الكويت وجائزة نوبل في الاقتصاد.. نقول مبروك؟

الصورة: كونا - التصميم: منشور

ضاري سليمان الرشيد
نشر في 2021/11/21

لا، لم يفز كويتي بالجائزة، ولم تكن الكويت موضوع الأبحاث الفائزة، بل مؤكد أنها لم تخطر ببال لجنة اختيار الجائزة ولا الباحثين الفائزين، لكن حكومة الكويت ستسدي شعبها وأجيال المستقبل خدمة جليلة لو عاملت جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2021 كما لو كانت مهداة إليها، لما يحويه موضوع الجائزة من أدوات قد تمد لها طوق النجاة في مواجهة ما أسمته بالكارثة ورقةٌ اقتصادية بعنوان «قبل فوات الأوان»، أصدرها 29 أكاديميًا (منهم كاتب المقال) متخصصًا في مجالات الاقتصاد والإدارة من جامعة الكويت في نوفمبر 2020.

كأي مقال اقتصادي عن الكويت، دعونا نبتدئ بالديباجة الضرورية: يقوم اقتصاد الكويت الريعي على اختلالات هيكلية غير مستدامة، إذ يعتمد على استخراج وتصدير مورد طبيعي غير متجدد تغذي إيراداته المالية العامة التي تتيح توظيف المواطنين في القطاع العام بوظائف صورية1، وذلك على حساب تنافسية القطاع الخاص الذي يلجأ إلى استيراد العمالة الأجنبية الرخيصة ومتدنية التعليم والمهارة لتشغيل قطاعاته2. 

يؤدي هذا الاختلال الإنتاجي النفطي حتمًا إلى اختلال سوق العمل والتركيبة السكانية3 4 5، علاوة على اختلال المالية العامة المثقلة بنمو مصروفات رواتب الوظائف الحكومية والدعوم الاجتماعية، دون أن يواكبه نمو مماثل في الإيرادات بسبب بقائها رهينة لأسعار النفط المتقلبة6، حتى تراكم العجز المالي إلى 28 مليار دينار في السنوات الخمس الأخيرة، وأدى إلى نفاد الاحتياطي العام بالكامل. وقد عرّت الأزمة الاقتصادية المزدوجة في عام 2020 (انهيار أسعار النفط والركود الاقتصادي المصاحب لجائحة كوفيد-19) هذه الاختلالات، وأحيت مجددًا الحديث عن ضرورة الإصلاح الاقتصادي.

غريب أمر هذه الديباجة، فهي تطل برأسها عند كل ضائقة، إلا أن أيًا من تحذيراتها من انهيار حتمي لتلك الهياكل الاقتصادية المختلة لم يتحقق، حتى غدا الاقتصاد الكويتي كالوحش في أفلام الرعب، الذي قد يترنح بهزات أسعار النفط، وقد يسقط بهذه الأزمة أو تلك، وقد يدمى ويعتل لبرهة من الزمن، ولكنه سرعان ما ينهض من جديد إلى أن تأتي المناسبة القادمة لتكرار الديباجة، فما الذي ساعد الاقتصاد الكويتي على الصمود رغم التحذيرات المتكررة؟

وسادة النفط

الصورة: كونا

خلقت فوائض الإيرادات النفطية منذ بداية تصدير النفط، مقرونة بصغر حجم المجتمع وسقف عالٍ للنمو، وسادة وثيرة خففت من آثار الصدمات الاقتصادية التي مرت بها الكويت، وأتاحت للحكومات ومجالس الأمة المتعاقبة توزيع ثروة النفط من خلال برامج التوظيف والإسكان والدعوم دون اعتبار للحاجة أو العدالة الاجتماعية، وأتاحت أيضًا لها الارتجال والتجريب في صنع السياسات العامة غير عابئة بعوائدها الاقتصادية والتنموية، بفضل اتساع الهامش المسموح للخطأ الذي وفرته الفوائض المالية، فهل لا تزال الكويت تملك رفاهية الاستمرار بهذا النهج في الصرف والارتجال؟ 

تتمثل الكارثة الاقتصادية التي أشارت إليها ورقة «قبل فوات الأوان» في الحاجة إلى خلق نحو 400 ألف وظيفة جديدة خلال السنوات العشرين القادمة لاستيعاب طوفان الخريجين الداخلين إلى سوق العمل، وهو رقم يساوي تقريبًا إجمالي قوة العمل الكويتية الحالية التي استغرق بناؤها 60 عامًا. 

