطاع أن يتنكر بلحيته وزيادة وزنه المفتعله.
أما الكلمة السرية «الله يساعدك» فهي الحرز الذي كنا نتخذه أمام أي جندي عراقي نواجهه وأسلحته، خلال الانتقال اليومي من فريج بيت جدي إلى فريج بيت صديقنا محمد، ومع وجود مدرسة تستقر على سطحها مجموعة من الجنود، يراقبون حركة الأرض والسماء في الوقت ذاته، برفقة مضاد الطائرات المثبت على سطح المدرسة.
لم نمر يومًا دون أن نلقي على الجنود تحيتهم، حتى لو لم ينتبهوا إلى مرورنا، وعند انشغالهم عنا لأي أمر كنا نصرخ فيهم بنزق الأطفال: «الله يساعدك».
عسل سوق المسجد الأقصى
شارع المسجد الأقصى، الشارع الفاصل بين منطقتي سلوى والرميثية، على امتداد ضفتيه توزعت البسطات فيه بشكل منتظم، بسطات حمل أصحابها جنسيات عدة، وأغلبها كانت عراقية. هذه البسطات كوَّنت ما يشبه السوق الدائم الذي كنا نجد فيه ما نتوقعه وما لا نتوقع.
لأن البيع والشراء كان بالدينار العراقي كما أُمر أهل السوق، فكثيرًا ما كان يشهد السوق عمليات ابتزاز ونصب من الجنود بالذات، والسبب يعود إلى أن الدينار الكويتي يعادل خمسة أو ستة دنانير عراقية، والجندي العراقي يدعي أن الدينارين متساويان، فكان يشتري بديناره ويبيع على البسطات الأخرى ما قد اشتراه، وأحيانًا يعيد بيعه على صاحب البضاعة الأصلي بفارق السعر بين العملتين، مستعينًا بسلاحه الأسود الذي يحسم الموقف لصالحه.
اجتمع الجميع في هذا السوق: العدو والحبيب، الجنود الذين يفرضون نقاط السيطرة على الشارع الكبير نسبيًا رغم أنه شارع داخلي يفصل بين منطقتين، والأحبة من بعض الأهل والجيران الذين افترقنا عنهم وجمعتنا بهم الظروف عند إحدى بسطات السوق، لكن هذا السوق مثلما جمَّع سيفرق.
كنا أنا ووالدي وزوج خالتي نجول في السوق بحثًا عن عسل استطعنا الحصول عليه، ولم أعلم سبب البحث عنه إلا عندما وصلنا إلى بيت جدي، فقد جلس جدي وخالتي ووالدتي في المطبخ وعيونهم مصوبة ناحية زوج خالتي الذي راح يدهن وثيقة جنسيته وجواز سفره بالعسل، أراد أن يمحو شيئًا من المعلومات بها كونه ضابطًا في سلاح الطيران، وقرر الرحيل بخالتي وأبنائه إلى السعودية، فوجوده خطر عليه وعلى الجميع كما كان يردد.
تمت العملية، اختفت ملامح معلوماته التي في الجواز والجنسية، كما تمت عملية خروجه من الكويت بنجاح، واختفت ملامحه وملامح خالتي وأبنائها معه.
ليلة الثالث من ديسمبر 1990
تدهورت صحة جدي، قلقه الكبير على الجميع أضعف قلبه الضعيف في الأصل، فإحدى خالاتي دخلت شهر ولادتها، وفي أي لحظة يمكن أن يأتيها المخاض. أين ستلد وكيف؟ لا أحد يدري.
طُرح موضوع الخروج من الكويت، وحدث شد وجذب بين الجميع، بين من كان يؤيد الفكرة ومن يعارضها، فاتفقوا على تأجيل الفكرة وعدم الخوض فيها من جديد لما تسببه من خلاف كاد يسبب تشابكاً في الأيدي، وهذا ما أصاب كل أطفال البيت بالذعر، فإن كنت لا تشعر بأمان خارج بيتك أمر، وألا تشعر به بداخل بيتك هذا أمر آخر.
لأول مرة شعرت أن الغزو دخل بيتنا، لأول مرة شعرته يكسر أمورًا مقدسة وهي علاقتنا ببعض، أنفاسي خُطفت، تمنيت أن يوضع حد لما يحدث، فكان التأجيل هو الحل الذي وضعه جدي، وكان هذا التأجيل مشروطًا بأن يحدث أمر يجبر الجميع على الخروج.
