في أواخر شهر سبتمبر 2017، احتدم الصراع بين الحكومة المركزية الإسبانية والسلطات الإقليمية الكتالونية من أجل تعيين الجهة المسؤولة عن قوات الشرطة في الإقليم، وهو النزاع الذي اعتُبر محوريًّا في تحديد مصير استفتاء كتالونيا فى الأول من أكتوبر.
قبل يوم من التاريخ المحدد للتصويت، أعلنت وزارة الداخلية الإسبانية أن جميع قوات الشرطة المحلية والوطنية المتمركزة في الإقليم وُضعت تحت قيادة واحدة ترفع تقاريرها مباشرة إلى وزارة الداخلية في مدريد. بيد أن الحكومة الإقليمية الكتالونية المؤيدة للاستقلال قالت إنها لن تمتثل للحكومة المركزية، مما أدى إلى فتح جبهة جديدة في الصراع المستمر بين مدريد وكتالونيا، الأمر الذي يهدد بتحويل النزاع إلى أزمة دستورية حادة.
أُجري الاستفتاء حول استقلال كتالونيا رغم إعلان الحكومة الإسبانية أنه غير قانوني، وحاول رجال الشرطة المتمركزين في المنطقة إيقاف التصويت، ما تسبب في اشتباكات عنيفة مع مؤيدي الاستفتاء. عقب المواجهات، قال عمدة برشلونة إن قرابة 460 شخصًا على الأقل أصيبوا بجراح جراء استخدام رجال الشرطة القوة لمنع التصويت.
انتهى الاستفتاء بتصويت 90% لصالح الانفصال، ما جعل مستقبل كتالونيا، وعلاقتها بإسبانيا وأوروبا، موضوعًا للتكهن.
من هم الكتالان؟
لدى الكتالان تاريخ وثقافة ولغة مميزين، ومن أشهر أبناء هذا الإقليم سلفادور دالي وبيب غوارديولا.
الكتالان هم سكان منطقة «كاتالونيا بايسوس» (الأقطار الكتالونية)، التي تشمل فالنسيا وجزر البليار وأجزاء من منطقة أراغون الإسبانية وقرية روسيلون في جنوب شرق فرنسا، إضافةً إلى إقليم كتالونيا نفسه.
لم يشمل استفتاء الأول من أكتوبر جميع المناطق الكاتالونية، بل اقتصر فقط على إقليم كتالونيا، وهي منطقة تقع في شمال شرق إسبانيا، ويبلغ عدد سكانها 7.5 مليون نسمة (15% من سكان إسبانيا)، ويمثل إنتاجها الاقتصادي 20% من إجمالي الإنتاج الإسباني.
الكتالان لديهم تاريخ وثقافة ولغة مميزين، ومن بين أشهر أبناء هذا الإقليم «سلفادور دالي»، و«أنتوني غاودي»، و«خوان ميرو»، و«فيران أدريا»، و«بيب غوارديولا».
لطالما كان الحكم الذاتي للإقليم موضوعًا متجددًا على مدار تاريخ المنطقة، ففي عام 1931، عندما غدت إسبانيا جمهورية، مُنح الإقليم مزيدًا من الحكم الذاتي ضمن الحدود التي تسمح بها سياسة الدولة.
مع ذلك، وفي غضون عقد من الزمن بعد الحرب الأهلية الإسبانية، ألغت الحكومة العسكرية التي ترأسها «فرانسيسكو فرانكو» الحكم الذاتي في المنطقة. وخلال حكم فرانكو، من 1939 إلى 1975، قُمعت الثقافة الكتالونية بشدة وحُظرت رموز الهوية الكاتالونية، مثل القلاع والأبراج البشرية، واضطُر الآباء إلى اختيار أسماء إسبانية لأطفالهم.
في عام 1979، صدر قانون جديد ينظم الحكم الذاتي في الإقليم، سمح بإعادة مؤسسة برلمان كتالونيا، وجرى انتخاب أعضائه فى العام التالي.
زادت الدعوات المنادية بالاستقلال في السنوات الأخيرة، لا سيما منذ أزمة الديون التي عانت منها إسبانيا عقب الأزمة الاقتصادية في 2008.
عصر النزعات الانفصالية
قد تعلن كتالونيا الاستقلال من جانب واحد، وتبدأ في تحصيل الضرائب والسير نحو تشكيل دولة متمردة داخل إسبانيا رغم أنف الحكومة.
