هل هذا عنوان لإحدى روايات الواقعية السحرية؟ لا، لكن كهف «موفيل» أشبه بعالم سحري في حد ذاته، وعدد البشر الذين هبطوا إليه يقارب عدد من صعدوا إلى القمر.
هذا العالم العجيب تحت الأرض لا يصله ضوء الشمس، وتعيش فيه كائنات لا مثيل لها في أي مكان آخر، فما قصة هذا الكهف؟
كهف موفيل: 5 ملايين عام بالصدفة
تحليل ماء الكهف أثبت أنه لا تصل إليه مياه من السطح مطلقًا.
اكتشف العالم الروماني «كريستيان لاسكو» هذا الكهف عام 1986، خلال البحث عن موقع ملائم لبناء محطة طاقة في مقاطعة كونستانتا جنوب شرقي رومانيا.
الدخول إلى الكهف يتطلب الهبوط بالحبال داخل ممر رأسي لمسافة 20 مترًا، لتصل إلى أنفاق ضيقة تُفضي إلى بحيرة تحت الأرض، يجب الغوص فيها واجتياز مزيد من الأنفاق والفجوات الضيقة للوصول إلى الأجزاء الداخلية من الكهف.
يُقدِّر العلماء أن الكهف ظل مغلقًا طوال 5.5 مليون عام، ما جعله معزولًا تمامًا عن العالم الخارجي، وأدى إلى تطور نظام بيئي فريد من نوعه في أعماقه. وعلاوة على صعوبة الوصول إليه، يتسم هواء الكهف برطوبته الخانقة واحتوائه على نسب مرتفعة من غازات كبريتيد الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، مع انخفاض نسبة الأكسجين إلى النصف، ما دفع السلطات إلى إغلاقه وعدم السماح بدخوله إلا بتصريح خاص، بسبب أجوائه السامة وحرصًا على عدم اضطراب نظامه البيئي الفريد.
بخلاف أغلب الكهوف، يخلو كهف موفيل من الصواعد والهوابط، وهي ظاهرة طبيعية تنتج عن وصول الماء إلى الكهف قادمًا من طبقات أعلى، إذ يقع موفيل تحت طبقة سميكة من الطمي لا تنفذ الماء.
عند تحليل مياه الكهف للكشف عن العناصر المشعة التي خلّفتها كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل، أتت النتائج سلبية، بما يؤكد أن الكهف لا تصله مياه من السطح مطلقًا، وأن الماء الموجود فيه يأتي من مصدر جوفي داخل طبقات الحجر الرملى الموجودة في المنطقة منذ آلاف السنين.
ورغم توفر الماء، يخلو كهف موفيل من الحياة النباتية لانعدام ضوء الشمس، فكيف تستمر الحياة إذًا داخل هذا الكهف المظلم؟
بكتيريا: لأن الحياة دون شمس ممكنة
البكتيريا الموجودة في الكهف لا توفر الغذاء اللازم لاستمرار حياة باقي الكائنات فحسب، بل أسهمت في تكوين الكهف وتشكيل بيئته الغريبة أيضًا.
تعتمد السلسلة الغذائية داخل كهف موفيل على طبقة من البكتيريا ذاتية التغذية، تطفو فوق سطح الماء، وتؤدي عملية التخليق الكيميائي من أجل صنع الغذاء.
يصف عالم الأحياء الدقيقة «ريتش بودن» هذه العملية بشكل مبسط بأن البكتيريا تأخذ الكربون من غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود في هواء الكهف، وفي غياب ضوء الشمس، تُنتِج البكتيريا الطاقة عبر تفاعلات كيميائية.
هذه البكتيريا لا توفر الغذاء اللازم لاستمرار حياة باقي الكائنات فحسب، بل أسهمت في تكوين الكهف وتشكيل بيئته الغريبة أيضًا، فحامض الكبريتيك الذي تنتجه يعمل على تآكل الصخور الكلسية، ما يفسر اتساع الكهف وارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في هوائه.
هناك مجموعة أخرى من البكتيريا تعتمد على فقاعات غاز الميثان المتصاعد من المياه للحصول على الكربون والطاقة، وتطلق مُرَكّبات في المياه لتوفير الغذاء لأنواع أخرى من البكتيريا.
رغم قسوة الظروف البيئية داخل كهف موفيل، رصد العلماء حتى الآن 48 نوعًا من الكائنات الحية تعيش فيه، منها 33 لا توجد في أي مكان آخر في العالم. ومعظم هذه الكائنات لا أعين لها، وتخلو أجسادها من الأصباغ، ولديها قرون استشعار طويلة لتساعدها على تحسس طريقها في ظلام الكهف.
في عام 1996، صنّف العلماء الكائنات الموجودة في كهف موفيل إلى عناكب (3 أنواع)، ومتماثلات أرجل مثل قمل الخشب (4 أنواع)، ونوع جديد من العلق ليس له مثيل، وحشرة غريبة المنظر سُميت عقرب الماء، بالإضافة إلى الحريش (أم أربعة وأربعين).
يعكف العلماء على دراسة بكتيريا كهف موفيل أملًا في العثور على طرق فعالة للتخلص من غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان، وكلاهما يسبب ظاهرة الاحتباس الحراري.
المكان الوحيد الذي تتشابه ظروفه مع كهف موفيل هو الينابيع الحارة في قاع المحيط، التي تتميز بارتفاع نسب الأمونيا والكبريتيد وثاني أكسيد الكربون. وكلاهما يمثل صورة حية للظروف التي سادت كوكب الأرض في مرحلة مبكرة من نشأته.
ربما كانت أشكال الحياة الأولى على كوكبنا، قبل وجود البشر، تشبه البكتيريا الموجودة في كهف موفيل، لذا فإن دراستها قد تؤدي بنا إلى فهم أفضل لطبيعة الحياة ونشأتها على الأرض.