في صيف 2017، شق البلمُ صدرَ دجلة، كان يحمل نحو 10 أشخاص، متجهين من شارع المتنبي، عابرين إلى الكرخ لتناول الغداء، وكان نصف حمولة البلم تقريبًا من الكويت، مع شخص من «الفوارز»، وهي تسمية شخصية محببة أطلقتها على أشخاص لم يحسموا أمرهم، إن كانوا كويتيين أم عراقيين، ولم يحسم العراق ولا الكويت أيضًا هذا الأمر، ولعل كبير قوم «الفوارز»، الذين يمتازون بقلوب تسع البلدين، هو أستاذنا الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، طاب ثراه.
قبل هذا اليوم بنحو 15 عامًا، كان من المستحيل رؤية كويتي في بغداد، من الجانب الصدَّامي والكويتي في الوقت ذاته، بعد أن قرر ودبابته المنهكة العائدة من حرب الـ8 سنوات، في وقت سابق، احتلال الكويت و«عودة الفرع إلى الأصل»، على حد تعبير أدبياته.
كنت أنظر، بينما يصفق الجالسون بطريقة الخشابة البصرية، إلى الوجوه المطمئنة لأصدقائي وصديقاتي، وهم من خيرة ساردي وشعراء الكويت، ومن الجيل الذي فتح عينيه ودخان الغزو منقشع، ووجد نفسه أمام طريقين: الركون إلى ما فعله صدام، والذاكرة بثمارها المرة، أو مد اليد لتصل إلى بغداد، فثمة أصابع تنتظر المصافحة، وأجيال غير معنية بما فعله صدام، أجيال مقتنعة بالعراق الجديد ما بعد 2003، رغم كل خيبات الأمل في السياسة العراقية.
ثمة أيادٍ تمتد للمصافحة، وأجيال لم تَحتل، ولم تُحتل. نحن نتعامل هنا مع الذاكرة. لكن الذاكرة مُخاتلة.
لم نجرب، نحن أبناء هذا الجيل، النظرة الحائرة التي تَواجه فيها عبد الله الرويشد، مطرب الكويت الكبير، والملحن الكبير فاروق هلال، حين استقبلا خبر الاحتلال وهما في القاهرة. جمعتهما الأغاني، وسويت واحد في الفندق، ومحبة كبيرة، لكن الدبابة اخترقت «تعالي لي» و«علِّمني عليك»، وواجه الملحن الكبير المطرب الكبير بالحيرة، وصمتا، وغادرا الفندق.
ثمة انصهار في الذاكرة بين الكويت والعراق، جعل هذا الجرح أكبر بكثير. لم تحتل إيران الكويت مثلًا، ليمر الأمر بعقوبات وتنديد ثم تصدير ضروري للكراهية لجمع الشعب حول الهوية الوطنية الواحدة. الاحتلال ارتكبه بلد فيه من المشتركات ما يجعل بعض حمقى التاريخ يتصور أن الكويت جزء من العراق، لكنها مشتركات الجيرة.
لا أعلم في هذه اللحظة أين تستقر رفات فائق عبد الجليل، لكنني على يقين أن قاتله ترنم يومًا بأغنية من كلماته، حين كان يغنيها قحطان العطار وسعدون جابر وآخرون، ونشأنا وشيوخنا تربوا وربونا على «مجلة العربي» وسلسلة «عالم المعرفة»، مثلما أن الجالسين معي في البلم يومها تربوا على مجلتي «الأقلام» و«الأديب المعاصر» العراقيتين.
ثمة أيادٍ تمتد للمصافحة، وأجيال لم تَحتل، ولم تُحتل. نحن نتعامل هنا مع الذاكرة. لكن الذاكرة مُخاتلة، وهي تتنقل بين أمير البلاد الذي رعى مؤتمرًا لإعادة إعمار العراق، وقبلها حين صدر أول موقف مساند للعراق في حربه ضد داعش. وبين أطراف أخرى تتغذى على الكراهية، لأنها تصنع وجودها أمام شعبين طيبين.