وبفعل تراكم العجز المالي وتقلب أسعار النفط (وبوادر انحسار الطلب العالمي عليه)، انكمشت الوسادة النفطية وتصلبت ولم تعد توفر مصدًا كافيًا لكارثة بهذا الحجم، وتقلص هامش الخطأ في السياسات العامة بفعل اختلال المالية العامة، وغارت سكين الارتجال والتجريب في عضل الاحتياطيات المالية وبلغت العظم، مما يعني أيضًا ارتفاع تكلفة الفرصة البديلة لكل دينار يهدَر على سياسات خاطئة. لذلك باتت الحاجة ملحة لترشيد عملية صنع السياسات العامة وإخضاعها للاختبار قبل تنفيذها وتقييم كفاءتها بدقة، لكن الاقتصاد كائن معقد ويتحور بفعل الاختيارات والقرارات التي يتخذها الأفراد والأسر والمؤسسات والحكومات باختلاف خصائصهم وتفضيلاتهم ودوافعهم وقيودهم، كما أنهم يتأثرون بتلك السياسات ويكيفون سلوكهم حولها، مما قد يفقدها فعاليتها، لذلك يصعب تحييد أي عوامل أخرى مرتبطة بالظروف الاقتصادية المحيطة والسياسات الأخرى التي قد تتداخل مع السياسة موضع التقييم، فما العمل إذًا؟

مختبر الاقتصاد

الصورة: كونا

في 11 أكتوبر 2021، أعلنت لجنة جائزة نوبل فوز ثلاثة اقتصاديين من جامعات أمريكية: ديفيد كارد وجيدو إمبينز وجوشوا آنغريست، وذلك لإسهاماتهم في مجال الاقتصاد القياسي الجزئي (Micro-econometrics)، وتحديدًا لتطويرهم منهجيات الاستدلال السببي (Causal Inference) في التقييم الكمي والتجريبي للسياسات العامة، إذ أسسوا لما أسماه آنغريست وزميل له بـ«ثورة المصداقية في الاقتصاد التجريبي» في ورقة بحثية نشراها عام 2010، فما المقصود بذلك؟

منذ أيام أفصح وكيل وزارة التربية عن برنامج لتعويض الفاقد التعليمي الناتج عن توقف الدراسة أثناء جائحة كوفيد-19 من خلال ما يشبه فصول تقوية مسائية. وبينما لم تكشف الوزارة عن تفاصيل البرنامج بعد، لنفترض أنه طُبِّق وانتهى وجاء وقت تقييمه، فيبرز السؤال المستحق: هل حققت فصول التقوية أثرًا إيجابيًا كافيًا في تعويض الفاقد التعليمي لتبرر التكلفة المتمثلة في إجهاد الطلبة وأولياء الأمور والمعلمين، بالإضافة إلى التكاليف المالية المرتبطة بتشغيل المرافق والأجور الإضافية للكادر التعليمي والإداري؟ لو أردنا الطريقة المثلى للإجابة عن هذا السؤال لاتبعنا المنهجي التجريبي في العلوم المادية، كالمثال التالي.

لنتخيل باحثًا علميًا اخترع طلاء مضادًا للصدأ، وكي يختبر فعاليته عليه أن يأتي بقطعتي حديد متطابقتين في الحجم والشكل والخصائص الفيزيائية، فيطلي الأولى فقط ويسميها عينة المعالجة (Treatment)، ويسمي الأخرى غير المطلية عينة الضبط (Control)، ثم يراقب تعرضهما لظروف بيئية متطابقة في مختبر، كالأكسجين والماء والحرارة والضغط، فإذا قاومت القطعة المعالجة بالطلاء الأكسدة بينما صدأت قطعة الضبط، استنتج أن الطلاء فعال، واعتبر العلاقة بينه وبين مقاومة الصدأ سببية وليست ترابطية. هذه التجربة ممكنة في مختبر محكم يتيح التحكم في جميع العوامل الأخرى التي قد تتداخل مع تأثير الطلاء، فهي قائمة على المقارنة بين عينتي المعالجة والضبط المتطابقتين في كل شيء ما عدا الطلاء.

