بين الضرورة والصدفة علاقة جدلية، وفي هذا السياق، وربما في تجسيد حي لهذه العلاقة الجدلية، رحل المناضل الكويتي الوطني الكبير الأستاذ عبد الله النيباري بعد مرور أسبوعين فقط على رحيل رفيقه ومعلمه الزعيم التاريخي للحركة الوطنية الكويتية الدكتور أحمد الخطيب.
أمضى النيباري أكثر من ستة عقود من حياته مناضلًا متفانيًا وقائدًا سياسيًا وتنظيميًا مرموقًا في صفوف الحركة الوطنية الكويتية، مثلما كان بحق قطبًا برلمانيًا مشهودًا له بالكفاءة، ناهيك بكونه شخصية علمية اقتصادية متميزة، خصوصًا في الشأن النفطي، الذي طالما أحسن بلاءه النضالي فيه، وكان في الوقت ذاته كاتبًا ذا قلم سيال، ومثقفًا متنوع الاهتمامات والقراءات والعلاقات، والأهم أنه كان إنسانًا رائعًا.
خمسة وخمسون عامًا من معرفة عبد الله محمد
لعل معرفتي الشخصية المباشرة بعبد الله النيباري تعود إلى بدايات العام 1968، أي قبل نحو خمسة وخمسين عامًا، عندما كنت أعمل محررًا في جريدة الطليعة، التي كان أحد أركانها وكتابها المتميزين، وكان يشتهر حينذاك باسم عبد الله محمد.
إذ هكذا كانت تسميات معظم الكويتيين من دون لقب عائلي، عندما كان مجتمعنا يتطلع نحو المستقبل وليس نحو الماضي، وقبل أن تتكرس فيه عن عمد النزعات القبلية والطائفية والعائلية، فهو عبد الله محمد، وأنا أحمد علي، وزميلنا الثالث في الطليعة الدكتور في ما بعد، عبد المالك خلف (التميمي لاحقًا)، وزميلنا الرابع عبد العزيز سعود، الذي كان قبلها رئيسًا للاتحاد المحلي لطلبة الكويت، ولم نعرف أن لقبه العائلي هو القلاف إلا في التسعينايت، وكذلك كان اسم رئيس اتحاد عمال الكويت حسين صقر عبد اللطيف، ورئيس اتحاد عمال البترول حسن فلاح، دون لقبه القبلي.
أما المرة الأولى التي كان لي فيها احتكاك مباشر مع عبد الله النيباري، فهي لا تزال حاضرة في ذهني، عندما أقلني ذات مساء من أمسيات شهر فبراير من العام 1968 بسيارته من مكاتب الطليعة السابقة في البلوكات التجارية المطلة على شارع مبارك الكبير، إلى نادي الاستقلال في مقره القديم بالطابق الأرضي من عمارة الرشيد، الواقعة على شارع المثني في حولي.
وفي الطريق، وتحديدًا عند بدايات شارع القاهرة جهة المنصورية، لمح مواطنًا بسيطًا لا يعرفه ينتظر سيارة، فتوقف وعرض عليه أن يوصله إلى مبتغاه في إحدى حسينيات ميدان حولي، وفي الطريق تبادل معه الحديث عن حال الناس.
لمست من ذلك التصرف الإنساني جانبًا جميلًا من شخصية النيباري، يتمثل في تواضعه الجم وبساطته واهتمامه بالآخرين، على خلاف أحاول كثير من كبار السياسيين والمثقفين، ليس في مجتمعنا الكويتي الذي أفسدته القيم الاستهلاكية، بل ربما في كثير من المجتمعات الأخرى. ولعل تواضع عبد الله يعود في جانب أساسي منه إلى انحداره الطبقي الاجتماعي من أسرة كويتية كادحة عانت ما عانته، قبل أن يشق طريقه في الحياة كإنسان عصامي مستندًا إلى علمه وجهده ومثابرته ونضاله.
عبد الله النيباري: النضال والثقافة
بعيدًا عن التجميل والتزويق، فإنه في سياق الحياة وتناقضاتها وصراعاتها، ومثلما جمعتني بالنيباري علاقات الزمالة ولاحقًا الصداقة والرفقة السياسية والإنسانية، فقد كنا كذلك نقف على طرفي نقيض في صيف العام 1968، عندما انشق جناحنا اليساري الثوري عن حركة القوميين العرب، التي كان في قياداتها، واختلفنا حول المرجعية الفكرية والأساليب النضالية، لكن ذلك لم يقطع الحبل الإنساني الذي كان يجمعنا.
عندما اعتقلنا في صيف العام 1969 كان تضامنه معنا مشهودًا، وأذكر من بين ما أذكر أنه زارنا في المعتقل بعد السماح لنا بالزيارات في أعقاب إضرابنا عن الطعام، وأهدانا عشرات الكتب من مكتبته الشخصية، التي كان حينها حريصًا على كتابة اسمه بحروف فضية على أغلفتها الجلدية السميكة، ومن بين تلك الكتب التي أهدانا إياها روايات نجيب محفوظ ومجموعاته القصصية، التي قرأناها بنهم.
