في يوليو عام 2015، وفي أثناء اجتماع أنغيلا ميركل بتلاميذ المدارس في مدينة روستوك الألمانية، تسببت المستشارة في بكاء الطفلة الفلسطينية ريم سحويل، بعد أن لمَّحت إلى نية الحكومة ترحيلها إلى لبنان ضمن اللاجئين الذين لم تُسوَّى أوضاعهم القانونية، لكن بعد بكاء الفتاة على التليفزيون، قررت المدينة منحها إقامة مفتوحة، عكس كل هؤلاء الذين لم يظهروا على الشاشات ورُحِّلوا في هدوء.
تخطى عدد طالبي اللجوء داخل الأراضي الألمانية عام 2015 المليون، وهو ما يعادل أربعة أضعاف عددهم عام 2014، وفقًا لتصريح وزير الخارجية الألماني «توماس ديميزير»، وبذلك تكون المستشارة ميركل قد أخطأت في تقديرها بنحو 200 ألف شخص، وتشير الإحصائيات إلى أن العدد الأكبر من هؤلاء اللاجئين سوريون، ويشكلون نحو 40%، ويليهم في المرتبة الثانية الأفغان.
لا يحظى كل هؤلاء بأوضاع قانونية في ألمانيا، إذ أشار وزير الخارجية إلى أن السلطات سجلت 470 ألف شخص منهم فقط، وقررت الحكومة الفيدرالية تعيين أربعة آلاف موظف إضافي في مكتب الهجرة بهدف تقليل تدفق المهاجرين. تعمل ألمانيا على تقليل عدد طالبي اللجوء الجدد بكل حزم باستخدام «جميع السياسات المتاحة»، وفق ديميزير.
رئيس المنظمة الممثلة للسلطات المحلية، «رونالد شافير»، أكد أن المدن والبلديات «غير قادرة على مجاراة» هذا التدفق إن استمر على النحو ذاته.
ومع كل تلك المؤشرات بالعجز والقلق في مواجهة مشكلة اللاجئين منذ بدايتها، دافعت ميركل عن موافقتها على استقبال أكثر من مليون طالب لجوء، وعبَّرت عن عدم ندمها، وأنها ستتخذ نفس القرارات المهمة «مجددًا وبنفس الطريقة».
لكن في لقاء لها قبل أربعة أسابيع فقط من بداية عملية التصويت في الانتخابات التشريعية، نشرته صحيفة «Welt»، قالت ميركل إن قرار فتح حدود ألمانيا لاستقبال اللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان الفارين من العنف المتصاعد في بلادهم جاء استجابةً لموقف «استثنائي»، ومستندًا إلى أساس صحيح من منطلق سياسي وإنساني، مما يشير إلى نيتها أخذ خطوات جادة نحو علاج الأزمة.
الطريق إلى تصحيح أوضاع اللاجئين في ألمانيا
في أكتوبر 2017، قالت ميركل إنه من السذاجة الاعتقاد بأنها شجعت اللاجئين على القدوم إلى ألمانيا، بل لامت معارضة الاشتراكيين الديمقراطيين، وأكدت مسؤوليتهم عن تأخر حكومتها 14 شهرًا من أجل صدار قرار بأن بلاد غرب البلقان دول منشأ آمنة. ولم تكن معارضة الاشتراكيين الديمقراطيين الأولى ولا الوحيدة التي رافقت رحلة ميركل في سبيل التخلص من اللاجئين.
أجرت ميركل مجموعة من الزيارات إلى الدول المصدرة للاجئين للاتفاق على ضبط الهجرة غير الشرعية، وكانت محادثاتها مع تونس ومصر ضمن هذا السياق.
انطلقت رحلة ميركل من بروكسل عام 2016، عندما عقدت قمة مصغرة مفاجئة مع تسعةٍ من دول الاتحاد الأوروبي المُفترض استقبالهم للاجئين، وفقًا لما يُعرف ببرنامج إعادة التوزيع الإجباري للاجئين على دول الاتحاد الأوروبي. لم تتوصل دول الاتحاد إلى سياسات مشتركة بشأن التصدي لتدفق اللاجئين، حتى أبرمت اتفاقية مع تركيا لمنع وصول اللاجئين القادمين إلى أوروبا. ووُصفت الاتفاقية بالهشة رغم جهود ميركل للدفع نحو موافقة الدول على هذا البرنامج.