كيف يمكننا أن نُسقط هذه المنهجية على مثال برنامج التقوية؟ ماذا لو عقدت الوزارة اختبارًا ووجدت الطلبة المشاركين في البرنامج قد حصلوا على درجات أعلى ممن لم يشاركوا، هل نبارك للوزارة وأولياء الأمور؟ هذه المقارنة مغلوطة إحصائيًا في حال كانت المشاركة اختيارية بسبب ما يعرف بالتحيز الانتقائي (Selection Bias)، فربما يكون الطلبة المشاركون (أو أولياء أمورهم) أكثر حرصًا وإيمانًا بأهمية تعويض الفاقد من غيرهم، وهذا ما دفعهم للمشاركة بالدرجة الأولى، لذلك فإن التفوق في الاختبار قد يعود إلى اجتهادهم الذاتي بطرق أخرى موازية لبرنامج التقوية، بحيث لو لم يتوفر البرنامج لربما وجدوا طرقًا أخرى لتعويض الفاقد بدافع حرصهم. إذًا، مجموعتا المعالجة والضبط في هذه المقارنة تختلفان جوهريًا في خصائصهما غير الظاهرة (الدافع والحرص والاهتمام) ويصعب تحييد تأثيرها.

ماذا لو وجدنا تحسنًا في أداء الطلبة المشاركين بعد البرنامج مقارنة بأدائهم قبله؟ هل ننسب هذا التحسن إلى البرنامج كوننا نقارن الطلبة بأنفسهم ولا وجود لاختلافات في الدافع والحرص؟ هذه المقارنة باطلة أيضًا بسبب تغير العوامل والظروف البيئية المحيطة والمتزامنة مع برنامج التقوية، وبهذا تكون عينة المعالجة (بعد البرنامج) مختلفة جذريًا عن عينة الضبط (قبل البرنامج). وحتى وإن اقتصر البرنامج على الكويتيين ستكون المقارنة بغير الكويتيين باطلة، بسبب اختلافات اجتماعية وثقافية وظرفية غير ظاهرة بين المجموعتين.

إذًا، القدرة على تحديد علاقة سببية بين برنامج التقوية وتعويض الفاقد التعليمي ترتكز على إيجاد مجموعتي معالجة وضبط متطابقتين في كل شيء ما عدا المشاركة في البرنامج، ولتحقيق ذلك ينبغي خلق واقعين: الأول هو الواقع الحقيقي حيث شارك الطلبة في برنامج التقوية، والثاني هو واقع افتراضي بديل كما لو أنه آلة زمن تعود بالطلبة والظروف إلى ما كانوا عليه من دون البرنامج، وهكذا يمكن نسبة أي فرق يوجد في أدائهم الدراسي بين الواقعين إلى برنامج التقوية، إلا أن ذلك غير ممكن لأسباب بديهية.

يمكن إسقاط هذه المعضلة على الكثير من السياسات العامة، إذ تكمن إشكالية تقييمها في أن الاقتصاد أو المجتمع ليس مختبرًا، والناس والمؤسسات ليسوا جمادًا يُستخرج منه عينتا معالجة وضبط متطابقتا الخصائص الظاهرة منها وغير الظاهرة، والسياسات العامة ليست تجارب مخبرية يمكن التحكم في ظروفها المحيطة، لكن ما فعله الفائزون بالجائزة وآخرون غيرهم هو تطوير نظريات إحصائية ونماذج رياضية وطرق قياسية للاقتراب من إيجاد الواقع الافتراضي البديل، الذي يتيح بدرجة عالية من المصداقية التغلب على مشكلة التحيز الانتقائي وتغير الظروف البيئية المحيطة.

