ترجّل يوم السبت الماضي أحد أعمدة الدولة الدستورية في الكويت الدكتور أحمد محمد الخطيب، والذي أصر حتى آخر أيام عمره على خدمة بلده بأي طريقة كانت، وهذا العطاء ما هو إلا استمرار لحياة كاملة من خدمة الكويت وأهلها.
كان للدكتور الخطيب دور فاعل ومحوري في تطور الحراك السياسي العربي وتقدمه، فكان من مؤسسي حركة القوميين العرب، ورسخ دعم القضايا العربية بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص في الوجدان الكويتي. أما على المستوى المحلي، فأعتقد جازمًا بأنه لم يتردد لحظة في تقديم كل ما يملك لهذا الوطن.
من يقف مع الشعب يقف معه
كانت الحرية بالنسبة للخطيب قيمة لا يمكن القبول بغيابها، وسعى جاهدًا لضمانها نصًا في الدستور الكويتي. حتى قبل انتخاب المجلس التأسيسي، رأى حلفاؤه وإخوانه في التيار الوطني أن دوره لا يمكن التخلي عنه تحت أي ظرف.
ففي عام 1958، عندما وافقت السلطة على إنشاء مجلس عام منتخب، ربط بعض الأطراف فيها استمرار التجربة الانتخابية بمنع الدكتور أحمد الخطيب وبعض السياسيين الآخرين من خوض تلك الانتخابات. وردًا على ذلك، تضامن الناخبين ضد القرار وصوتوا للخطيب، مما أدى إلى ولادة ميتة للمجلس، فقد كان ولا يزال رمزًا لفكرة، وليس مجرد شخص يدافع عنها.
كانت تلك الوقفة التضامنية رسالة واضحة من الشعب بأن من يقف مع الشعب سيجد الشعب دائمًا واقفًا بجانبه. وحقًا، وجد الخطيب الدعم الشعبي الملهم في كل انتخابات نزيهة خاضها بعد الاستقلال. أول هذه الانتخابات، وربما أهمها، أسفرت عن انتخابه نائبًا لرئيس المجلس التأسيسي.
الصراع ضد تشويه روح الديمقراطية
كان المجلس التأسيسي الموقع المناسب الذي استطاع من خلاله أحمد الخطيب أن يرسم ملامح الحياة السياسية في الكويت، ولا تزال هذه الملامح موجودة إلى يومنا هذا. فقد انتبه منذ اليوم الأول لتشكيل نواة مجلس الأمة إلى أن هناك عناصر، ما زالت موجودة، تريد قتل الدستور قبل كتابته.
قبل بدء الجلسة الافتتاحية (العلنية) للمجلس التأسيسي، تقدم أحمد الخطيب منفردًا بطلب عقد جميع جلسات المجلس بشكل علني، وأن يكون للمجلس وحده طلب وإقرار عقد الجلسة بشكل سري. اعترضت الحكومة بشدة، وفضلت أن تكون الجلسات «بالأصل» سرية، ولا تُفتح للعلن إلا استثناءً. استدعى ذلك تصويت المجلس على القرار، فوافق الأعضاء على «مبدأ أحمد الخطيب»، الذي ترسخ دستوريًا في المادة 94. وفي تلك الجلسة انتُخبت لجنة صياغة الدستور، التي بدأت أهم مرحلة في تاريخ الكويت.
لم يتردد الخطيب في تبيان مواقفه المناصرة للمشاركة الشعبية، فبفضل هذه المواقف الصلبة اكتسب المجلس صلاحيات رقابية واسعة النطاق. لم يكن وحده، بل وقف وقفة الصف الواحد مع زملائه، الذين وصلوا لأبعد حد قبل التنازل من أجل مكاسب حقيقية ما زلنا ننعم بها.
ورغم عدم تمتعه بعضوية لجنة صياغة الدستور، أثر الدكتور أحمد الخطيب بشكل كبير على قرارات الأعضاء المقربين منه فيها، واختتم جهوده بمرافعات تاريخية في المجلس التأسيسي عندما أحالت اللجنة مشروع الدستور إليه. واجه الخطيب اعتراضات الحكومة بشدة، وحارب إلى آخر لحظة لضمان أهم حقوق المجلس الرقابية.
كان الخطيب واعيًا لرأي الحكومة تجاه إنشاء مجلس منتخب، فكانت إحدى أهم النقاشات التي دارت في لجنة صياغة الدستور تتعلق بتشكيلة المجلس. رأى بأنه لا بد أن يكون مجلس الأمة منتخبًا بشكل كامل، لأن التعيين سيؤدي إلى «تشويه روح الديمقراطية» على حد تعبيره في أحد مرافعاته الشهيرة في المجلس التأسيسي.
شاركه الرأي أعضاء اللجنة يعقوب الحميضي وحمود الخالد، ورئيس المجلس عبد اللطيف الغانم، وعندما اشتد موقف الحكومة في مسألة تعيين أعضاء غير منتخبين في المجلس، لم يستسلم الخطيب وزملاؤه أمام هذا التعنت، بل نقلوا تركيزهم إلى تحجيم محاولات الحكومة في تفريغ الدور الشعبي بمجلس الأمة.
تبلور هذا الموقف في تحديد سقف الأعضاء المعينين بـ16 عضوًا، أي ثلث عدد الأعضاء المنتخبين، بعدما كانت الحكومة تطالب بفتح عدد الأعضاء المعينين وعدم تقييده.
حقق أحمد الخطيب وزملاؤه أيضًا مكسبًا تاريخيًا بإقصاء الوزراء المعينين من التصويت على طلبات حجب الثقة. يمثل هذا المكسب أحد ثمار المواقف الصلبة التي تبناها الخطيب، إذ كان المطلب الأساسي منع الوزراء المعينين كليًا من التصويت على قرارات المجلس. كما استطاع أن ينتزع تنازلات إضافية من الحكومة، منها إعطاء النائب منفردًا حق الاستجواب دون ربطه بعدد معين من الأعضاء. وإضافةً إلى ذلك، جعل الخطيب أحد أهدافه أن تكون الأغلبية المطلوبة لحجب الثقة عن الوزير، أو الحكومة كاملة، أغلبية عادية وليس كما جاء في مسودة الدستور بأغلبية الثلثين.
الأمل في الشباب
لم يتوقف الخطيب عن خدمة وطنه، بل استمر في توجيه الشباب الذين ورثوا التيار الوطني منه ومن زملائه. كان لديه أمل عميق في جيل الشباب، ولم يتوقف يومًا عن الحديث عن قدراتهم في تحقيق التغيير الملموس. كان من أبناء جيل عاش سنوات دون حريات سياسية، فناضلوا من أجل الحقوق التي ننعم بها الآن.
لكن علينا التيقن من أن الدكتور أحمد الخطيب لم يكتف بمكاسب هذا الدستور فحسب، بل رآها كنقطة انطلاق نحو إصلاح أوسع وأشمل. وقد أجزم بأنه لم ينوِ يومًا أن يختطف هذا الدور من الأجيال الشابة، فهو الذي أدى الدور الأصعب وهو «نشأة الدستور»، ولكن ترك لنا اليوم «تطويره».