لم يعلم أحد أن هذا الإجبار سيأتي سريعًا. عندما خرجنا مع والدتي في ظهيرة الثاني من ديسمبر، وقبل أن نعود إلى البيت قررتْ أن تزود سيارتها بالوقود، أوقفها الجنود عند مدخل المحطة، سألها أحدهم عن سبب عدم تغييرها لوحات سيارتها من الكويتية إلى العراقية، مؤكدًا لها أنه غير مسموح لحاملي اللوحات الكويتية بالحصول على الوقود. صاحت والدتي في وجهه: «لن أغير لوحات سيارتي حتى لو اضطررت إلى استبدال الماء بالوقود».
هذا التطور غير المتوقع هو الذي حسم الموضوع بالنسبة إلى جدي، فقرر عن الجميع: سنخرج من الكويت خشية القادم من التطورات، وكانت إحدى هذه التطورات قلقه الكبير على والدتي التي تفقد أعصابها عند كل نقاط التفتيش.
القرار لم يناقَش، بدأنا التحضيرات. نساء البيت كان عليهن جمع ما يملكون من ذهب وتجهيز الملابس وبعض الأكل. الرجال مهمتهم غريبة بعض الشيء، وهي فك إطارات السيارات التي سنتركها في الكويت، وإخفاؤها في أماكن خفية داخل البيت.
نقلُ الإطارات أخذ وقته وإرهاقه معه، والمهمة التالية للرجال كانت البحث عن أماكن في السيارات لتهريب الذهب، فتفتق ذهنهم عن وضعها في أبواب ومقاعد السيارة.
نجح ما خُطط له، وبقيت ساعتان على صلاة الفجر، الجميع ذهب ليقضي ساعاته الأخيرة في الكويت، انتهت الصلاة، الجميع في سيارته إلا جدي، أغلق باب بيته وتوجه إلى السيارة، وضع دواء قلبه تحت لسانه، وسار يتبعه الجميع.
«غريبة» الثالث من ديسمبر المنقذة
اعتدت هذا الطريق، فهو ذاته الذي كنا نسلكه إذا ما أردنا أن نذهب إلى الشاليه، وهو ذاته الذي سلكناه العام الفائت للذهاب إلى السعودية، ومن ثم إلى البحرين ودبي، هو الطريق ذاته لكن بمشاعر مختلفة، فيها الكثير من اللا أدري التي واجهتني مع كل سؤال. إلى أين نحن ذاهبون، ومتى سنعود، إلى أن جاءني الجواب الحازم: «اسكت». توقفتْ أسئلتي الخارجية وصارت أسئلة داخلية.
عندما جاء صوت والدتي بهذا الأمر كانت تريد أن تركز في ما يحدث، فقد توقفت سيارة جدي التي تسبقنا، وتوقفنا خلفها. «سيطرة»، قال خالي عند ظهور نقطة توقيف عراقية، وهو الذي كان يقود سيارتنا دون أن يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، بسبب عدم السماح للمرأة بقيادة السيارة في السعودية، ولأن والدي يعاني من ضعف حاد في بصره، فلم يكن أمام الجميع إلا اختيار خالي الأصغر ليؤدي هذه المهمة.
ثلاث ساعات ولم تتحرك السيارات ولا من فيها، الحركة ممنوعة، ولا أحد يدري ما الذي سيواجه لو عصى ما أُمر به. خالي وإخوتي عبد الله وفهد وأنا تتعلق أعيننا باتجاه الشاليه، أعتقد أن الصور التي دارت في أذهاننا كانت واحدة: لعب الكرة، البحر، حفلات الشواء، الأغاني والرقص. ربما كلنا نتذكر آخر ليلة لنا في الشاليه قبل أسبوع من الغزو، أعتقد أننا كلنا تذكرنا مفارقة رقصنا بشكل هستيري على أغنية كاظم الساهر «عبرت الشط على مودك».