من الطب إلى الاقتصاد

الصورة: منشور

كالكثير من اللقاحات والأدوية، خضعت لقاحات كورونا لاختبارات تجريبية على عينة من الناس لقياس فعاليتها ضد فيروس كورونا. وللتغلب على مشكلة التحيز الانتقائي الناتج عن المقارنات المغلوطة بين المطعمين وغيرهم، لجأ الباحثون إلى تقسيم المشاركين باستخدام قرعة عشوائية إلى مجموعتي المعالجة والضبط في ما يعرف بتجارب الضبط العشوائية (Randomized Control Trials). ففي التقسيم العشوائي يتساوى متوسطا الخصائص غير الظاهرة (كالوعي الوقائي ونمط الحياة الصحي) إحصائيًا بين المجموعتين بحيث يلغي كل منهما الآخر، وبهذا تصبح المقارنة بينهما صحيحة إحصائيًا، ويُنسب الفرق في متوسطي استجابة الأجسام بينهما إلى فعالية اللقاح بمعزل عن أي مؤثرات أخرى.

تظل تجارب الأبحاث الاقتصادية شحيحة بسبب تكلفتها العالية وصعوبة تطبيقها عمليًا والمحاذير الأخلاقية المقيدة لها.

عمل الفائزون بالجائزة على تكييف الأسس النظرية والعملية التي تقوم عليها تجارب الضبط العشوائية المتبعة في الطب لتتناسب وتطبيقها في المواضيع الاقتصادية والاجتماعية، إذ توظَّف في اختبار الكثير من سياسات وبرامج التنمية ومحاربة الفقر، كما فاز ثلاثة من روادها بجائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2019

وتوفر هذه التجارب فرصًا عديدة للإصلاح المالي والاقتصادي في الكويت، فعلى سبيل المثال باستطاعة وزارة الكهرباء والماء توظيفها لاختبار فعالية أساليب مختلفة لرفع معدل تحصيل الفواتير وترشيد الاستهلاك، من خلال اختيار عينتين من المستهلكين عشوائيًا والتعامل مع إحداها إيجابيًا (كالتذكير الدوري والرسائل التي تخاطب حس المسؤولية الوطنية والبيئية) والأخرى سلبيًا (كالإنذار والمقاضاة وقطع المياه ومنع السفر). إضافة إلى ذلك فإن القرعات التي تجريها بعض المؤسسات الحكومية (توزيع وحدات الرعاية السكنية وقبول المؤسسات العسكرية) والخاصة (سحوبات جوائز البنوك) هي بمثابة دراسات اقتصادية واجتماعية بانتظار من يجريها إذا ما توفرت بياناتها.

تظل هذه التجارب شحيحة في الأبحاث الاقتصادية بسبب تكلفتها العالية وصعوبة تطبيقها عمليًا والمحاذير الأخلاقية المقيدة لها، فعلى سبيل المثال يعد انتهاكًا أخلاقيًا حرمان أطفال من برنامج التقوية عمدًا لاستخدامهم كعينة ضبط في تجربة لقياس التعويض في الفاقد التعليمي، إضافة إلى إشكالية تعميم نتائج هذه التجارب محدودة النطاق على سياقات مختلفة، لذلك كبديل عنها يوظف الباحثون ما يعرف بالتجارب الطبيعية (Natural Experiments)، وهي تجارب لا يصممها باحث أو مؤسسة ما، بل يفرضها الواقع والظروف، ويمكن من خلالها الحصول على عينات كما لو كانت موزعة عشوائية في مجموعتي معالجة وضبط تصح المقارنة بينهما.

أدوات الطبيعة

الصورة: منشور

هل يسبب الإنجاب وتربية الأولاد تعطل المسار العملي والتطور الوظيفي؟ هذا سؤال يتبادر إلى ذهن كل امرأة عاملة على وجه الخصوص. وتضع الدول سياسات وقوانين للتوفيق بين العمل وتكوين الأسرة (مثل إجازات الوضع والأمومة مدفوعة الأجر)، تتكبد على إثرها جهات العمل تكاليف لا يستهان بها وقد تؤدي إلى التمييز ضد المرأة في التوظيف، لذلك ينشغل الباحثون في اقتصاديات العمل في محاولة قياس العلاقة السببية بين تكوين الأسرة والمسار العملي للمرأة، فالمقارنة السطحية للأجور أو مسارات العمل بين العاملات الأمهات واللاتي لم ينجبن ملوثة بالتحيز الانتقائي، وقد يكون الطموح والدافع العملي هو المسبب للتقدم الوظيفي وتأجيل الإنجاب معًا، ولكن من دون وجود علاقة سببية بينهما، أو قد تكون العلاقة السببية معاكسة، إذ يؤثر المسار العملي في قرارات الإنجاب وليس العكس.