وبعد العفو عنا في فبراير من العام 1970، التقيت النيباري أكثر من مرة، ولاحظت حينذاك اهتمامه بالتعرف إلى المدرسة الاشتراكية الفابية عبر حديثه عن قراءاته لمصادر ومراجع مكتوبة باللغة الإنجليزية، وكان يبدو ميالًا نحوها، وكان هناك ما يشبه الإشاعة بأن عبد الله النيباري انضم فترة وجوده في بريطانيا إلى حزب العمال، فيما كنت، ولا أزال، ماركسيًا لينينًا يرى في الاشتراكية الفابية نزعة إصلاحية يمينية غير ثورية. وبالطبع دارت بيننا سجالات، منها ما كان موضوعيًا، ومنها ما اتسم بالتعصب، لكنه بحق كان مثقفًا واسع الاطلاع.
وفي صباح يوم 24 يناير من العام 1971، كنت واحدًا من تلك الجموع الغفيرة التي كانت تنتظر واقفة أمام اللجنة الانتخابية الرئيسية للدائرة السادسة بالقادسية نتائج الانتخابات بعدما تأخر إعلانها، ولا أزال إلى يومنا هذا أنتشي عندما استرجع في ذهني صيحات الفرح التي أطلقناها بحماس عند الإعلان عن فوز مرشحي حركة التقدميين الديمقراطيين، أحمد النفيسي وعبد الله النيباري، بعضوية مجلس الأمة.
المفارقة حينذاك أننا كنا ننتمي إلى تنظيم منافس، كما كنا نميل أكثر نحو تفهم قرار مقاطعة الانتخابات الذي أعلنه الراحل جاسم القطامي ومجموعته، وليس نحو قرار المشاركة الذي اتخذه التقدميون الديمقراطيون، ناهيك بخلافنا المعلن حول تقييم خطاب الشيخ جابر الأحمد في 24 يونيو من العام 1970، ولكن واقع فوز العناصر الوطنية في الانتخابات كان أكبر من ذلك كله.
وفي مجلسي الأمة الثالث والرابع، ارتبط اسم النيباري بمعارك مشهودة من أجل تأميم النفط والخلاص من هيمنة الشركات الاحتكارية الأجنبية في سبعينيات القرن العشرين، بدءًا برفض اتفاقية المشاركة المجحفة وصولًا إلى قرار التأميم في العام 1975، وهو يستحق بجدارة لقب بطل تأميم النفط. ولكن مع ذلك كانت بيننا خلافات معلنة وصراعات برزت على صفحات الصحف حول بعض المواقف، فهكذا هي السياسة وتناقضاتها.
الانتخابات والتجمع الديمقراطي
جمعتنا في تلك الفترة لقاءات عدة، سواء في الطليعة التي انتقلت إلى مقرها الأخير في الشويخ، حيث كنت أكتب فيها على نحو منتظم باسمي الصريح وأحيانًا تحت اسم مستعار، أو في نادي الاستقلال، الذي كان النائب عبد الله النيباري النجم اللامع في ندواته عن النفط وبرنامج الإصلاح الوطني، إلى أن أعلنت السلطة بعد انقلابها الأول على الدستور في العام 1976 حل مجلس إدارة النادي أول الأمر، ثم حل النادي وتصفيته، وذلك عقابًا وفاقًا منها لكل العناصر الوطنية والتقدمية والديمقراطية التي عارضت ذلك الانقلاب الرجعي.
وفي نهاية العام 1978، شاركنا في التجمع الديمقراطي الذي كان يهدف إلى تجميع قوى وعناصر المعارضة الوطنية، وضمنا نحن الشيوعيين وكذلك التقدميين الديمقراطيين من جماعة الطليعة، وبينهم عبد الله النيباري، والبعثيين بقيادة الشهيد فيصل الصانع، وعناصر وطنية متنوعة، واستمر ذلك التجمع قائمًا إلى العام 1990. خاض مرشحو التجمع الديمقراطي، وبينهم عبد الله، انتخابات مجلس 1981، ولم يفز في تلك الانتخابات من الصف الوطني والتقدمي الديمقراطي عمومًا غير الدكتور خالد الوسمي، فيما خسر بقية المرشحين.
لم تكن تلك صدفة، وإنما نتاجًا طبيعيًا للتحركات المحمومة التي نفذتها السلطة لمنع فوز مرشحي المعارضة، وتفتيتها للدوائر الانتخابية من 10 إلى 25 دائرة، وتأجيجها للصراعات الطائفية مستفيدة من الحرب العراقية الإيرانية، ودعمها للتيار الديني كحليف، ناهيك بانشغال المجتمع في المضاربات المجنونة على الأسهم في سوق المناخ.
لكن الأمر اختلف عندما خاض مرشحو التجمع الديمقراطي وبينهم عبد الله النيباري انتخابات مجلس 1985، إذ فاز أحمد الخطيب وسامي المنيس وأحمد الربعي، فيما احتل النيباري المركز الثالث، ولكن غيابه الوقتي حينذاك عن المشهد النيابي لم يكن يعني غيابًا عن المشهد السياسي، إلى أن عاد بجدارة لمقعده النيابي في انتخابات 1992.