الطيبة عاطفة، والعاطفة تندفع لدمعة الاشتياق، والكراهية، بقوة واحدة.
في خضم الجرح الكبير، كانت عيون ترنو إلى الزبير في البصرة، وإلى الجهراء في الكويت. ثمة عمومة، ومصاهرة، وأغانٍ مشتركة، ومفردات تجمع ملايين يفصل بينهم خط حدود. حتى إن كانت الجيم مقلوبة إلى ياء، في الجنوب العراقي هناك مناطق أيضًا تقلب الجيم ياءً، والتداخل كبير، لغةً ولهجة، وملامح أيضًا.
مع حلول لحظة 2019، ومرور عقد ونصف على سقوط صدام، ونحو ثلاثة عقود على الاحتلال الصدامي، أرى أن هناك لحظة ضرورية للاستحضار، في أن يكفَّ إلصاق صدام بالعراق، خصوصًا مع أجيال كان أكبرها حين سقط صدام يبلغ 15 عامًا.
في علم نفس الجماعات، تكرار التهمة يجعلها هوية، خصوصًا مع سيرة إشكالية عملاقة مثل سيرة البعث العراقي. ومَن تعامله كمحتل، سيفكر بعد حين كمحتل، وسيستحضر الجريمة، لأن الضحية أصرت على إلصاقها بمَن لا شأن لهم بها.
مرة، التقيتُ شابًا كويتيًا أنيقًا في مطار ناريتا الدولي في اليابان، جمعتنا غرفة التدخين، كان الكويتي الأول الذي ألتقيه في حياتي. ورغم أنه أعارني قداحته، لم ينسَ استحضار الذاكرة وقال:
- عجيب، عاد أنتم العراقيين شُطَّار بالنار
كانت إشارة خبيثة لشخص له سلوكي المسالم، حين حمل كل الآبار النفطية المحترقة في الاحتلال، وعلقها إلى عنقي، لكنني كنت عائدًا من هيروشيما، وفي ذهني كل سلوكيات الصفح وبدء الصفحات الجديدة. استحضرت حينها كل الصور النمطية التي خُلقت لدى الكويتيين ضد العراقيين، والعراقيين ضد الكويتيين، قلت له:
- كان عمري عامين حين دخلتْ دبابات صدام الكويت، لكن إن أحببت بتحميلي خطأ صدام، فانتظرني بالأقل لأمشي، لأنني كنت أزحف بذاك العمر
لم يتوقع الشاب إجابتي، فضحك، ويبدو أنها طاقة أرض اليابان في الصفح، وبدء الصفحة الجديدة.
بعد نحو نصف ساعة عرفت أن جدة الشاب من البصرة، وكان يستمع، قبل أن أدخل لغرفة التدخين، إلى فؤاد سالم. إذًا، التاريخ ليس الاحتلال وصدام فقط.
يشكل صدام حسين فرانكنشتاين عربيًا، صنعه كثيرون، لكن هذه الآلة كي تستمر، كان لا بد لها من الالتفات لمن صنعها.
وفي حين يهاجم سياسيون عراقيون الكويت بشكل واضح وممنهج، هناك أطراف كثيرة في الكويت تؤدي الدور ذاته، وللطرفين مواد أولية لصناعة الكراهية كثيرة، فالتاريخ سوبرماركت كبير، تستطيع من خلاله استدعاء دبابات صدام، أو مصاهرة عراقية كويتية تمت في السبعينيات، ولم يعرف الأطفال إلى اليوم إن كانوا من هذا البلد أو ذاك.
لم يكن كل الكويتيين ضحايا، مثلما لم يكن كل العراقيين جلادين، هناك أقلام وأصوات وصحفيون وكُتاب كويتيون نفخوا صدام في حين كان بسطاله الثقيل يسحق العراقيين، بل كان هناك مَن يكتب افتتاحيات صحيفة «الثورة» الصدامية، ويؤجج الكراهية ونيران الحرب العراقية الإيرانية، ثم عاد ليتمنى، بعد احتلال صدام، أن «لا يكون هناك حجر على حجر في العراق».
