صباح الجمعة 26 أكتوبر 2018، في مدينة بلانتيشن التابعة لولاية فلوريدا التي تقع في جنوب شرق الولايات المتحدة، مستمتعًا بأشعة الشمس الدافئة، متوجهًا إلى محل قطع غيار سيارات، قاد المواطن الأمريكي «سيزار سايوك»، شاحنته الصغيرة التي تكاد تنعدم رؤية لونها الحقيقي من كثرة الملصقات عليها، بعضها داعمة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأخرى كثيرة كارهة لشخصيات عامة تُعارِض سياساته، تُصوِّر وجوههم مشطوبة بعلامة X حمراء. دعاية سياسية غريبة الأطوار لا تُخفي تعصبه.
بمجرد وصوله إلى وجهته، أُلقي القبض عليه ووُجهت إليه تهمة إرسال 13 طردًا مفخخًا، تحمل بين طياتها قنابل يدوية الصنع على شكل أنبوب، كان قد أرسلها بداية من يوم الاثنين من نفس الأسبوع إلى شخصيات بارزة تباعًا.
من بينهم الرئيسان السابقان بيل كلينتون وباراك أوباما، ووزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، ورجل الأعمال الملياردير المعروف بدعمه للسياسات الليبرالية «جورج سوروس»، والمدير السابق للاستخبارات الوطنية الأمريكية «جيمس كلابر»، والسيناتور الأمريكي من ولاية نيوجرسي التي تقع شمال شرق الولايات المتحدة والعضو البارز في الحزب الديموقراطي «كوري بوكر»، والسيناتور الأمريكية من ولاية كاليفورنيا وعضو الحزب الديمقراطي «كامالا هاريس»، ورجل الأعمال الملياردير المعروف بدعمه للحزب الديمقراطي «توم ستاير»، والممثل الأمريكي الشهير المعروف «روبرت دي نيرو».
لم تنجح القنابل في الوصول إلى أهدافها، فلم تُصِب أحدًا منهم. وإذا كان مسؤولون فيدراليون قد رفضوا مناقشة الدوافع المحتملة للعمل الإرهابي، فإنه بقليل من التأمل يبدو أن الأمر المشترك بين كل المُستَهدَفين هو الانتقادات اللاذعة الموجهة إلى ترامب على الملأ.
أدان ترامب العمل الإرهابي بعد الكشف عنه مباشرة، قبل أن يشكر قوات الأمن حين ألقت القبض على المتهم. وعد ترامب ببدء «تحقيق فيدرالي موسع» للبت في هوية الأفراد أو المجموعات التي تقف خلف الحادث، داعيًا إلى وحدة الصف الأمريكي ضد العنف السياسي، ولم ينس توجيه تحذيره المُعتاد إلى الإعلام الضليع في «فبركة» الهجمات والقصص المليئة بالحقد والسلبية اللتين لا تنتهيان.
الإعلام هو المتهم اللدود في مرمى الجمهوريين، ويتحمل المسؤولية وحيدًا لأنه يؤجج مشاعر البغض والكراهية والفرقة بين الشعب الأمريكي. في المقابل، يلقي الديمقراطيون المسؤولية على ترامب لأنه من صنع أولئك الذين يقفون على يمين الناصية السياسية الأمريكية. لكن لم يكن هذا ما أقلق ترامب.
انتخابات التجديد النصفي بين علامتي تنصيص
القلق الحقيقي الذي أزعج ترامب أن حادث «القنابل» أثر سلبًا على الزخم السياسي الذي حظي به حزبه (الجمهوري) قُبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي (ذي الأغلبية الجمهورية) الذي سيُعقد في السادس من نوفمبر 2018. بين علامتي تنصيص، كتب ترامب كلمة القنابل، ليُفتَح نقاش ما إذا كان المقصود اتهامه الحزب الديمقراطي بتقويض فرص الجمهوريين في الحصول على أغلبية الكونغرس في أثناء انتخابات التجديد النصفي.
تُعقد انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة الأمريكية للكونغرس الأمريكي بمجلسيه النواب والشيوخ في عام 2018، منتصف الفترة الأولى لرئاسة المرشح الجمهوري دونالد ترامب. يجري التصويت على 435 مقعدًا في مجلس النواب الذي يُنتخَب أعضاؤه كل سنتين، ويُجرى التنافس على ثلث أعضاء مجلس الشيوخ كل سنتين، أي بواقع 35 من أصل 100 مقعد، ليتم تجديده كاملًا خلال ست سنوات، ويتبارى 36 من أصل 50 حاكمًا للولايات المتحدة، إضافة إلى إعادة انتخاب عدد من رؤساء المحليات.
لم تنفجر الطرود المفخخة. لكن انتخابات التجديد النصفي كانت اشتعلت بتنافس الحزبين الديمقراطي والجمهوري المسيطرين على المشهد السياسي الأمريكي. معظم الشعب الأمريكي يرى الانتخابات الرئاسية العامة «خطوة حرجة»، وأنها ستغيِّر أو ستُثبِّت السياسات الأمريكية للأجيال القادمة.
في العادة، انتخابات التجديد النصفي للكونغرس التي يأتي موعدها منتصِفًا الفترة الرئاسية، تبدو «أقل أهمية»، فيأتي التصويت هزيلًا، بنسبة إقبال تبلغ الربع أو الثلث مقارنة بالانتخابات العامة.
لكن عكس ذلك، فانتخابات التجديد النصفي للكونغرس في أثناء قيادة ترامب الإدارة الأمريكية، مرشحة لتكون الأكثر إقبالًا منذ سيتينيات القرن العشرين، إذ اكتسبت أهمية كبرى لأن نتيجة تلك الانتخابات ستؤثر مباشرة في سياسات ترامب طوال العامين القادمين الباقيين في فترة رئاسته.
