«أبو إبراهيم، التحق بسرعة، الجيش العراقي دخل الكويت».
هذا ما استقيظت عليه يوم الخميس الثاني من أغسطس عام 1990، مكالمة من أحد الزملاء في مدرسة تدريب الأغرار العسكرية.
مشاعر جديدة ومتضاربة كانت تنهشني من الداخل، خليط من الغضب والحقد والخوف على الضياع الذي سيعيش فيه الوطن، لكن أملًا بزوال كل هذا كان يطبطب علي، يقف في مواجهة الخوف لئلا تكون له السيطرة.
حين وصلت، بدأت الأرتال العراقية تصطف أمام المدرسة وكلية الشرطة والحرس الوطني، بدأ الجيش العراقي بالرمي، فاشتبكنا معهم حتى سقط منا قتلى وجرحى.
سُلم السلاح لكل الذين التحقوا على رأس عملهم في الجيش، بالإضافة إلى المجندين الذين تطوعوا للانضمام إلينا. وزعت القيادة العسكرية الضباط والملتحقين على مجموعات لحماية وزارة الدفاع ومدرسة التدريب والمباني العسكرية، وقد كنت أحمل رتبة رائد وقتها.
اللحظة المفزعة، حين سقط العسكري مطر كنيهر بجانبي مصابًا بخمس رصاصات. كانت إصابة قاتلة لا يمكن أن ينجو منها. رغم الهلع أسرعنا بنقله للإسعاف لتنتقل به إلى المستشفى العسكري. ما حدث (وهو ما علمنا به لاحقًا) أن سيارة الإسعاف قُصفت في طريقها للمشفى، ظل الموت يلاحقه حتى في محاولة تمسكه بالحياة، لكنه كان أكثر عنادًا من الموت، فوصل المستشفى وعولجت إصابته الجسيمة. لم يعد اليوم هو نفسه بعد أن هشمت الإصابة جسده، لكن خروجه من رحم الموت كانت ولادة مهيبة.
انسحاب ورغبة في المواجهة
من فجر ذلك اليوم حتى مغربه، ظللنا في اشتباكات لحماية المنطقة العسكرية، قُصفت وزارة الدفاع فوصلتنا القذائف وزاد عدد المصابين، وقتها تلقينا أوامر بالانسحاب بسبب سقوط الوزارة في يد الجيش العراقي.
انسحبنا لاجئين إلى مبنى الاتحاد الرياضي القريب من المنطقة العسكرية، تجمعت القيادات وكبار الضباط وأعطوا قرارًا بالتوجه إلى مخفر منطقة كيفان، على كل ضابط أن يجمع أفراده الموجودين ويتوجه إلى هناك، ويحميهم من أي تعرض في الطريق، بالإضافة إلى تغيير الملابس إلى ملابس مدنية وإخفاء السلاح.
إلا إن المدنيين الذين انضموا إلينا والشباب المجندين كانت تغمرهم رغبة المواجهة، أصروا على البقاء والمقاومة من داخل المدرسة، فجمعتهم وأخبرتهم بأن هذا غير مطلوب منهم، والأوامر الصادرة لنا هي الانسحاب، لكن إن كان ولا بد فليخبئوا أسلحتهم فوق مسجد منطقة الرقعي (مبنى وزارة الأوقاف حاليًا) للعودة إليها حين تترتب الأمور.
كان الوضع أكثر اختناقًا من أن أفكر في عائلتي. وصلت إلى كيفان، ووزعنا الضباط مع أفرادهم لتحويط المنطقة. استلمت النقطة عند نادي الكويت الرياضي، فاصطدمت الدبابات الكويتية بقيادة محمد السلاحي بالقوات عراقية ليتراجعوا إلى الداخل، وأبلغونا بعدم الالتحام. في النهاية نحن لا نملك سوى البنادق، بينما تملك القوات العراقية من الأسلحة والعتاد ما لا يمكننا مواجهته. خصوصًا أن كيفان منطقة سكنية، وأي التحام قد يدمر حياة العوائل الخائفة داخل البيوت.
مع هذا، أدخلتنا عائلة الشيباني إلى بيتها، بالإضافة إلي رجل عجوز لم يمنعه سنه عن مساندتنا. أدخلونا بيوتهم وأعطونا ملابسهم وسمحوا لنا بالصعود إلى أسطح المنازل للاستطلاع. كنا قد دفنا أسلحتنا بين البيوت في انتظار أوامر جديدة، ولافتقار أدوات الاتصال، كنا نرسل شخصًا منا ليعرف الأوامر ويخبرنا.