في المقابل، اعتبرت تركيا الاتفاقية «بداية جديدة» مع ألمانيا، التي قدمت ثلاثة مليارات يورو لتحسين مستوى معيشة اللاجيئن في تركيا، لإقناعهم بعدم النزوح إلى الأراضي اليونانية (التي يتحركون منها إلى ألمانيا ودول أوروبا)، بالإضافة إلى إعادة المحادثات بشأن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وتسهيل إصدار تأشيرات للأتراك بهدف التمكن من السفر إلى أوروبا بشكل قانوني.
تُعَد هذه الاتفاقية تخليًا من أوروبا عن التزاماتها تجاه حقوق الإنسان، قد يكون خطره في المستقبل أكبر من الفوضى المنتشرة على الأراضي اليونانية اليوم، ويعي قادة أوروبا حجم الخطر، ومع ذلك يسرعون لتكوين «آلية شاملة لإعادة اللاجئين غير الشرعيين» بدلًا من رعاية حق طالبي اللجوء بعملية تقييم عادلة، طبقًا لقواعد احترام حقوقهم لحظة وصولهم الأراضي اليونانية.
إضافةً إلى اتفاقها مع تركيا، أجرت ميركل مجموعة من الزيارات إلى دول جنوب المتوسط المصدرة للاجئين، من أجل الوصول إلى اتفاقات بشأن ضبط الهجرة غير الشرعية، وكانت محادثاتها مع الحكومتين التونسية والمصرية ضمن هذا السياق.
اقرأ أيضًا: بعد انتخابات البرلمان الألماني: مستقبل اللاجئين يظل ضبابيًّا
الإجابة ليست تونس هذه المرة
في ديسمبر 2016، لقي 12 شخصًا حتفهم وأُصيب 48 في برلين خلال الاحتفال بأعياد الميلاد جراء هجوم التونسي أنيس العمري، واحتجزت السلطات الألمانية تونسيًّا آخر اشتُبه في تورطه في الهجوم.
بعد الحادث بثلاثة أشهر، استقبل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي المستشارة ميركل للاتفاق على إعادة 1500 تونسي رُفضت طلبات لجوئهم، وكانت إغراءات ميركل حاضرة، بين مساعدات مادية لخلق فرص عمل وتسهيلات في إصدار التأشيرات للتونسيين.
ليست تونس بلد العبور الرئيسي للمهاجرين، فنسبة 0.5% فقط من المهاجرين الذين وصلوا إلى أوروبا بطرق غير قانونية عبر البحر المتوسط في عام 2016 جاءت من تونس. وبحسب منظمة «مشروع بورغن» المتخصصة في الأمن الغذائي العالمي، دخل نحو 991 ألف شخص من ليبيا إلى تونس بسبب الحرب الأهلية.
من ناحية أخرى، أعلن التقرير السنوي لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» لعام 2017 أن انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان تحدث في تونس، مثل التعذيب، والإقامة الجبرية التعسفية، وتقييد السفر بموجب حالة الطوارئ في البلاد، وعدم حصول اللاجئين على حقوقهم في التعليم والعمل والخدمات الأساسية، مما يطرح التساؤل عن مصير طالبي اللجوء التونسيين العائدين إلى بلادهم في المستقبل القريب.
حذر حزبا الخضر واليسار المعارضان لميركل من إبرام اتفاقية مع تونس، فأعلنت رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب الخضر، «كاترين غورينغ-إكارت»، أنه لا ينبغي لميركل أن تكرر مع تونس الخطأ الذي ارتكبته في التعامل مع أردوغان عبر «اتفاق لاجئين قذر»، فيما أكدت «كاتيا كيبينغ» رئيسة حزب اليسار أنه «يتعين على ميركل أن تنأى عن أي خطط لتأسيس مخيمات لاجئين في تونس، وعليها أن تحث رئيس الوزراء التونسي على الالتزام بحقوق الإنسان بدلًا من حثه على التشدد مع اللاجئين».
وحذرت منظمة «برو أزول» من بناء مراكز لاستقبال اللاجئين في تونس، وقالت المنظمة التي تعنى بشؤون اللاجئين إن إقامة مثل هذه المراكز سيحرم اللاجئين من حقهم في طلب اللجوء داخل الاتحاد الأوروبي.