فإذا استمرت سيطرة أعضاء الحزب الجمهوري على الكونغرس، ستُمرَّر سياسات ترامب دون أدنى عائق، أما إذا استحوذ الحزب الديمقراطي على أغلبية المقاعد داخل الكونغرس، فذلك يعني تقييد سلطة ترامب، بمعنى أن سياساته لن تمر مرور الكرام. أغلبية ديمقراطية داخل الكونغرس تعني كذلك فتح ملفات ترامب القديمة والتحقيق في سياسات السنتين السابقتين.
السيناريوهات المتوقعة
في خضم تنافس الحزبين على السيطرة على الكونغرس، تتحول القضايا المُسيطِرة على الساحة السياسية الأمريكية إلى جبهات مثالية لجذب الداعمين. لم ينقسم الشعب الأمريكي بين حزبين فحسب، بل انقسم كذلك على القضايا الأساسية التي تواجه بلاده.
إذا وُضِعت استطلاعات الرأي بعين الاعتبار، تتصدر مسألة الرعاية الصحية مشهد الانتخابات النصفية للكونغرس. إذ صوَّت على أهميته القصوى ما يقرب من 71% من المواطنين المشاركين في استطلاع رأي أطلقته مؤسسة «هنري كايسر»، وهي مؤسسة بحثية مختصة في سياسات الرعاية الصحية. يتبع مسألة الرعاية الصحية في أهميتها بالترتيب: الاقتصاد بنسبة 64%، ثم السياسات المتعلقة بحمل السلاح بنسبة 60%، بعدها تأتي قضية الهجرة بنسبة 55%.
في ضوء تلك القضايا المطروحة، تشير استطلاعات رأي حديثة إلى احتمالية كبيرة في استعادة الحزب الديمقراطي أغلبية مقاعد مجلس النواب بالحصول على 24 مقعدًا، أي إن نسبة فرصة حصوله على الأغلبية 84.9%.
احتمالية استعادة الحزب الديمقراطي مجلس النواب لن تكون سابقة، لأن تاريخ الكونغرس الأمريكي أثبت ذلك مرارًا وتكرارًا. ففي أثناء إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، المرشح عن الحزب الديمقراطي، استحوذ الحزب الجمهوري على الأغلبية في مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس عام 2010، واستعاد الديمقراطيون سيطرتهم على مجلس النواب عام 2006، في انتخابات التجديد النصفي عام 2006، في أثناء إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن.
في المقابل، وعكس مجلس النواب، فمعركة الحصول على الأغلبية في مجلس الشيوخ قد تنقلب لصالح الحزب الجمهوري. إذ تشير استطلاعات رأي إلى أن الجمهوريين سيحتفظون بأغلبية مجلس الشيوخ بنسبة 82.6%، لأن الحزب الجمهوري يحتل من 49 إلى 51 مقعدًا في الوقت الحالي داخل مجلس الشيوخ.
كشف حساب الرئيس ترامب هو محور الانتخابات النصفية.
وإذا افترضنا أن نتيجة الانتخابات تماهت مع استطلاعات الرأي، بحيث حصل الحزب الديمقراطي على أغلبية المقاعد في مجلس النواب، سينتج عن ذلك أمرين أساسين:
- سيصبح كابوسًا يزعج الرئيس ترامب، ويؤرقه بإنهاء تشريعاته وبتحقيق أكثر دقة داخل أروقة الإدارة الأمريكية الحالية، قد يصل إلى عزل من على رأسها.
- سينجح الحزب الديمقراطي في تقديم رؤيته الخاصة بتشريع الرعاية الصحية القائم على خفض التكاليف وأسعار الأدوية، والبدء في الإنفاق على البنية التحتية، ومراجعة شاملة للقوانين الخاصة بأخلاقيات العمل التي تهدف إلى القضاء على الفساد.
لكن هذا النجاح الديموقراطي، سيعطله، حسب نفس الاستطلاعات، استمرار سيطرة الحزب الجمهوري على مجلس الشيوخ، وهو ما يعني:
- بإمكان الحزب الجمهوري إعاقة تحركات الأغلبية الديموقراطية في مجلس النواب. إذ إن مجلس الشيوخ لديه اليد العليا دستوريًّا بتحجيم تلك التحركات.
- ما زال ترامب يمتلك حق استخدام الفيتو، إذا كانت التشريعات الدستورية التي يمررها الحزب الديمقراطي لا تروقه، وذلك حال حصوله على أغلبية مجلس النواب.
بتلك السيناريوهات المحتملة تُعقد الآمال، لكن يبدو كأن كشف حساب الرئيس ترامب هو محور الانتخابات النصفية. فالطريق إلى تصفية الحساب تبدو كأنها ملغومة، بداية من حق مجلس الشيوخ بعدم إقرار مشروع القانون الذي ستقترحه الأغلبية الديمقراطية المُحتملة في مجلس النواب، إضافة إلى إمكانية الرئيس ترامب تعطيله، حتى إذا أخذ موافقة مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية.
ربما لا تتحقق كل تلك التوقعات، ويتحقق سيناريو آخر لا يخطر ببال من شاركوا في استطلاعات الرأي. وربما يستولي الحزب الجمهوري على أغلبية الكونغرس بمجلسيه لتولد فرصة أكبر دون عوائق لتشريعات ترامب، وتقوى قدرته في إنهاء عمل فريق التحقيقات برئاسه «روبرت موللر»، في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية 2016، والقضايا الأخرى المرتبطة بها، وثقة بالنفس أعلى للترشح لرئاسة الإدارة الأمريكية لفترة ثانية حتى يوطد أركان حكمه.