في عامها السادس عشر: لماذا يختار المحتجون ساحة الإرادة؟

الصورة: Getty - التصميم: منشور

عبدالله الخنيني
نشر في 2021/07/14

من منا لم يسمع عن ساحة الإرادة؟ الساحة المقابلة لمجلس الأمة والمطلة على البحر، والتي أصبحت من مسلَّمات السياسة في الكويت. إذا أردت أن تعبر عن رأيك في شأن ما سياسيًا كان أم اجتماعيًا، قيل لك: «روح ساحة الإرادة».

شاهدنا مؤخرًا اعتصامات وزيارات لساحة الإرادة بشكل شبه أسبوعي، مثل من كانوا ضد التطعيم الإجباري وأخذوا من الساحة مكانًا للتعبير عن رفضهم للقاح كورونا. وتكررت الاعتصامات مؤخرًا استنكارًا للعنف ضد النساء، وأيضًا دعمًا لفلسطين وضد ما يحدث في حي الشيخ جراح. ولا تكاد تكون هناك قضية في الكويت خلال السنوات الأخيرة إلا وكانت ساحة الإرادة مسرحًا مهمًا لتطوراتها.

ولكن لماذا ساحة الإرادة؟ وكيف تشكلت في وعينا المجتمعي كساحة للتعبير عن الرأي؟ وكيف تحولت هذه المساحة التي خصصت لتجمع المتنزهين بجانب البحر إلى أهم ساحة تعبير في الكويت؟

تاريخ الإرادة

الصورة: Getty

تقع ساحة الإرادة في الأرض المقابلة لمبنى مجلس الأمة، تحدها من الغرب قرية يوم البحار التراثية، وشمالًا بحر الخليج، ويمر بجانبها شارع الخليج العربي. تقدر مساحة الساحة بتسعة آلاف متر مربع تقريبًا بحسب خرائط غوغل، ولا توجد أرقام رسمية تقدر أعداد المتظاهرين التي تستطيع الساحة تحملها، ولكنها تتراوح وفقًا لوسائل الإعلام بين مئات الأشخاص إلى الآلاف، حسبما قُدر في اعتصام «بس مصخت» عام 2019 من أحد الصحف المحلية. 

بدايات استخدام هذه الساحة كانت من القوائم الطلابية في جامعة الكويت خلال عامي 2003 و2004، وتحديدًا عن قضية الأسرى الكويتيين منذ الغزو العراقي. هذا ما يذكره الناشط محمد العريمان أحد منسقي قائمة «المستقلة» سابقًا في جامعة الكويت لـ«منشور»، مضيفًا: «كانت الساحة بلا اسم محدد». 

بعدها بسنوات، وخلال حملة «حق المرأة الآن» في عام 2005، يذكر الناشط السياسي خالد الفضالة أنها كانت تدعى وقتها «الساحة المقابلة لمجلس الأمة» ، حيث اعتصم العديد من الأفراد للضغط على نواب المجلس والحكومة لإقرار حق المرأة السياسي. ثم بعد أشهر في عام 2006 انطلقت حملة «نبيها خمس»، التي انتهت بتغيير النظام الانتخابي عن طريق المجلس إلى أربعة أصوات وخمس دوائر بدلًا من النظام السابق، والتي لعبت ساحة الإرادة دورًا رئيسيًا فيها. 

جاء اسم «الإرادة» ليكون الاسم الشعبي المتداول لهذه المساحة، فبعد عدة تجمعات في الساحة المقابلة لمجلس الأمة للمطالبة بالدوائر الخمس، والتي كان أبرزها «ليلة الإرادة»، رأى منظموا حملة «نبيها خمس» أن يطلقوا عليها اسم «ساحة الإرادة» لسرعة الاستدلال. ويكشف جاسم القامس، أحد منظمي الحملة، في حديث لـ«منشور» أن تسمية الساحة كانت باقتراح من خالد الروضان أحد أعضاء الحملة، والذي أصبح وزيرًا للتجارة بعد ذلك بسنوات. ومنذ ذلك اليوم انتشر الاسم بين الناس، لدرجة أنه بات يستخدم حتى من قبل الجهات الحكومية الرسمية في وقت لاحق. 

استُخدمت الساحة من قبل منظمات المجتمع المدني، فكانت مكانًا للاحتفال بيوم الدستور السنوي لمجموعة «صوت الكويت» خلال عامي 2008 و2009 بالتعاون مع عدة جمعيات نفع عام، إحياء لذكرى توقيع الدستور الكويتي يوم 11 نوفمبر. كانت إحدى أهم الفعاليات خلال الاحتفال هي إعادة تعزيز مكانة ساحة الإرادة من خلال مشروع «رحلة الدستور»، الذي استعرض مكاسب الحملات السابقة في الساحة من «حق المرأة الآن» و«نبيها خمس».

