محاصرة خطة بريكست: تيريزا ماي وحيدة في مواجهة العالم

الصورة: Getty/Jack Taylor

محمود سعيد موسى
نشر في 2018/10/01

بعدما انتهت تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، من وضع كل تفاصيل خطة خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي في مئة صفحة، منذ يوليو 2018، وهي تُجري  محادثات مع زعماء الاتحاد الأوروبي من أجل عقد اتفاقية تكفل خروج بلادها من كتلة الاتحاد الأوروبي، آملة أن تصل معهم إلى صيغة يمكن أن تعود بها إلى البرلمان البريطاني ليوافق عليها أعضاؤه.

في أثناء حملة الاستفتاء على خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي، كانت ماي من مناهضي فكرة الخروج، لكنها صممت على المضي قدمًا في ما يريده الشعب. وكان تأكيدها على ذلك واضحًا عندما تكرر في كل لقاء أن «الخروج يعني الخروج»، وهي التي حددت الموعد في 29 مارس 2019، وفاجأت جميع المتابعين بتحديد موعد لانتخابات مبكرة في السادس من يونيو 2017، من أجل تعزيز مكانتها في مفاوضاتها أمام القادة الأوروبيين. هكذا بدت قوية ومحددة ومنحازة لإرادة الشعب في الداخل البريطاني والخارج الأوروبي.

خطة المنطقة التجارية الحرة

ترى ماي خطتها في إطار الإبقاء على الروابط القوية مع الاتحاد الأوروبي، وذلك بإنشاء منطقة تجارية حرة جديدة، تحت قواعد منظمة مشتركة بين الطرفين. القواعد المشتركة التي تقترحها ماي بنفسها قد تحد من من قدرة بريطانيا على إبرام صفقات تجارية مع بلدان أخرى، من بينها الولايات المتحدة، لأن أساس اتفاقيات المناطق التجارية الحرة يحتم على الطرفين وجوب فرض مميزات مشتركة ليست موجودة مع الدول الأخرى.

يرى الاتحاد الأوروبي أن بريطانيا تريد الاحتفاظ بنفس مزايا عضويتها في الاتحاد الأوروبي، حتى بعد الخروج منه.

تَمسُّك ماي بإطار خطتها لم يشجع قادة الاتحاد الأوروبي على الاقتناع بها في آخر لقاءاتهم الماراثونية في سبتمبر 2018، في أثناء قمة سالزبورغ في النمسا، فعادت ماي بخفي حنين إلى بلادها، حيث ينتظرها أعضاء البرلمان الذين لم يصبح في أيديهم، حسب تعبيرها، كثير من البدائل سوى اختيار بسيط بين خطتها أو اللااتفاق مع الاتحاد الأوروبي.

عقدت ماي آمالها على قمة سالزبورغ من أجل تحقيق الانسجام لتسهيل عملية انسحاب بلادها، خصوصًا مع اقتراب موعد الخروج الفعلي لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس عام 2019، في حين قوبل اقتراحها بالهجوم اللاذع من كل القادة الأوروبيين.

«دونالد توسك»، رئيس المجلس الأوروبي، صرح بأن الجوانب الرئيسية لاقتراح ماي لا تجدي نفعًا في شكلها الحالي. وأضافت المستشارة الألمانية، «أنغيلا ميركل»، بأن الاتحاد الأوروبي قد يرفض المساومة على إنشاء منطقة اقتصادية حرة مع بريطانيا. أما الرئيس الفرنسي، «إيمانويل ماكرون»، فقد كان الأعنف في تصريحه حين وصف من باع مشروع انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للشعب البريطاني بـ«الكاذبين»، لأنهم فروا من الساحة على الفور، دون أن يحصدوا ما زرعوه.

يرى الاتحاد الأوروبي أن بريطانيا تريد أن تقطف ثمار التعاون التجاري بينهما دون أن تدفع الثمن، وتريد  الاحتفاظ بنفس مزايا عضويتها في الاتحاد الأوروبي، حتى بعد الخروج منه. لم تُظهر ماي أي علامة على التراجع عن اقتراحها المثير للجدل في أثناء المؤتمر الصحفي الذي انعقد عقب القمة، لكن لوحظ غضبها في نبرة ردودها جراء حصارها تحت ضغوط رفض الاتحاد الأوروبي، ومعارضة حزب العمال المنافس، واستقالات وزراء الحكومة التي ترأسها وقلاقل داخل حزبها الحاكم.