ليس من الممكن عمليًا ولا أخلاقيًا إجراء تجربة ضبط عشوائية توهَب فيها العاملات في مجموعة المعالجة أطفالًا وتُحرم مجموعة الضبط من الإنجاب للمقارنة بين مساراتهن العملية بعد سنين طويلة، لكن كبديل عنها وظف باحثون اقتصاديون تجربة طبيعية ذكية، ففي بحث منشور عام 1998، استخدم آنغريست وزميل له قاعدة بيانات حكومية تحوي عينة من النساء العاملات أنجب بعضهن طفلًا واحدًا والبعض الآخر توأمًا، ففطنا إلى أن هذا التفاوت في عدد الأولاد لا علاقة له بالطموح العملي أو التقدم الوظيفي، فعقدا مقارنة بين المسارات العملية للعاملات أمهات التوائم (مجموعة المعالجة) وأمهات الفرادى (مجموعة الضبط)، ووجدا أثرًا سلبيًا لإنجاب طفل إضافي على عمل المرأة، إلا أنه أصغر من الأثر الناتج عن عدم معالجة مشكلة التحيز الانتقائي، مما يبرز خطورة صنع السياسات العامة بناء على المقارنات السطحية.

تعرف هذه المنهجية بطريقة «المتغير الأداتي» (Instrumental Variable)، إذ توظف حمل التوأم كـ«أداة» لتشكيل مجموعتي معالجة وضبط تتفاوتان في عدد الأولاد، كما لو أن التفاوت ناتج عن قرعة عشوائية أجرتها الطبيعة. وقد استُخدمت هذه المنهجية في دراسة حديثة عن التأثير الاقتصادي لتوقف التعليم أجراها باحثون كويتيون وآخرون من البنك الدولي، ووظفوا خلالها الغزو العراقي عام 1990 كأداة أحدثت توقفًا غير متوقع في التعليم غير مرتبط بالدافع والطموح التعليمي. الجدير بالذكر أن الباحثين استخدموا بيانات دقيقة ومفصلة من ديوان الخدمة المدنية عن الأجور والخصائص الديموغرافية للعاملين، وهو مثال جدير بالإشادة لتعاون مؤسسة حكومية مع باحثين أكاديميين للإجابة عن سؤال مهم ويمكن الاستفادة منه في معالجة الفاقد التعليمي الناتج عن جائحة كوفيد-19.

الفرق بين الفروقات

الصورة: منشور

تلجأ العديد من الدول (منها الكويت) إلى وضع حد أدنى للأجور فوق نقطة توازن العرض والطلب في سوق العمل، بغرض رفع المستوى المعيشي للعاملين ذوي الأجور الدنيا، ولكن النظرية الاقتصادية تنبئ بأثر سلبي نتيجة تسريح أصحاب الأعمال بعض عمالتهم بسبب ارتفاع قيمة فاتورة الأجور، فكيف يمكن تقدير أثر هذه السياسة لتحديد أي من الأثرين هو الراجح؟ المقارنة السطحية بين دولتين تتفاوتان في الحد الأدنى للأجور تقع في مغالطة الاختلافات الجوهرية بينهما وتداخلها مع أثر السياسة موضع التقييم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المقارنة بين قبل وبعد تطبيق السياسة، إذ تكمن الإشكالية في إيجاد مجموعتي معالجة وضبط تتشابهان في كل شيء ما عدا الحد الأدنى للأجور.

في عام 1994 نشر ديفيد كارد وزميله الاقتصادي آلان كروغر بحثًا قارنا فيه معدل البطالة بين ولايتي نيوجيرسي الأميركية التي رفعت مؤخرًا الحد الأدنى للأجور فيها (مجموعة المعالجة) وبنسلفانيا التي بقي الحد فيها ثابتًا (مجموعة الضبط)7. وللتغلب على إشكاليات المقارنة السطحية، اقتصر البحث على قطاع مطاعم الوجبات السريعة الذي تأثر بالسياسة بسبب تدني الأجور فيه، وثانيًا اقتصرت عينة المطاعم في بنسلفانيا على تلك الواقعة في الجانب الشرقي منها المتاخم لنيوجيرسي، وبذلك يكون الحد الجغرافي الفاصل بين الولايتين كما لو أنه قرعة أجرتها الطبيعة توزع المطاعم على جانبي الحد، مع تشابه الظروف الاقتصادية والخصائص الديموغرافية والاجتماعية فيهما، وبهذا يُنسب أي فرق بينهما في معدل البطالة إلى التغير في الحد الأدنى للأجور في نيوجيرسي.