تعزز دور ساحة الإرادة أثناء الحراك الشعبي في حملة «ارحل»، المعارضة لرئيس مجلس الوزراء السابق الشيخ ناصر المحمد في عام 2011. انطلق الحراك من عدة ساحات حيث كان أول تجمع لهم في ساحة الإرادة، ثم تلاه ثاني تجمع في ساحة الصفاة، والتي لها رمزية تاريخية في الكويت، إذ يذكر الباحث والناشط منذر حبيب لـ«منشور» أن «رمزية ساحة الصفاة كبيرة، خصوصًا أنها الساحة التي أُعدم فيها محمد المنيس ومحمد القطامي، فرمزيتها تعطي بعدًا سياسيًا كبيرًا»، لكون الصفاة شهدت صراعًا سياسيًا، وهي مركز المدينة والمكان الذي كان الناس يُبلغون فيه بالقرارات في السابق، وأيضًا المكان الذي تحصل فيه العقوبات والإعدامات.

وبسبب إغلاق الداخلية والبلدية لساحة سوق الصفاة بعد تجمع حملة رحل، وتسوير الساحة بحجة صيانتها، استُكمل الحراك مجددًا من ساحة الإرادة، ليؤكد أهمية هذه الساحة في التعبير عن الرأي والمطالبة برحيل رئيس الحكومة آنذاك. 

توالت الأحداث والاعتصامات الكثيرة على ساحة الإرادة، منها جزء من حراك «كرامة وطن»، واعتصامات البدون، واعتصامات ضد الفساد، وحتى طلبة الفصل الثاني عشر الذين اعتصموا ضد الاختبارات الورقية مؤخرًا، بسبب ظروف جائحة كورونا. باتت ساحة الإرادة تعبر عن رمزية ثقافة الاعتصام، فنجد حسابات سميت باسمها على وسائل التواصل الاجتماعي في محاولة للتعبير عن كيانها الافتراضي، بالإضافة إلى المشاركات على وسم «#ساحة_الإرادة» التي عكست رمزية الساحة. 

«شمعنى» ساحة الإرادة؟

الصورة: Getty

بالنظر إلى المرسوم المنظم للتجمعات في الكويت الصادر عام 1979 وقت الحل غير الدستوري الأول لمجلس الأمة، والذي ألغيت بعض مواده من قبل المحكمة الدستورية في عام 2006، نجد أن الشكل الحالي للتجمعات في الكويت ينص على إخطار السلطة الإدارية، التي عادة ما يشار إلى أنها عبارة عن إخطار المحافظ عن مكان التجمع ووقته.

سبَّب حكم المحكمة الدستورية بعض اللغط حول مدى دستورية الإخطار والانتظار لحين الموافقة، أو أن مجرد الإخطار سيكون كافيًا لعقد الاعتصامات أو التجمعات. إذ أن المواد الملغاة من المرسوم مرتبطة بباقي مواد القانون، والتي يرى بعض القانونيين أنها ألغيت أيضًا بسبب الترابط بينها وبين المواد الأساسية الملغاة، وبالتالي فالانتقائية في التطبيق من قبل وزارة الداخلية واردة جدًا في هذه الحالات. 

هذا ما يذكره منذر حبيب: «في بعض الأحيان يُسمح لك بالذهاب إلى الساحة، وفي أحيان أخرى "لا انتو مو مطلعين تصريح"»، فهذا التذبذب في التعامل مع التظاهر أو الاعتصام في ساحة الإرادة يختلف باختلاف الموضوع: «عند تظاهر البدون أغلقوا الساحة بسياج وصاروا يدخلون الناس بالهوية، ومن يتظاهر من البدون يسجل عليه قيد أمني». 

ليست ساحة الإرادة كيان قانوني لتكون وجهة الاعتصامات في الكويت، بل إن هذه السمعة تكونت مع مرور الوقت وإحياء الاعتصامات بشكل متكرر فيها. وقد تكونت هذه الصورة الذهنية في ذاكرة الأفراد والحكومة لتكون المكان المخصص للاعتصامات، لدرجة أن وزارة الداخلية ذكرتها في بيان رسمي في نوفمبر 2011، حين أوردت أن «حق التعبير عن الرأي مكفول لجميع الكويتيين في الساحة المقابلة لمجلس الأمة»، فكان هذا اعترافًا رسميًا وضمنيًا بساحة الإرادة كمكان للتعبير عن الرأي، رغم أنه من المستغرب قصر هذا على تلك الساحة فقط.