حكايات الشتات والخوف
في صباح اليوم التالي عدنا إلى مخفر كيفان، خيرتنا القيادات بين البقاء أو العودة للاطمئنان على أهالينا، بعضنا رحل، وبقيت مع بعضنا الآخر واتصلت للاطمئنان على عائلتي.
وزعنا مسؤولياتنا، فأصبحت أنا برفقة المقدم عبد الله معيوف المسؤولين عن استقبال الأسرى العراقيين والتحقيق معهم داخل المخفر، سواء كانوا من الضباط أو المدنيين المتعاونين.
بعدها جاءت زوجتي مع عمها وأبيها (عائلة السلطان) لتوزيع الطعام والمياه على أفراد المقاومة. لم تتمكن من الدخول إلى المخفر للحراسة المشددة عليه، لكن كان كافيًا بالنسبة إليها معرفتها بمكان وجودي.
وبعد ثلاثة أيام، أبلغني القادة في المخفر العقيد عبد الله السعد، وآمر القوة البرية عبد العزيز البرغش، بالبحث عن مكان أكبر ليكون مركز القيادة، بسبب ازدحام المخفر بالمتطوعين للعمل في المقاومة، كويتيين وغير كويتيين، فالكثير من الجاليات العربية التي عاشت في الكويت ساعدتنا كمقاومة حبًا في البلد لا أكثر، وساعدونا من خلال تقديم الخدمات التي نحتاجها، بالإضافة إلى الأهالي الذين يحضرون الطعام أو يسألون عن أبنائهم.
ذهبت برفقة خالد الشطي وعبد الله معيوف إلى مدرسة فهد العسكر، وقتها دخلتْ قوة عراقية إلى كيفان لتشتيت المقاومة المتمركزة هناك.
عدت إلى منزلي أخيرًا، وعلمت بمظاهرة سلمية مكونة من مدنيين تجتاح الشوارع بين منطقتي حولي والقادسية، أخذت زوجتي وابني وانضممنا لها نهتف باسم القيادة الكويتية. كان لابني عبد العزيز تساؤلات الطفل العاجز عن الفهم: «شنو هذا يبه؟»، أخبرته أننا نسير لنعلن «لا» كبيرة في وجه المحتل. تعلم طفلي كلمات كبيرة في سن صغيرة.
أطلق الجيش العراقي الرصاص لتفكيك المظاهرة، اعترضت على أحد الجنود، «معنا نساء وأطفال»، لا تزال ذاكرة ابني تحمل تلك اللحظة وتثير داخله الخوف الذي تحول مع الوقت إلى غضب، حين انهال الجندي علي ضربًا بكعب سلاحه، أمام طفلي الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره، والذي بكى مفجوعًا بالمنظر.
هناك، ناداني أحد الضباط الزملاء يوسف الفلاح (الذي صار شهيدًا في ما بعد)، ونهاني عن المشاركة في المظاهرات حتى لا يُقبض علي وأنا عسكري يمكن أن أكون أكثر فائدة في مركز آخر.
سمعت بعدها عن سرقات تحدث في مقر فرقة أولاد عامر التراثية. طلب مني والد زوجتي أحمد السلطان (أبو قاسم) التوجه معه وآخرين للمقر لمنع السرقة. وهناك، وفي محاولتنا لحماية المقر، ألقي القبض علينا بتهمة السرقة.
كنت أرى الشباب يخرجون من الزنزانة كالزهور، ويعودون إلينا مدممين مسودِّي الوجوه من الكدمات.
أُخذنا إلى مخفر منطقة صباح السالم، كان أغلبنا من كبار السن، حققوا معهم تحقيقًا بسيطًا بعد تسجيل أسمائهم وأخرجوهم، لكن ولأني لم أحمل بطاقة مدنية حتى لا يعرفون بأنني عسكري، أو يتعرفون على اسمي الحقيقي الذي أخفيته لئلا يستدلوا على هويتي، فقد حُبست، وأخفى أخو زوجتي قاسم السلطان الذي كان يرافقنا بطاقته ليظل معي.
حتى جاء بعض من أقربائي حسين وجاسم الدريع وتحدثوا مع الضابط، الذي وعدهم بإخراجنا في الصباح مقابل بعض الأغراض كرشوة، لكن في الليل تفرغوا للتحقيق معنا.
كنت أرى الشباب يخرجون من الزنزانة كالزهور ويعودون إلينا مدممين مسودِّي الوجوه من الكدمات، عُذب أخو زوجتي تعذيبًا لا يزال أثره باقيًا، وحين حُقق معي ادعيت أني مدرب رياضي في أحد مراكز الشباب. لم أُعذب بسبب رشاوى أقاربي وإخبارهم الضابط بأني مريض في القلب، وخرجنا في اليوم التالي.