جندي بطرف سبابته يقرع نافذة السيارة، قطع استرسال الصور في رأسي. من دون أن يتحدث أشار إلى إطار السيارة، نزل خالي ووالدي، وعندما نزل زوج خالتي زجره الجندي: «ارجع». أوضح أنه معنا ويريد مساعدتنا. نزلنا كلنا من السيارة وأنزلنا كل ما عليها، ولم يبقَ فيها غير الذهب المخبأ بعناية.
أُصلح الإطار بسلام، ركب زوج خالتي سيارته مع جدي، كل من كان في سيارتنا انتبه لما يحدث، الجندي أوقف سيارة جدي ليتحدث مع أحد الجالسين في الخلف، القلق والريبة خنقانا، إشارات غير مفهومة، يد جدتي تمتد إليه بعلبة وضعتْ فيها الكثير من حلوى «الغريبة»، يمتنع الجندي، حواره كان مع «ماما أصيلة»، جدتي الطيبة المسالمة.
اشتعل غضب والدتي وهي تردد: «شبْكة أماني»، كانت تقصد ذهب خالتي المخبأ تحت طبقتين من الحلوى. الحديث طال بين جدتي والجندي، تساءلت والدتي إن كانت جدتي تساوم الجندي بشبكة خالتي، العروس التي لم تتم شهر عسلها إلا وحل الغزو.
الجندي يشير إلينا، يهز رأسه مرات عدة، يضع مبلغًا ماليًا في جيبه، يُخرج سيارة جدي من الصف الطويل ويشير إلى خالي الغائب في خوفه. انطلقت السيارتان في سرعة ثابتة إلى أن تجاوزنا نقطة التوقيف.
التوقف الثاني كان عند مركز إطفاء النويصيب. هنا فُتشت السيارات وأُخذت كل الأوراق الرسمية الكويتية منا، حتى لوحات السيارات أُزيلت، أرادوا أن نكون دون هوية ولا ملامح، لكنا كنا جاهزين بتصوير كل أوراقنا الرسمية وإخفائها مع الذهب.
تم كل ما أرادوه منا، صعد الجميع إلى السيارة، لم أفهم السكوت الذي حل، لم يبقَ أمامنا إلا مركز النويصيب الحدودي الذي سيُخرجنا من الكويت إلى السعودية. شعرت أن نبضات القلوب كلها صارت ثقيلة، وبرد ديسمبر صار حرًا بشكل غير مفهوم.
جنديان آخران يتوسطان الطريق، يشيران إلينا بالتوقف. تقف سيارة جدي وتقف سيارتنا خلفها، يكلم أحد الجنود جدي وزوج خالتي، يعطيهما بعض التعليمات. يشير الجندي بيده وكأنه يطلب سجائر، فيردان على طلبه بالنفي.
تحركت السيارة، وبتصرف غير حكيم من خالي تبع سيارة جدي من دون أن يأذن له الجندي، صاح به، أوقفه، هدده. نزل جدي من سيارته، عينه علينا، الجندي يشير إليه بأن يرجع إلى السيارة فلا يستجيب، يصيح مرة ثانية وسلاحه موجه إلى خالي. النفس انقطع، لم يعد أحد لديه أي قوة لأي شهيق أو زفير، استجاب جدي. طلب الجندي من خالي السجائر، وفي الوقت الذي كان فيه الجميع ينتظر أن يجيب خالي بالنفي لأنه لا يدخن، أخرج خالي بعض السجائر للجندي، وفي تلك اللحظة فُضح أمر تدخينه للجميع.
تهلل وجه الجندي، وكرر التعليمات بأن الطريق الذي سيأخذنا إلى المركز محفور بالخنادق، ولذلك علينا ألا نسرع، وإذا ما واجهنا أي خندق ننزل إلى الصحراء الممتدة على كتفي الطريق، كما شدد علينا ألا نتعمق في الصحراء لأنها مزروعة بالألغام.
ظهر الخندق الأول، علينا أن ننزل إلى الصحراء. فور أن مست عجلات السيارة الرمل، صاح خالي: «انفجرنا.. انفجرنا». ضحكنا من الخوف، كعادتنا التي اكتسبناها من الغزو، الضحك على الخوف. لذلك بعدها كلما واجهنا خندقًا نزلنا إلى الصحراء صائحين: «انفجرنا.. انفجرنا»، ونضحك من القلب.
وصلنا إلى السعودية، وتركنا وطنًا خلفنا لا نعرف مصيره.