أصبحت «ساحة الإرادة» المكان المثالي لقربها من مجلس الأمة، ولأنها على نفس الساحل البحري المتصل بقصر السيف والذي تبعد عنه مسافة كيلومتر واحد، وكذلك قصر العدل على بعد 800 متر من الساحة، وهذا ما يؤكده الناشط خالد الفضالة في حديثه لـ«منشور»، فيذكر أنه «كما جرت العادة في العديد من الدول، فإن موقع الاحتجاج والتعبير عن الرأي يكون في الساحات المقابلة أو القريبة من مراكز صنع القرار (السلطات الثلاث)، وهذا هو تحديدًا موقع ساحة الإرادة في الكويت».

أتت ساحة الإرادة لتمثل الجانب الشعبي في المشهد السياسي. وإضافة إلى ذلك، نلاحظ وجود نواب مجلس الأمة في ساحة الإرادة بشكل متكرر، من حراك «نبيها خمس» في عام 2006، مرورًا بحملة «ارحل» في عام 2011، وحتى اعتصام وقف العنف ضد النساء خلال إبريل 2021، وغيرها. 

علاقتنا بساحة الإرادة

 

لكن ربما ما صنع لساحة الإرادة مكانة كبيرة في نفوس شباب الحراك السياسي في الكويت هو ارتباطها بالعديد من ذكرياتهم الجميلة والأليمة، إذ شهدت الساحة حملات ناجحة وحقوقًا استُردت، مثل حق المرأة السياسي وتعديل قانون الانتخاب واستقالة رئيس الوزراء السابق. وخلال عام 2012، كانت الساحة تستخدم كمكان عام لنقاش بعض المواضيع خلال الأسبوع تحت اسم «حوارات التغيير»، والتي كان الحاضرون فيها يتناولون بالحديث مواضيع سياسية حول مستقبل البلاد، مثل النظام الانتخابي ودور السلطات الثلاث وغيرها، خصوصًا في الفترة التي سبقت مرسوم الصوت الواحد. 

أما اليوم، فيستذكر حبيب علاقته مع الساحة قائلًا إنها «علاقة سياسية منذ بداية نبيها خمس، والآن حين أمشي بجانب الساحة أتذكر أني كنت جزءًا من الحركة الاحتجاجية والأجواء الإيجابية آنذاك، لكن في نفس الوقت أتذكر مواقف ضربنا من الداخلية، هذه الذكريات ليست سهلة».

خلال السنوات اللاحقة شهدت ساحة الإرادة ليالي استخدمت فيها السلطة قواتها لقمع المتظاهرين، من اعتداءات بالضرب والسحل وإلقاء القبض على بعضهم. يذكر العريمان أن علاقته بساحة الإرادة «متناقضة بين الحب والكره، وإن كان يغلب عليها الحب، فأنا أحبها وأيضًا كرهتها»، مشيرًا إلى أنها «تمثل حقبة تاريخية للكويت ولنا كشباب خاصةً، لكن في نفس الوقت تنتابني علاقة كره بسبب ما تعرضنا له خلال فترة الحراك بعد إبطال مجلس الأغلبية 2012»، من قمع واستخدام العنف من قبل رجال الداخلية وقوات الأمن الخاصة خلال فترة الاعتصامات والتظاهر في الساحة.

من حيث المكان، تبدو ساحة الإرادة قابلة للسيطرة عليها من قبل أفراد الداخلية بشكل أسهل من أي ساحة أخرى في المدينة. وهي أيضًا ليست كساحة الصفاة محاطة بأبراج تتيح التصوير من الأعلى ومتابعة الحدث من قبل وسائل الإعلام العالمية، كما هو الأمر في ميدان التحرير في مصر. بالإضافة إلى ذلك، يحدها البحر من جهة وشارع الخليج من الجهة المقابلة، ومن الجهة الغربية توجد قرية يوم البحار. أما بالنسبة للمداخل فلها مدخل واحد للسيارات، وبالتالي فهي نظريًا يسهل السيطرة عليها ومتابعتها. 

هذا ما يوضحه العريمان بناء على تجربته في الاعتصام بين ساحتي الصفاة والإرادة، مشيرًا إلى أن «ساحة الصفاة قلب البلد التجاري ويصعب السيطرة عليها، فهي مكان مناسب للمتظاهرين، لكنها صداع للداخلية. ومع التجارب، وجدت أن ساحة الإرادة هي أسوأ مكان للتظاهر، بسبب سهولة السيطرة عليها من قبل الداخلية». 