ماي تحت الحصار

«بوريس جونسون» - الصورة: BackBoris2012 Campaign

تبدو ماي محاصرة من جميع الجهات. فالمعسكر الذي تنتمي إليه، والذي يرى في الخروج من الاتحاد الأوروبي خطوة لا مناص منها، فر أقطابه مستقيلين من حكومتها، أمثال «ديفيد ديفيس»، وزير ملف الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، و«بوريس جونسون»، وزير الشؤون الخارجية، لأنهم لم يتفقوا على صيغة موحدة ومقبولة لتجارة حرة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي لا تستمر فيها، من وجهة نظرهم، علاقة الإملاءات من جانب الاتحاد التي يجب على بريطانيا الانصياع لها.

تمادى جونسون في الخصومة حين وصف محاولات ماي لإقناع قادة الاتحاد الأوروبي، بالإذلال الأخلاقي والفكري، والكارثة الديمقراطية، والأداء الهلامي لحكومة لا تستطيع مواكبة مطالب الشعب. ولم يتوقف سيل الانتقادات، فقد طلب «جاكوب ريس موغ»، رئيس مجموعة البحث الأوروبية (الفصيل ذي النفوذ الأوسع داخل حزبها المتحمس لانسحاب بريطانيا من التكتل الأوروبي)، من ماي أن تتخلى عن خيارها القذر. الأوصاف التي استخدمها كلٌّ من موغ وجونسون تبدو كأنها صدى صوت جماعي، من داخل حزبها، يترقب الفرصة للانقضاض على منصب ماي في اللحظة الحاسمة.

أما «جيرمي كوربين»، رئيس حزب العمل المعارض، لم يرحب بأي صيغة للخروج من الاتحاد الأوروبي سوى في إطار إجراء استفتاء شعبي ثانٍ على صيغة الخروج. لكن يبدو أن ذلك الاستفتاء مجرد عقبة ابتدعها لعرقلة خطة ماي، فإذا ما غُضَّ النظر عن مطلب حزب العمل، لن تحصل ماي على ما تريده من موافقتهم في البرلمان، ولن تمر الخطة بسلام. أي إنه تعبير آخر غير صدامي، مؤقتًا، عن نيته لمحاولة البقاء داخل الاتحاد الأوروبي. لكن ذلك الخيار الذي يخفيه كوربين، يبدو بنفس صعوبة خيار ماي نفسها.

فلم يسلم حزب العمال من الانقسام الداخلي. إذ إن بعض الشخصيات ذات الكلمة المسموعة، مثل «جون مكدونيل»، ترى في الاستفتاء الثاني إعادة فتح الجرح، وليس تضميدًا له، ويرى البديل في خطة منصفة للانسحاب، وليس في البقاء في الاتحاد الأوروبي. لكنه تراجع بعدها ليؤكد أن كل الخيارات مفتوحة أمام الحزب.

لم تتنازل ماي عن خطتها في مقابل خطة الطريقة الكندية «السيئة» التي اقترحها الاتحاد الأوروبي كمساومة لاستمرار التبادل التجاري بين الطرفين.

رد فعل ماي كان غائبًا أمام طوفان الانتقادات من كل حدب وصوب والانقسامات في الداخل البريطاني، لكنها أمام رفض قادة الاتحاد الأوروبي الأقرب إلى السخرية من الشكل الساذج للخطة، صبت ماي غضبها عليهم، لأنهم لم يقترحوا أي مساومة، ولم يوضحوا أسباب اعتراضهم.

غضب ماي ترجمته بمطلب بسيط من الاتحاد الأوروبي، وهو «الاحترام المتبادل»، لأنه أساس العلاقة الجيدة بين البلدين. في المقابل، ربما أجَّلت ماي غضبها تجاه الانقسامات الداخلية حتى تحصل على موافقة القادة الأوروبيين أولًا.

من أجل الحصول على موافقة قادة الاتحاد الأوروبي، لم تتنازل ماي عن خطتها في مقابل خطة الطريقة الكندية «السيئة» التي اقترحوها كمساومة من أجل استمرار التبادل التجاري بين الطرفين، بل وفضلت اللااتفاق، لأن خطتهم تحتِّم بناء حدود على البحر الأيرلندي، ما يؤثر سلبًا على وحدة الأراضي البريطانية وسلامتها الدستورية. لكن بعض أعضاء حكومتها يميلون إلى خيار الطريقة الكندية بعدما نُسفت خطة ماي.

يُقصد بالطريقة الكندية صيغة التعاون التجاري بين الاتحاد الأوروبي وكندا التي أُسِّست على إلغاء 99% من الرسوم الجمركية على الصادرات بين الطرفين، لكن ماي انتقدتها بسبب غموض بعض بنودها، وكثرة الاستثناءات التي تضع الأمن المالي للشركات الكندية، ومن ثم البريطانية، إذا ما جرى الاتفاق على تلك الصيغة التي تستثمر في الاتحاد الأوروبي، في مهب الريح.