ذكرُ الأسماء محرج للشعبين، سأكتفي بالإشارة، فأبناء الأجيال الجديدة من أمثالي لا يتمعَّنون بالسُّخام، هم ينظرون إلى النافذة التي سيحملها الغد.
يشكل صدام حسين فرانكنشتاين عربيًا، صنعه كثيرون، لكن هذه الآلة كي تستمر، كان لا بد لها من الالتفات لمن صنعها، حين شملت نيرانه الجميع، والنار بطبعها عمياء، لا تفرق بين كويتي وعراقي وإيراني.
في تكرار موجات الكراهية هذه، كانت الأيادي التي امتدت للمصافحة، والأيادي التي انتظرتها، واقفة بشكل واضح ضد هذين الطرفين من السياسيين، الأمر يعبر الأفكار الحالمة، نعم هناك أغانٍ مشتركة، لكن الأخطر أن هناك أمنًا قوميًا مشتركًا بين العراق والكويت، وفي مرحلة انفتاح البلدان والمشاكل والحلول على بعضها في وقت واحد، فإن ما يحدث في بقعة في البصرة ليس بعيدًا عن الكويت، والانتحاري الذي فجر نفسه في مصلين في الكويت، كان صدى للانتحاريين الذين فرموا العراقيين من 2004 حتى اليوم.
الصَّفح الذي ينتظره العراق تم سياسيًا، وتم الفرز بين الشعب والنظام، حتى إن كانت هناك أجيال لا تعرف شيئًا عن المشتركات، وتنظر للأسباب الواهية للاحتلال (هل هناك أصلًا أسباب مقنعة لأي احتلال؟)، أو لكراهية شعب كامل.
شقَّ البلم ماء دجلة. ستنفذ الروائية بثينة العيسى شراكة طباعة مع دار الرافدين العراقية، وسيوقع سعود السنعوسي رواياته للقراء العراقيين، وسيعانقني إسماعيل فهد إسماعيل في معرض أبو ظبي للكتاب، ومحمد العتابي، الفارزة الجميلة، سيطل في كل فترة للسؤال عن الجديد في الشعر العراقي، وهكذا سيخرج أبناء البلم البغدادي، بلهجتيهم، وبلديهم الجريحين، من سوبرماركت الكراهية، فهناك أياد مصرة على المصافحة، وأياد أخرى مصرة على استقبالها.
أستعيد هنا، بمناسبة المقال، قراءة كتاب «جاك دريدا» المعنون «الصَّفح: ما لا يقبل الصفح، وما لا يتقادم»، بترجمة الأستاذين مصطفى العارف وعبد الرحيم نور الدين، وما يتضمنه من معركة فكرية غاية في الأناقة مع الفيلسوف الفرنسي «فلاديمير جانكليفيتش»، الذي كان صنبور كراهية ضد الألمان عمومًا، انطلاقًا من الهولوكوست.
ورغم تعرض الأخير لكثير من الردود، فإنه يجيب شابًا ألمانيًا أنكر عليه هذه الكراهية الشاسعة، يجيبه ببساطة: «لا، لن أذهب إلى ألمانيا لرؤيتك، لن أفعل ذلك، لا يسمح لي سني الكبير جدًا بتدشين هذه المرحلة الجديدة (...) بدوري أقول لك: عندما تحل بباريس، مثل جميع الناس، دُقَّ جرس منزلي (...) سنجلس للعزف على البيانو معًا».
انطلاقًا من العبارة الأخيرة، وليس مهمًّا مَن هو المعادل الموضوعي لجانكليفيتش الفرنسي الكاره، فللكويت والعراق جيوش من الكارهين والقلوب السود، لكنني سأقول: سيبقى البلمُ متسعًا لمَن يريد الركوب والخروج من سوبرماركت الكراهية، وسيكون هناك بلم آخر في الكويت، لمن يرغب، فأينما توجد الكراهية، ستوجد المحبة والصفح.