الاحتلال وتوحيد الجهود
في مايو من العام 1990، تعرض النيباري للاعتقال بسبب موقفه الرافض لانتخابات المجلس الوطني غير الدستوري. وبعده، عندما تعرضت الكويت للغزو، كان فقيدنا صامدًا داخل الوطن، وتعرض أكثر من مرة للتفتيش والاحتجاز والتحقيق، ورغم ذلك فقد واصل خلال تلك الفترة العصيبة نضاله من أجل تجميع قوى الحركة الوطنية، وتعزيز صمود الكويتيين في مواجهة الاحتلال ومقاومتهم له.
كانت اتصالاتنا ولقاءاتنا منتظمة حينذاك في منزله، واتفقنا وقتها على تأسيس المنبر الديمقراطي الكويتي كإطار ائتلافي وطني ديمقراطي تقدمي، وهذا ما كان في يوم الثاني من مارس عام 1991، بعد أيام قلائل من تحرير الكويت، عندما عقدنا مؤتمرًا تحضيريًا لتشكيل المنبر في ديوانية أحمد الخطيب بالروضة، وذلك تقديرًا للمكانة الرمزية التي يحتلها في قيادة الحركة الوطنية، إذ لم يكن قد عاد بعد إلى الكويت.
كما حرصنا على عقد مؤتمر صحفي للإعلان عن قيام المنبر مساء ذلك اليوم في منزل الخطيب بالشويخ، بحضور العشرات من وسائل الإعلام العربية والأجنبية، التي كانت تتابع وقائع تحرير الكويت. ولاحقًا في الخامس من ديسمبر من ذلك العام، انعقد المؤتمر التأسيسي للمنبر وانتُخِب عبد الله أمينًا عامًا له، فيما انتُخِبتُ لتولي منصب الأمين العام المساعد.
كان المنبر خطوة مهمة على طريق توحيد جهود قوى الحركة الوطنية، وانتزاع حقها المشروع في العمل العلني، وتنظيم صفوفها على نحو مؤسسي ديمقراطي. وأحرزت تلك التجربة ما أحرزته من نجاحات، مثلما أخفقت في المقابل في مجالات أخرى، وأدى المنبر دورًا لا يمكن إنكاره طوال عقد التسعينيات، ولكنه في الوقت ذاته شهد تناقضات.
كان بينها ما هو موضوعي لا بد من حسمه، مثل الخلاف حول الموقف تجاه الخصخصة، والموقف تجاه النزعات النيوليبرالية، والموقف تجاه قانون شراء المديونيات الصعبة، وتجاه التركيز على أسلوب العمل البرلماني، فيما بعضها الآخر كان ملتبسًا تداخل فيه الموضوعي بالشخصي.
من الطبيعي أن مسيرة نضالنا المشترك في صفوف قيادة المنبر شهدت ما شهدته من توافقات سياسية، ونمت على هامشها علاقات شخصية وثيقة، مثلما شهدت في المقابل خلافات وتباينات حادة. واستمر الحال كذلك إلى حين مغادرتنا نحن الشيوعيين صفوف المنبر في العام 2010، عندما استأنفنا بصورة مستقلة وجودنا التنظيمي ونشاطنا السياسي في إطار حزب اتحاد الشعب في الكويت، وامتداده التاريخي الحركة التقدمية الكويتية.
«مهما افتقدتك فإن ذكراك ستبقى ماثلة في قلبي»
الطليعة، كصحيفة، جمعتنا مرة أخرى في الفترة بين عامي 1992 و1994، عندما توليت منصب مدير تحريرها، ومرة ثالثة جمعتنا على نحو مجازي في صيف العام 1997، حين توليت تلك المسؤولية مرة أخرى بصورة وقتية لمدة ستة أشهر، بعدما تعرض عبد الله النيباري وشريكة حياته فريال الفريح لجريمة محاولة الاغتيال الغادرة مساء السابع من يونيو من ذلك العام، وغادر البلاد للعلاج من إصابته في الخارج.
ولعل هناك جانبًا آخر من علاقاتنا الشخصية تعزز على نحو جميل خارج الكويت، وتحديدًا عندما كنا نلتقي في لبنان، إذ جمعتنا جلسات النقاش مع أصدقاء ومعارف كنا نتفق ونختلف معهم، وجولاتنا على مكتبات بيروت ودور نشرها، وقاعات الندوات والاجتماعات، التي شاركنا فيها لمجلة «الطريق»، التي كانت تصدر عن الحزب الشيوعي اللبناني والمنظمة العربية لمكافحة الفساد ومركز دراسات الوحدة العربية، هذا غير طاولات المطاعم والمقاهي أيًا كان المأكل والمشرب، وسهرات المهرجانات الفنية الحاشدة في بنت جبيل وصيدا، وربما غيرها، التي حضرناها معًا، وبعض زياراتنا لمنزل أحمد الخطيب في بيت مري.
أيه، حقًا، كم افتقدك يا أستاذ عبد الله. ولكني مهما افتقدتك فإن ذكراك ستبقى ماثلة في قلبي، مثلما هي حاضرة في ذاكرتي.