تراهن ماي على أن الاتحاد الأوروبي سيرضخ لخطتها في النهاية، لأن تسليمه بالخيار الآخر، أي اللااتفاق، قد يُمكِّن بريطانيا من تحقيق نموذج اقتصادي بديل في أوروبا، ملامحه دعم الصناعات محليًّا أو حتى الارتماء في أحضان البلدان الصناعية الصاعدة، مثل سنغافورة.

يمكن لماي أيضًا إضافة بعض التنازلات إلى خطتها، مثل حرية الانتقال أو إنشاء اتحاد جمركي، وطرحها على شعبها كنوع من التضحية بالنفس، أو حتى إقناع بلادها بخطة الطريقة الكندية، كخطة حاسمة بديلة عن فوضى اللااتفاق، في ذلك الوقت الضيق. إلا إنها تظل عنيدة متصلبة، ربما لأنها متأكدة أن الاتحاد الأوروبي سيخضع في اللحظة الأخيرة، أو ببساطة، لأنها لا ترحب بفكرة التضحية بالنفس.

قد يهمك أيضًا: رحلة بريطانيا الصعبة لمغادرة الاتحاد الأوروبي

الإطاحة بماي

الصورة: Tiocfaidh ár lá 1916

أعلنت ماي أنها تحضِّر لإقامة مهرجان بقيمة 120 مليون جنيه استرليني، احتفالًا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

رفض ماي التضحية بنفسها، لم يقَابَل بتصريحات غاضبة فحسب. فالغاضبون، سواء في حزب العمل المعارض أو حتى داخل حزبها، اتفقوا على البدء في إجراء انتخابات مبكرة لسحب الثقة من حكومتها، ومن ثَم يتحول غضبهم إلى استغلال اللحظة الأكثر ضعفًا لها. وبمجرد سحب الثقة من حكومة ماي، ستتشكل حكومة جديدة بعد 14 يومًا.

فوضى ما قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي شوشت على الفوضى المحتملة نتيجة الخروج نفسه، وظل مستقبل ماي متأرجحًا في انتظار انتخابات مبكرة محتملة، لكنها تحاول جاهدة محاصرة حصارها. ففي أثناء الاجتماع السنوي لحزبها الحاكم، السبت 29 سبتمبر، تصدرت مسألة الانقسامات حول خطط خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، الذي أثار بالتبعية اللغط حول مستقبل حكومتها، إلا أنها حذرتهم بعدم الانشغال باللعب بالسياسة من أجل مكاسب شخصية دون الوصول إلى الهدف المنشود.

قد يعجبك أيضًا: الحكومات متورطة: الفساد في أوروبا «للرُّكب»

إذا كانت ماي قد طلبت الاحترام المتبادل من الاتحاد الأوروبي تجاه خطتها، وحذرت الأحزاب البريطانية من لعب السياسة بإظهار الانقسامات تارة، ومحاولات الانقلاب عليها تارة أخرى، إلا أنها تجاوزت لعبة السياسة مع شعبها حين أعلنت أنها تحضِّر لإقامة مهرجان مماثل لمهرجان بريطانيا الشهير الذي عقد عام 1951، بقيمة 120 مليون جنيه استرليني، احتفالًا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

تشبية يبدو منطقيًّا من وجهة نظر ماي، أن تعيد إحياء مهرجان أقامته بلادها بعد ست سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، في كل المدن البريطانية الناجية من الدمار والخراب، كي يُظهر قدرة بريطانيا على استعادة ريادتها سريعًا في مجالات الصناعة والعلوم والفنون. وربما أحد أوجه التشبية أن دخول بريطانيا الكتلة الأوروبي ألحق بها التدمير والانتكاسة.

حُدِّد عام 2022 موعدًا لإقامة الاحتفال الذي اقتُبِست فكرته من المعرض الكبير لعام 1851، الذي أقامه زوج الملكة فكتوريا من أجل تشجع المنافسة بين الفنانين والمصممين البريطانيين، ونشر فكرة التمويل الذاتي، وكان المعرض حينها مُصمَّما لتكريس الفوقية البريطانية ضد الفرنسيين.

ليتحول إلى عرض لأفضل المواهب البريطانية في مجال الأعمال وتكنولوجيا المعلومات والفنون والرياضة إلى جميع أنحاء العالم. تعمدت ماي إحياء تلك الفعالية لأنه يرمز إلى التغيير، وتطلُّع بريطانيا إلى مستقبل أفضل، وتعاون تجاري عالمي مثمر. لكن لا أحد غيرها يدرك معنى التغيير الذي تنتظره من تحديدها عام 2022 موعدًا لانعقاده، خصوصًا أنه يتقاطع مع موعد الانتخابات العامة البريطانية القادمة.

مواضيع مشابهة