في بداية ديسمبر 2018، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عقب عشاء ضمه مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، عن حالة هدنة في الصراع التجاري.
توصل الفريقان إلى الهدنة عن طريق تأجيل تنفيذ رفع الرسوم الجمركية الإضافية على الواردات الصينية في أمريكا، مقابل رفع نسبة الواردات الأمريكية في الأسواق الصينية، خصوصًا في مجال الزراعة، على أن تستمر الهدنة 90 يومًا، وهو ما أشارت إليه الإدارة الأمريكية، بينما لم تُلمِّح له الحكومة الصينية في بيانها عقب اللقاء.
أمريكا والصين: معركة محتدمة
الاحتفاء العالمي بالهدنة التجارية بين أمريكا والصين مؤشر على خطورة الموقف، وليس انتهائه.
بدأت المعركة بين البلدين في يونيو 2018، حين أعلن ترامب زيادة الرسوم الجمركية على واردات الحديد والألومنيوم، ولم يستثنِ من ذلك حلفاءه الاقتصاديين، ما سبَّب استياءً عامًّا لدى جميع الأطراف، ودفع بعضهم إلى اتخاذ إجراءات تصعيدية، مثل المكسيك التي رفعت الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية بدورها.
ورغم أن الصين لم تكن من الدول الأولى في قائمة مصدري الحديد والألومنيوم، فقد كانت أول المقصودين بالأمر. وعندما أُعلِن الأمر، عرضت الحكومة الصينية زيادة مشترياتها الأمريكية بمقدار 70 مليار دولار بدلًا من فرض رسوم جمركية.
وصلت التصعيدات إلى الذروة حين أعلن ترامب في أغسطس 2018 رسومًا جمركية إضافية على الواردات الصينية من 10% إلى 25%، أي ما يعادل 200 مليار دولار إضافية، يجري تنفيذها بعد أسبوع واحد من الإقرار، ما جعل الحكومة الصينية تقرر رفع رسوم ضرائب الصادرات من جهتها.
هكذا ارتبك المشهد. إذ تمثل واردات كل بلد قدرًا لا يستهان به في اقتصاد الأخرى. وكان من المتوقع ألا تستمر الأمور على تلك الحدة، وأن يتوصلا إلى اتفاق، خصوصًا مع مؤتمر قمة العشرين في الأرجنتين، ما انتهى إلى حالة الهدنة.
مستقبل ضبابي
لا يرقى ما حدث بين الطرفين إلى ما يمكن تسميته اتفاقًا مبدئيًّا، إذ إنه حين وعدت الصين برفع نسبة المشتريات الأمريكية، فهذه النسبة لم تُحدَّد أو يوضَع لها أي مؤشر، وأيضًا يقف التوقيت الذي أعلنته أمريكا وتجاهلته الصين عثرة زمنية أمام المفاوضات.
لن تستسيغ الصين ولا أمريكا أيَّ ادعاء من الأخرى، خصوصًا أن الصين لها ماضٍ في خرق الاتفاقات مع أمريكا.
من المقرر أن تتناول المفاوضات موضوعات شائكة مثل فرض قيود على انتهاك الخصوصية، وإعادة هيكلة الملكية الفكرية، والاختراقات التكنولوجية، والسرقة الإلكترونية، ما يراه بعضهم أهم الموضوعات على طاولة المفاوضات، بينما يستنتج آخرون أن التصعيد كان منذ البداية لأجل الضغط على الصين بشأن احترام التكنولوجيا، ومن المحتمل بدرجة كبيرة ألا يصل الطرفان إلى حل لتلك المسائل، خصوصًا أن مقدار الثقة بينهما قليل.
أمر آخر ربما يسهم في خلق حالة ضبابية على العلاقات الأمريكية الصينية: صعوبة فرض الاتفاق من إحدى القوتين العظميين على الأخرى. فاللجوء إلى منظمة التجارة العالمية يستلزم وقتًا طويلًا لحل النزاعات، وربما يكون من الصعب إدارة الأمر بشكل نموذجي بين البلدين دون وجود طرف آخر.