نشأ «أنتوني كاستيلا» بالقرب من سجن موديلو في برشلونة في سبعينيات القرن العشرين، ويقول إنه لا يزال يتذكر سماع صرخات القوميين الكتالونيين المحتجزين كسجناء سياسيين من قبل نظام الجنرال فرانكو، الذي عمل على قمع الثقافة واللغة الكتالانية، زيادةً على إلغاء العمل بقانون الحكم الذاتي في الإقليم.
بالنسبة لكاستيلا، الذي أصبح الآن عضوًا في البرلمان الإقليمي في كاتالونيا لحزب «ديموكراتس»، فقد كان الاستفتاء حول الاستقلال فرصة للشعب الكتالوني ليتحرر أخيرًا من سيطرة الدولة الإسبانية، بعد عقود من ما يرى أنه سوء معاملة يعود إلى القرن الثامن عشر.
تسبب الصدام بين سياسيين متمردين، مثل كاستيلا، وبين مدريد في أكبر أزمة سياسية ودستورية في إسبانيا منذ محاولة الانقلاب العسكري عام 1981، ويُحتمل أن يعلن الإقليم الاستقلال من جانب واحد، وقد يبدأ محاولة تحصيل الضرائب الخاصة به، أي السير في الطريق نحو تشكيل دولة متمردة داخل التراب الإسباني، رغم أنف الحكومة الإسبانية.
كذلك، يمثل التصويت تحديًا غير مسبوق لحكومة يمين الوسط الإسبانية برئاسة «ماريانو راخوي»، الذي وضع سمعته على المحك في سعيه لوقف الاستفتاء، ويحتاج إلى أن يثبت لبقية إسبانيا أنه لا مجال للاستهانة بسيادة القانون، لكن في الوقت نفسه عليه أن يتفادى أي تدابير قمعية قد تؤجج المشاعر المؤيدة للاستقلال.
إقليم كتالونيا جزء من الدولة الإسبانية منذ قرون، لكن عديدًا من الكاتالان يعتبرون أنفسهم دولة منفصلة، وكثيرًا ما طالبوا، ونجحوا، في الحصول على مزيد من الاستقلالية بشأن قضايا مثل التعليم المدرسي.
مع ذلك، فالاستقلال الكامل عن إسبانيا لم يحظَ سوى بدعم هامشي على مدى العقود الماضية، إذ إن نسبة مؤيدي الانفصال تراوحت بين 15% و20% فقط، لكن تبعات الأزمة المالية القاسية التي ضربت إسبانيا حولت مجرى الغضب الشعبي نحو السلطة المركزية في مدريد، وجعلت الأصوات الداعمة لاستقلال كتالونيا تصل إلى ذروتها في عام 2013، بنسبة 49%، وفقا للمركز الكاتالوني لدراسات الرأي.
أسوأ من بريكسيت
يشاهد الاتحاد الأوروبي في ذهول ما يحدث في إقليم كتالونيا، كما سبق له أن فعل مع بريطانيا، ويبدو أن النزعات الانفصالية صارت بمثابة أزمة وجودية تهدد عُرَى الوحدة الأوروبية بالانفصام. فالأحداث الدرامية التي تتوالى فصولها يومًا بعد آخر في كتالونيا تهدد مشروع الاتحاد الأوروبي في جوهره، وتشكل خطرًا مباشرًا على سلامة الاتحاد النقدي.
حذر وزير المالية الإسباني من افتقار كتالونيا الشديد إذا ما استمرت في سعيها نحو الانفصال.
رئيس الوزراء الفرنسي السابق، «مانويل فالس»، ابن الرسام الكتالوني الشهير «خافيير فالس»، حذر من أن استفتاء أكتوبر الذي حظرته السلطات الإسبانية سيؤدي بالفعل إلى انفصال كتالونيا، ومعه ستكون نهاية أوروبا ككيان سياسي موحد له مهمة ذات مغزى.
كبار السن الذين ما زالوا يتذكرون أهوال الحرب الأهلية الإسبانية يرتجفون فَرقًا من مشاهد الحشود التي عرضت على شاشات التلفزيون، والتي خرجت في جميع أنحاء إسبانيا لتشيد بوحدات الحرس المدني المغادرة صوب كتالونيا، وتحثهم على «الذهاب والنيل منهم»، أي المطالبين بالانفصال.