وبالحديث عن السيطرة، أخذ موضوع تركيب كاميرات تابعة لوزارة الداخلية لمراقبة ساحة الإرادة في عام 2009 حيزًا من الحديث في الصحف، وكذلك في مجلس الأمة، إذ استُجوب وزير الداخلية آنذاك الشيخ جابر الخالد من قبل النائب مسلم البراك، وكان أحد محاور الاستجواب كاميرات ساحة الإرادة، وعدم دستورية مراقبة الاجتماعات العامة.

واليوم، يشير بعض رواد الساحة إلى وجود كاميرات مراقبة متنقلة تُنصب وقت الإعلان عن اعتصامات، مما يعيد نقاش كاميرات الإرادة ومتابعة الحاضرين للساحة.

الوضع اليوم

في السابق، وخلال حراك عامي 2006 و2011، كانت ساحة الإرادة تتسم بوجود تنسيق وترتيب مسبق للحدث أو الندوة آنذاك. أما اليوم فتبدو أقرب إلى «ركن المتحدثين» أو ركن الخطباء في لندن. هذا ما يخبرنا به الفضالة، مضيفًا أن «ساحة الإرادة ليست ملك مجموعة من الناس، بل أصبحت مثل ركن الخطباء (Speakers' Corner)، وأول مكان عام للتعبير عن الرأي في الكويت»، إذ نجد أعدادًا كبيرة تذهب إلى الساحة دون تنظيم أو ترتيب، ويتكلم أحدهم بصوت عالٍ مع مجموعة حوله وبعض القنوات والصحف وصفحات التواصل الاجتماعي، التي تسجل الحديث لنشرة مباشرة عبر منصاتها. 

لا يخفى على أي متتبع زيادة الاعتصامات في ساحة الإرادة في السنوات الأخيرة، لتكون بمثابة «ترمومتر» السخط والاستياء الشعبي. يستشهد الفضالة بالاعتصامات الأخيرة التي حدثت: الأول تضامنًا مع جمال الساير، وفي نفس الوقت كان هناك تجمع آخر ضد اللقاح يحدث في ساحة الإرادة.

ومؤخرًا، وجدنا وزارة الداخلية تضع مكيفات متنقلة في الساحة لدعم روادها وقوات الأمن خلال فترات الصيف لكثرة الاعتصامات، وأيضًا لوحظ وجود وزير الداخلية أثناء أحد الاعتصامات غير الحاصلة على إذن، يحاجج رواد الساحة بتركها وفض الاعتصام. هذا التواصل مع معتصمي الساحة بالذات دونًا عن الاعتصامات في أماكن مختلفة، مثل من يعتصمون أمام بعض الوزارات، قد يدل على مكانة الإرادة لدى الجهات الحكومية، ففرضت الساحة نفسها على السلطة كمكان مخصص للتعبير بحرية.

التحول الجديد في ساحة الإرادة أوصل العديد من المتحدثين للانتشار بسرعة كبيرة على شاشات هواتفنا، وصار الكل قادرًا على الحديث والمشاركة ونقل الآراء في الساحات وعبر الفضاء الإلكتروني. هذه السرعة في التواصل ونقل الأخبار تسببت في إبعاد الشاب الأردني عبد الله بسبب مشاركته في اعتصام غير المطعمين. ونشرت الصحف خبر قرار إبعاد أي غير كويتي يشارك في ساحة الإرادة، لتضيف هذه الحادثة إلى رصيد القيود المفروضة على غير الكويتيين، ولتصبح ساحة الإرادة مكانًا مخصصًا للكويتيين فقط. 

عند زيارتك لساحة الإرادة خلال الأوقات العادية، لن يبدو لك أن هناك ما يميزها للوهلة الأولى، ولكن ما أن تزورها خلال أحد الاعتصامات سترى تحولًا من مكان لا هوية له إلى هوية مكانية سياسية واجتماعية، فالمتظاهرون يهتفون، ويحملون اللوحات المعبرة عن موضوع اعتصامهم. هذا ما يؤكده العريمان قائلًا: «لو كانت لديك قضية، نتفق معها أو لا نتفق، روح ساحة الإرادة خل الناس تعبر، كل الشعوب الحية لديها ميادين تتكلم فيها». وفي عامها السادس عشر منذ تسميتها بساحة الإرادة، تبدو الاعتصامات مشهدًا متكررًا، مما يؤكد مجددًا أهمية الساحة في التعبير عن الرأي.

مواضيع مشابهة