إضافة إلى ذلك، لن يستسيغ أيٌّ منهما أيَّ ادعاء من الآخر، وبخاصة أن الصين لها ماضٍ في خرق الاتفاقات مع أمريكا، مثل الاتفاق المبرم بخصوص القرصنة ومنع الهجمات الصينية عام 2015، الذي خرقته الصين بعد نحو شهر لا غير. لهذا، قد تحاول أمريكا أن تحصل على ضمان أكبر من التلويح برفع الرسوم الجمركية.
اقتصاد عالمي في أزمة
لا تمثل الصين الطرف الوحيد في المعركة التجارية الأمريكية، فحزمة القرارات الاقتصادية التي اتخذها ترامب لزيادة الدخل وزيادة فرص الاكتفاء، والتي كان من ضمنها رفع الرسوم الجمركية على واردات الحديد والألومنيوم، أصابت عددًا من الحلفاء، منهم كندا وفرنسا والمكسيك.
كل هذا إلى جانب الضرائب الإضافية على واردات خصومه، واعتزام ترامب الانسحاب من تحالف المحيط الهادي الذي يضمن رفع الحدود التجارية بين الدول، وتسهيل الضرائب الجمركية، ما يعين رواجًا للشركات الدولية، وكذلك تهديده بالانسحاب من اتفاقية «نافتا» بين أمريكا وكندا والمكسيك، التي تسعى إلى إقامة منطقة حرة بين البلاد، لتسهيل التنقلات التجارية وحركة الصادرات والواردات.
يسعى ترامب إلى الضغط على الكونغرس لتمرير تعديلات على اتفاقية المحيط الهادي، بينما يشجع الانسحاب من «نافتا»، وفرض ضرائب كبيرة نسبيًّا على السيارات الأوروبية.
تعزز الصين وجودها الاقتصادي عن طريق القروض الإفريقية، بينما يبدو أن دور أمريكا في العلاقات الخارجية يخفت بعض الشيء.
لا يمكن تجاهل تأثير القرارات التي يتخذها ترامب في مستقبل الاقتصاد العالمي، كالضغط على الحلفاء، وكسر التعاقدات التي تضمن رواج التجارة العالمية، وإذابة الحدود بين الدول، وتجاهل اتفاق المحيط الهادي. ومع الحرب التجارية الشرسة مع الصين، وإن كانت في حالة هدنة، فليس من الصعب القول إن نتائجها قد تشكل مصير العلاقات الدولية، وتحدد شبكة مصالح اقتصادية جديدة.
في الوقت الذي تسعى فيه الإدارة الأمريكية إلى مكاسب اقتصادية أكبر، على حساب شبكتها الاستراتيجية وعلاقاتها بحلفائها، في سبيل زيادة ناتج دخلها القومي وفقًا لخطة ترامب، قد تسعى الصين إلى اكتساب موقف استراتيجي مع عدة دول، وتعزيز وجودها الاقتصادي.
بدأت بكين في ذلك عبر نظام القروض الذي قدمته إلى بلدان إفريقية مختلفة. وبينما تظهر الصين بمظهر الحليف الاستراتيجي الأكبر، يبدو أن دور أمريكا في العلاقات الدولية يخفت بعض الشيء.
هناك مخاوف عند كثير من الاقتصاديين من أن فشل الاتفاق سيساعد في إظهار الصين بالمظهر القوي، ويسمح بنشر نموذجها الاقتصادي الواعد. فمؤشر التنمية في الصين يبدو مذهلًا، وإن كانت تعتمد على نظام الحزب الواحد، ولا تحترم الخصوصية والملكية الفكرية. ربما يداعب نجاحها الكبير اقتصادات أصغر، خصوصًا أن الإدارة الأمريكية تَظهر حاليًّا بمظهر من يتخلى عن حلفائه.
لا يمكن الجزم بما ستؤول إليه الأمور في حالة الهدنة التي تخوضها الصين وأمريكا، لكن المؤكد أن شبكة العلاقات الدولية تشهد تحولًا جوهريًّا، ربما نرى الآن بدايته فقط، ومع تداخل الاقتصادي بالسياسي ربما يؤدي ذلك إلى نوع من التغيرات في المصالح الاستراتيجية.
لكن بالتأكيد لن يبقى الوضع كما هو عليه قبل الأزمة، على الأقل في حالة الصين وأمريكا، فالحرب التجارية ربما حولت العلاقات الاقتصادية بدرجة لا يمكن استعادتها.