استقالتان غاضبتان لوزيرين من الحكومة البريطانية، لم يفصل بينهما 24 ساعة، كانتا حاضرتين على مكتب رئيسة الوزراء «تيريزا ماي». الأولى من وزير ملف الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، «ديفيد ديفيس»، والثانية من وزير الشؤون الخارجية، «بوريس جونسون»، احتجاجًا على الخطة التي توصلت إليها الحكومة بعد مجهود مضنٍ من أجل الخروج من الاتحاد الأوروبي، كخطوة مُلزِمة لم يتبق على تنفيذها سوى أشهر معدودة.
دراماتيكية الاستقالتين لم تكن أقل من دراماتيكية السبب نفسه، وهو الاعتراض والتمرد ضد خطة الخروج من الاتحاد الأوروبي التي لم تشفِ غليل الوزيرين المناهضين للاستمرار في كنف الأسرة الأوروبية، ولم تُشبع خيالاتهما بمواقف أكثر صدامية وراديكالية وشعبوية، كأنهما يرغبان في قطع جميع العلاقات البريطانية-الأوروبية على جميع الأصعدة بشكل نهائي لا رجعة فيه، ولن يقبلا بأي شكل بتعاون قد يُذكِّرهما بماضي بريطانيا كجزء من الكتلة الأوروبية.
بالرغم من انتهاج الأطراف الثلاث نفس الفكر الذي يرى في الخروج من الاتحاد الأوروبي ضرورة ملحة وهدفًا مأمولًا، وبالرغم من انتماء الشخصيات الثلاثة إلى حزب المحافظين الذي اكتسح الانتخابات البريطانية، وشكَّل حكومة ما بعد استفتاء بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، فإن الخلاف تمحور حول شكل الانسحاب الذي يريده هؤلاء.
لم تحمل الخطة الهادئة لرئيسة الوزراء ماي سوى الاحتفاظ ببعض البقايا من مزايا عضوية بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن الخطة غير الواقعية، واستقالة وزيرين تعبيرًا عن رفضهما، خطة لا تبدو في شكلها الأخير، وتخبُّط المناهضين للاستمرار في الاتحاد الأوروبي، دون الوصول إلى حل واحد عملي مُتفَق عليه، وانقسام حزب المحافظين إلى مؤيد ومعارض لرحيل الوزيرين المشاكسين، واحتمالية الانقضاض على فرصة سحب الثقة من حكومة ماي، مشهد أظهر التشتت الذي تعاني منه السياسة البريطانية.
الانسحاب الصعب
كان اجتماع ماي بأعضاء حكومتها، قبل أسبوع من تقديم الاستقالتين، بداية التشتت السياسي. حينما بدأت سلسلة نقاشات حول مسودة خطة «الانسحاب السلس» لتكون حجر الأساس لجسور التفاوض مع المسؤولين في الاتحاد الأوروبي.
لم يتفق الحالمون على خطة ماي للتخلص من الاتحاد الأوروبي، لأنها تؤسس لربط بريطانيا بالنظام الجمركي للاتحاد الأوروبي، الذي رآه كثيرون خيانة.
خطة ماي تُنهي حرية الانتقال من الاتحاد الأوروبي داخل الحدود البريطانية، لكن في الوقت نفسه تضمن بقاء المملكة المتحدة ضمن نطاق الاتحاد الجمركي الأوروبي. خطة تبدو وكأن بريطانيا تخرج منتصرة من الانسحاب، والاتحاد الأوروبي يستعطفها بكل ما أوتي من مزايا كي تستمر أواصر الصلة. الخطة التي لم تُناقَش بعد على طاولة المفاوضات في بروكسل، أثبتت هشاشة المفاوضات على خطة لم تخرج إلى النور حتى من حدود الدولة المنسحبة.
لم تُرضِ مسودة خطة ماي حلفاءها من مناهضي بقاء بريطانيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي، لذلك استقال جونسون من الحكومة ليُنادي بخطة «الانسحاب الصعب»، لأنه باستقالته يستطيع احتلال مكانة سياسية تسمح له بحرية مناقشة خطته في مجلس العموم البريطاني، دون مراعاة أي إجراءات أو تفاصيل لسياسات بعينها قد تحكم عملية الانسحاب البريطاني، وبالتالي وضع خطة ماي «السَّلِسَة» في مأزق، مغازلًا منصب رئيس حكومة ما بعد ماي.
لم يتفق الحالمون إذًا على خطة ماي للتخلص من الاتحاد الأوروبي المُزعِج، لأن الخطة المُقترَحة تؤسس لربط بريطانيا بالنظام الجمركي للاتحاد الأوروبي الذي رآه كثيرون خيانة تكمن في ما وراء سطور الخطة. من خلال المشهد الحالي، لا بد لحكومة ماي من أن تصل إلى نقطة حاسمة مُنتَظَرة قريبة على الأرجح، لأنها بدت ضعيفة، فقد خسرت كثيرًا من الذين أداروا رؤوسهم بإعجاب إلى موقف الوزيرين المُستَقيلين، أو المعارضة التي أعلنت أن حكومة ماي فقدت سلطاتها، ولم تعد قادرة على إنجاز عملية انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على حد قول زعيم حزب العمال البريطاني المُعارِض، «جيرمي كوربين».