يختلف هذا الاستفتاء عن استفتاء استقلال إسكتلندا في عام 2014، فالأسواق المالية لم تستجب حتى الآن للمواجهة المستمرة بين الحكومة المركزية والسلطات الإقليمية، بالرغم من تحذير وزير المالية الإسباني «لويس دي غيندوس» من أن كتالونيا ستمر بمرحلة فقر شديدة إذا ما استمرت في سعيها نحو الانفصال.
قال دي غيندوس أيضًا إن المنطقة ستتعرض لانخفاض فى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 25% و30%، وسيرافق هذا الوضع ارتفاع في معدلات البطالة وانخفاض قيمة العملة بنسبة تصل إلى 50% بمجرد خروج الإقليم من منطقة اليورو.
تبقى تصريحات وزير المالية الإسباني محض تهديدات وليست توقعات دقيقة لما سيحدث، فالانهيار الذي ذكره لن يحصل إلا إذا اختارت إسبانيا تحقيق هذا فعليًّا، بحيث تجعل الحياة جحيمًا على الدولة الكتالونية المنفصلة، وذلك بإغلاق حدودها الاقتصادية معها، واستخدام حق النقض (Veto) في بروكسل لضمان عدم تمكنها من الانضمام مجددًا إلى الاتحاد الأوروبي أو بقائها طرفًا في الاتحاد النقدي، وكذلك من خلال الحيلولة دون انضمام الدولة الكتالونية إلى هيئات عالمية مثل صندوق النقد الدولي.
تجري مراقبة تطورات القضية عن كثب في أوروبا وباقي أنحاء العالم، إذ إن التصويت بنعم سيشجع جماعات انفصالية أخرى، مثل تلك الموجودة في إسكتلندا والإقليم الفلامندي في بلجيكا، على المطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
آثار فورية متوقعة لانفصال كتالونيا
قد يكسب إقليم كتالونيا 16 مليار يورو سنويًّا في حالة الانفصال، لعدم اضطراره لدفع الضرائب إلى إسبانيا.
«آلان كوينكا»، أستاذ الاقتصاد بجامعة سرقسطة في إسبانيا، قال إن النتائج قصيرة الأجل للانفصال ستكون سلبية على الطرفين، لأن «إقامة الحدود بين إقليم كتالونيا وباقي المناطق الإسبانية سيؤدي إلى فقدان فرص العمل وانخفاض الدخل وضياع الثروة على الجميع، سواء كانوا يعيشون فى كتالونيا أو باقي مناطق البلاد».
وضَّح كوينكا كذلك أن هذه الخسائر ستكون نتيجة للعقبات التي ستواجه التجارة في الدولة الجديدة، إضافةً إلى المشاكل المالية واحتياجات الإنفاق التي يجب أن توفرها لتدبير شؤونها.
مع أن إقليم كتالونيا لا يمثل سوى 16% من إسبانيا، فإنه يقدم إسهامًا كبيرًا للاقتصاد الإسباني، يصل إلى 223.6 مليار يورو سنويًّا، حسب ما ذكرته الحكومة الإقليمية بالمنطقة.
استنادًا إلى أرقام من منظمات أوروبية وكتالونية رسمية، زعم موقع «بيزنس إنسايدر» أن المنطقة ستكسب سريعًا نحو 16 مليار يورو سنويًّا في حالة الانفصال، نظرًا إلى أنها لن تضطر لدفع الضرائب إلى إسبانيا، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى خسارة قد تصل إلى 2% تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا سنويًّا.
في المقابل، من المرجح أن تتعرض المنطقة لأزمة اقتصادية، لأن 35.5% من صادرات الإقليم موجهة بالأساس إلى الأسواق الإسبانية، وستكون كذلك مطالبة بدفع أموال طائلة من أجل إنشاء هياكل حكومية جديدة (سفارات، بنوك مركزية، إلخ).
لكن بغض النظر عن كل هذا، فإن مصير كتالونيا وإسبانيا سيتحدد في نهاية المطاف بالقرارات المتخذة في مفاوضات ما بعد الانفصال بشأن الديون والاتحاد الأوروبي، والتي يجلس العالم الآن مترقبًا إياها.