تُعرف هذه المنهجية بطريقة «الفرق بين الفروقات» (Difference in Differences)، وتقوم على حساب الفرق في معدل البطالة قبل وبعد تطبيق السياسة في كل من المجموعتين على حدة، والفرق بين المجموعتين، ومن ثم احتساب الفرق بين الفرقين للحصول على الناتج المساوي للأثر السببي للسياسة على معدل البطالة. 

الشرط الأساسي لصحة النتائج هو تحييد أثر أي تغيرات اقتصادية (ظاهرة أو غير ظاهرة) لها تأثير على معدل البطالة يتداخل مع أثر رفع الحد الأدنى للأجور، وبالإمكان تدعيم توافر هذا الشرط رغم استحالة اختباره إحصائيًا، ولا يزال هذا البحث واحدًا من أهم وأشهر الأبحاث وأكثرها إثارة للجدل، ذلك لأنه لم يجد دليلًا يدعم النظرية التي تعد من المسلمات في علم الاقتصاد، وتوالت الأبحاث من بعده منها ما أكد نتائجه ومنها ما ناقضها، وليس ذلك مستغربًا نظرًا لاختلاف السياقات الاقتصادية موضع الدراسة، إلا أن هذا الجدل المستمر يبين أن صنع السياسات الاقتصادية عملية معقدة وتأتي أحيانًا بنتائج غير متوقعة أو عكسية، مما يؤكد أهمية الاستناد إلى الدليل العلمي باستخدام البيانات المفصلة والدقيقة ومنهجيات علمية رصينة لاستخلاص العلاقات السببية بين السياسات العامة ومستهدفاتها.

تجارب لائحية

الصورة: منشور

تنفق وزارة التعليم العالي مئات الملايين من الدنانير سنويًا على برنامج البعثات الخارجية8، فهل لهذا الإنفاق ما يبرره؟ إذا كان الغرض هو الحصول على شهادة جامعية فحسب، فالأوفر توجيه هذه الأموال لإنشاء جامعات محلية تستوعب جميع خريجي المرحلة الثانوية، لكن هذا الإنفاق مبرَّر في سياق الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد لو أسهم المبتعثون بعد تخرجهم في تنويع القاعدة الانتاجية وخلق فرص عمل وطنية لهم ولغيرهم بدلًا من الاتجاه للتوظيف الحكومي، خصوصًا أنهم اكتسبوا تعليمًا عالي الجودة وشبكة علاقات من ثقافات متنوعة ومهارات حياتية يوفرها العيش في الغربة. 

يبرز السؤال هنا: هل تنمي الدراسة في الخارج روح الاستقلالية والتجربة والمغامرة لدى المبتعث لتدفعه باتجاه العمل في القطاع الخاص أو العمل الحر؟

المقارنة السطحية لاتجاهات العمل بين المبتعثين وغير المبتعثين باطلة، لأن المبتعث ربما يتصف أساسًا بروح الاستقلالية والمغامرة (لذلك اختار الدراسة بالخارج أصلًا) ولم يكن للابتعاث دور في تنميتها، كما أنه ليس عمليًا أو أخلاقيًا تشكيل مجموعتي مبتعثين وغير مبتعثين بالقرعة لإجراء تجربة ضبط عشوائي لتسوية الاختلافات الجوهرية بين المجموعتين، فكيف لنا أن نُقَدِّر أثر الابتعاث على المستقبل العملي للمبتعث خاليًا من التحيز الانتقائي؟

بسبب محدودية المقاعد وتنافس المتقدمين، تلجأ وزارة التعليم العالي إلى اعتماد حد فاصل لنسبة النجاح في المرحلة الثانوية (لنفترض أنه 90%)، والذي يتعين على المتقدم اجتيازه للحصول على البعثة.