على الجانب التونسي، نفى رئيس الوزراء يوسف الشاهد ارتكاب السلطات التونسية أي أخطاء، وأكد أن «العمري لم يكن إرهابيًّا عندما غادر تونس عام 2011».
اقرأ أيضًا: هل تعيد أزمة اللاجئين السوريين تشكيل المجتمع التركي؟
كل شيء على ما يرام في القاهرة
انتقد رجل دين مسيحي في ألمانيا المستشارة ميركل بعد زيارتها مصر بسبب موقفها «الخانع»، وبسبب وصفها وضع الأقباط في مصر بأنه «جيد جدًّا».
في سياق جهود ميركل نفسها لتحجيم أزمة اللاجئين، وصلت المستشارة الألمانية إلى مصر في مارس 2017 من أجل عقد محادثات. وشملت الزيارة مباحثات بشأن الأزمة الاقتصادية المصرية وإمكانيات الدعم الألماني للقاهرة. وقالت ميركل في المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس عبد الفتاح السيسي إنها اتفقت مع مصر على مسألة مراقبة الحدود وتقديم الدعم للمهاجرين السوريين الذين يشكلون 500 ألف لاجئ.
تعاني مصر مشاكل اقتصادية جمَّة، فالتراجع الحاد في السياحة على سبيل المثال أدى إلى نقص عائدات العملات الأجنبية وتردي حالة العملة الوطنية وارتفاع الأسعار وتدني الأجور، إضافةً إلى ارتفاع البطالة وتزايد السكان بشكل هائل. ومن ناحية أخرى، تعتبِر الشركات الألمانية مصر سوقًا لمنتجاتها بالدرجة الأولى، إذ كانت ألمانيا عام 2015 ثاني أكثر الدول تصديرًا إلى مصر.
تزايدت الضغوط على ميركل بشأن اتفاقيتها مع القاهرة، فحثت منظمة العفو الدولية المستشارة الألمانية على الضغط على السيسي لرفع القيود المفروضة على النشطاء الحقوقيين، وقال «رينه فيلدانغل»، خبير الشؤون المصرية في المنظمة، إن معاناة المجتمع المدني والإعلام والمعارضة السياسية تزداد تحت قمع الدولة، الذي «يحدث كثيرًا بذريعة ما يسمى بالحرب على الإرهاب»، بينما انتقد رجل دين مسيحي في ألمانيا المستشارة ميركل لموقفها «الخانع»، وبسبب وصفها وضع الأقباط في مصر بأنه «جيد جدًّا».
بسؤال ميركل في برنامج «ألمانيا تختار» قبيل الانتخابات البرلمانية الأخيرة بشأن سياستها الخارجية في التعاون مع الدول التي لا تنطبق عليها معايير الديمقراطية، قالت إنها تحدثت عن المواضيع المثيرة للجدل جزئيًّا بشأن الهيئات السياسية الألمانية التي تعمل في مصر، وانتهاكات حقوق الإنسان، وإنها تهتم بالقيم اهتمامها بمصالح بلدها، وتدعم مصر من أجل الاستقرار الاقتصادي.
يرد السيسي في هذا السياق بأن هذه الأمور خاضعة للتباحث والنقاش بين مصر وألمانيا، مؤكدًا أن مصر تعيش انتقالًا ديمقراطيًّا صعبًا، وتحاول استعادة استقرارها السياسي والاقتصادي، وهناك أولويات تفرض نفسها حاليًّا.
اللاجئون وحدهم يدفعون الثمن
بعيدًا عن الاتفاقات الدولية، يبدو أن مفردات ما يُعرف بسياسة «الترحيل غير الآمن»، مع يأس طالبي اللجوء والانتهاكات الحقوقية التي يعانون منها في بلادهم وفقًا لمنظمات عالمية عدة، وضعف المعارضة الأوروبية التي تسعى لإلغاء هذه الاتفاقيات، تجتمع جميعًا لخلق ينبوع من الإرهاب لا يمكن تجفيفه.
عندما كتبت الشاعرة الإنجليزية ذات الأصول الصومالية «وارسان شاير» أنه «لا يخاطر أحدنا بركوب البحر مع أبنائه، إلا إذا كانت المياه أكثر أمانًا من اليابسة»، لم يصل خيالها إلى أن المسؤولين في الضفة الأخرى سيدفعون «أحدنا» ثانيةً إلى البحر الهائج، ويعيدونه مجددًا إلى الأرض التي جاء هربًا منها.