دون حلول
بالرغم من أن تيريزا ماي صرحت بأن الاستقالات جاءت إثر الخلاف على الانسحاب البريطاني، قد أحدثت شرخًا في حكومتها، فإن الاستقالات المتعاقبة قُدِّمت بسبب خطة لم يوافق عليها الاتحاد الأوروبي من الأساس، حتى أنه لم يرض عن كتير من ما أتت به. وبالتالي كانت علامات الاستفهام تحيط بتلك الاستقالات، مشيرة إلى أن سببًا آخر قد يكون وراءها، وهو ليس الاعتراض على خطة ماي، بل عجز السياسيين عن الوصول إلى حل.
عدم الوصول إلى صيغة موحدة للانسحاب، في الداخل البريطاني، قد يعصف بالسيناريوهين، سواء الانسحاب السلس أو الصعب. وإذا لم يوافق الاتحاد الأوروبي على خطة ماي التي شقت الصف البريطاني، فإن بريطانيا ستواجه السيناريو الأخير، وهو «اللااتفاق».
في سيناريو «اللااتفاق»، ستواجِه البضائع البريطانية ضوابط جمركية ينتج عنها زيادة في أسعار البضائع بنسبة 29% في حالة المواد الغذائية والمشروبات، ونسبة 7% في حالة الملابس والمنسوجات. تلك الزيادة ستدفع المشترين إلى الإحجام عن الشراء، والشركات إلى الاقتطاع من أرباحها، ما سيؤثر سلبًا على الحالة الاقتصادية وسوق الأوراق المالية وسعر صرف العملة، وستزيد من احتمالية تأخير وصول البضائع داخل بريطانيا عن المعتاد، أي وهي عضو في الاتحاد الأوروبي.
قد يهمك أيضًا: الخريف الأوروبي: كيف يهدد اليورو وحدة القارة؟
وبالرغم من كل تلك المغبات السيئة التي قد تنتظر مصير بريطانيا، فإن ماي متفائلة بالوصول إلى صيغة ملائمة مع الاتحاد الأوروبي لتطبيق خطة الانسحاب السلس بنهاية العام الحالي، تزامنًا مع تحسُّن المشهد الاقتصادي، من خلال الارتفاع المُرتَقَب لسعر صرف الجنيه الاسترليني الذي سيقلل التضخم، وسيرفع الأجور.
لكن تفاؤل ماي لا ينسجم إطلاقًا مع الاضطراب الذي يشعر به المسؤولون في الاتحاد الأوروبي جراء عملية الانسحاب البريطاني. فقد صرح رئيس المجلس الأوروبي، «دونالد توسك»، تعقيبًا على استقالة الوزيرين، بأن السياسيين خلقوا المشكلة الأكبر في تاريخ العلاقات البريطانية-الأوروبية، وسيعاني منها الشعب نتيجة فوضى الانسحاب.
لم يقترح المستقيلون، ممن اعترضوا على خطة الانسحاب السلس، ويدعون إلى الانسحاب الصعب، أي ملامح لخطتهم.
الاتحاد الأوروبي ينظر إلى تلك الفوضى مندهشًا من تأخير بريطانيا في عرض مُقترح محدد لما تريد أن تحققه، وواضعًا في الاعتبار أن المفوضية الأوروبية لن تسمح لها باستمرار مزايا عضوية الاتحاد الأوروبي في عملية انسحابها. لكن حكومات الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، تنتظر بحذر، ولا تُعرِب إلا عن رغبتها في الجلوس على طاولة مفاوضات ودية من أجل التطلع إلى مستقبل أفضل، كي لا تُتَّهم بالتدخل في الشؤون الداخلية البريطانية.
الدوامات التي تلاحق تيريزا ماي من كل اتجاه، كانت هي السبب في تحريكها، إذ إنها أول من ابتدع شعار «الانسحاب يعني الانسحاب»، أي ستنسحب بكل ما له علاقة تجمع بينها وبين الاتحاد الأوروبي، من سوق أوروبية مشتركة، واتحاد جمركي. ثم تراجعت شيئا فشيئًا، لقطف ثمار التعاون الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي دون تحمُّل أشواك مسؤولية التحديات التي تواجه كيان الاتحاد الأوروبي.
في ذلك التراجع، تعتمد الحكومة البريطانية على عامل الوقت لحلحلة المُعضلة التي لن تزيد الوضع إلا سوءًا، وبخاصة مع اقتراب نهاية فترة المفاوضات. إلا إذا كان التفسير هو عدم القدرة على إيجاد الحل الذي يُوحِّد المناهضين للاستمرار في الاتحاد الأوروبي، وينسجم، في الوقت نفسه، مع روح الصداقة معه. إضافة إلى ذلك، فإن المستقيلين ممن اعترضوا على خطة الانسحاب السلس، ويدعون إلى الانسحاب الصعب، لم يقترحوا ملامح الخطة. إلا إذا كان التفسير هو خوض تيريزا ماي وبورريس جونسون معركة سياسية خاصة بهما تدور خلف كواليس المعركة الحقيقية.