الصورة: منشور

لنتخيل طالبين يتشابهان في كل شيء (بما فيه الرغبة في الابتعاث والإقدام عليها)، سوى أن أحدهما تخرج بنسبة 90.1% وقُبِلَ في البعثة والآخر نسبته 89.9% فحرم منها. وعلى افتراض أن فرق العُشرَيْن (0.2%) بينهما يرجع إلى ظروف عرَضية أثناء أداء اختبارات الثانوية وليس اختلافات جوهرية بينهما، فأصبح لدينا طالبان تصح المقارنة بينهما. لكن في الواقع هناك العديد من المتقدمين ممن تعلو نسبهم الـ90% بقليل، وآخرون تقل عنها بقليل، ويرجع هذا الاختلاف الطفيف في النسب إلى ظروف عرضية. وبناء على هذا الافتراض فإن حد الـ90% كما لو أنه قرعة تقسم المتقدمين إلى مجموعتي مبتعثين (معالجة) وغير مبتعثين (ضبط)، وإن كانت خصائصهم الظاهرة وغير الظاهرة متنوعة إلا أنها في المحصلة تتساوى في متوسطيها الحسابيين وتلغي بعضها البعض، وبهذا تكون المجموعتان متشابتهين في خصائصهما ما عدا الابتعاث، ما يتيح نسبة أي اختلاف في المستقبل العملي بين أفرادهما إلى أثر الابتعاث.

تُعرف هذه المنهجية بطريقة «الانحدار المنقطع» (Regression Discontinuity)، وتستغل وجود العديد من القواعد القانونية واللوائح التنظيمية التي توفر من غير قصد تجارب تشبه تلك التي توفرها الطبيعة تتيح قياس العلاقات السببية خالية من أي تحيز انتقائي. لكنها لا تخلو كغيرها من القصور، إذ تقتصر الاستنتاجات المستخلصة من المقارنة على عينة المتقدمين في جوار حد الـ90% مباشرة، ولا يصح إسقاطها على البعيدين عنه (من نسبتهم 80% مثلًا)، كما يتطلب توفر عدد كاف ممن هم بجوار الحد لتكون العينة ذات قوة إحصائية، علاوة على تعاون الجهات الحكومية في توفير البيانات المفصلة. 

استحقاق الكويت

الصورة: كونا

هذه المنهجيات الأربع تشكل أعمدة تقدير العلاقات السببية في العلوم الاجتماعية حاليًا، وتتفرع منها منهجيات أخرى مشتقة لتكييفها على سياقات معينة حسب موضوع البحث. ومع وفرة البيانات التي شهدها العقد الماضي والتطورات الكبيرة في الإمكانيات الحاسوبية، بالإضافة إلى دمج منهجيات قياسية من علوم أخرى، فإن العالم مقبل على حقبة نشطة بحثيًا متوقع أنها ستدفع العديد من الدول إلى إعادة النظر في الكثير من السياسات العامة والمسلمات النظرية والسياسية.

أمام الكويت فرصة للاصطفاف في خانة الدول التي تؤمن بأهمية الدليل العلمي في صنع السياسات العامة، وذلك يتطلب بالضرورة إيمان الحكومة بانفتاح البيانات وشفافية المعلومات والإجراءات التنفيذية، وتمكين الباحثين الأكاديميين من الحصول على البيانات، والتعاون معهم في تصميم تجارب سياساتية لاختبار فعالية السياسات العامة وتقييم كفاءتها.

إن كان هناك ثمة عذر يُلتمَس لمجلس الأمة الذي يتبع بطبيعة الحال اتجاهات الريح السياسية والشعبوية، فلا عذر للحكومة التي تمتلك البيانات والموارد والأجهزة القانونية والفنية اللازمة لتأسيس نهج جديد في صنع السياسات العامة، وهذا استحقاق أكثر منه خيار، فالاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الآخذة في التعمق والضائقة التي تمر بها المالية العامة والتحولات العالمية في الطلب على النفط تعني أن نهج الارتجال والتجريب والهدر المتبع منذ تأسيس الدولة غير مستدام، بل إن الاستمرار والتمادي في هذا النهج من شأنه إضعاف قدرة الدولة على مواجهة الكارثة الاقتصادية المقبلة في سوق العمل، وهذه جريمة لن تغفرها أجيال المستقبل التي ستكون في وجه المدفع.

مواضيع مشابهة