البحث عن القيادة
حاولت التواصل مع القيادة، فدلني الأصدقاء إلى الدكتور هشام العبيدان (الذي استشهد بعد ذلك) في المستشفى العسكري، الذي أوصلني إلى طلال المسلم، الذي أشار علي بالتنظيم مع خالد الشطي ووليد الهدلق وجمال الخضري وإبراهيم عبد النبي مشعل (الذي استشهد لاحقًا)، وهم ضباط في الجيش الكويتي، وانضم إلينا فيصل الهاجري في مدرسة عمرو بن العاص بمنطقة الروضة.
كونا خليتنا هناك، وقدمت لنا مجاميع من الشباب للانضمام إلينا، لكن حتى لا نثير الشكوك في المكان نظمناهم للتجمع في مناطقهم، على أن يكون لهم صلة بنا لتبادل المعلومات وتوفير احتياجاتهم.
بدأ من هنا عملنا المنظم في مقاومة الاحتلال، أسرنا العراقيين من حاملي السلاح، ومن يقاومنا منهم نتعامل معه بالسلاح، لكن من سلم نفسه أو كان دون سلاح فكنا نسلمه للقيادات الكبرى، لم نقتل أسيرًا.
خفنا من تضرر السكان حول المدرسة بسبب تحركاتنا فتركناها، واتخذنا شقة في منطقة السرة قيادةً لنا، ثم انتقلنا بعدها لمنطقة بيان، نجمع خلال ذلك المعلومات والسلاح الذي نأخذه من الأسرى أو مخازن وزارة الداخلية أو الدفاع ونرسله إلى الخلايا. كان في مجموعتنا أصحاب خبرات متنوعة، بعضنا متخصصون في الهندسة الميدانية والتفجيرات مثل الهدلق، وبعضنا كالخضري ضابط إشارة متخصص في الاتصالات، وخالد الشطي مدير لعملياتنا التي ننفذها والتنسيق في ما بيننا.
الهدلق وآخرون كانوا يذهبون إلى داخل العراق لتفجير أماكن التجمعات العسكرية، خصوصًا تلك التي تبدل المناوبات للدخول إلى الكويت. أما أنا فكنت متخصصًا في إدارة الخلايا التي أسسناها، وجمع المعلومات منهم وتوصيلها إلى القيادات الكبرى، والتواصل ما بين خليتنا والخلايا الأخرى الكبيرة.
في تجمعاتنا كان بعضنا ينهار، يضعف ويفقد الأمل، يشعر بأن نهاية الوضع ليست قادمة، وأن أحدًا من العرب لن يحل الموضوع.
كان أملي معلقًا بالله، لكن بعض الشباب صغار السن كان الخوف يغلبهم من أن تصبح الكويت فلسطين جديدة، إلا إننا الأكبر سنًا كنا نضرب لهم أمثلة بشعوب أخرى تحررت من احتلالها، فالصورة بالنسبة لي عسكرية، الجيوش التي تحتل بلدًا لاستعماره أو البقاء فيه، تحاول ضبطه وتأسيس نفسها داخله، لكن الاحتلال العراقي كان يحطم كل شيء حوله وينشر الفوَضى والسلب والنهب. بالنسبة لي، هذا كان دليلًا على رغبة في التخريب والخروج بعدها، لا البقاء، كان هذا منبع أمل داخلي.
زيارتي لأهلي كانت كل خمسة أيام لساعات معدودة، غلب الخوف والدتي، فراحت تطلب من أخي أن يقنعني بالتوقف عما أفعل. تبكي، فينشق قلبي. لكني كنت أحاول طمأنتها بين وقت وآخر، وحين أحس بأني قد أسبب خطرًا لأحد، أقلل من مروري عليه.
التوحش والوقوع في الأسر
«موبكيفنا»، هذا ما قاله لي أسير عراقي كان قد وجد في الجيش مصدر رزقه الوحيد. بعض الأسرى العراقيين قادهم إيمانهم بالقومية والقضية الفلسطينية، ولم يكتشفوا تلك الخدعة إلا متأخرين. بعضهم يقسم بأنه مرغم على الممارسات الوحشية، لكن الدلائل كانت تثبت عدم صدق ذلك، فلم تكن الوحشية وإذلال الآخرين في نقاط تفتيش إلا نابعة منهم. أما بعضهم الآخر فيتمنون الانتحار على العيش على قتل الناس والاحتلال، فكنا نحقق معهم وفي قلوبهم غصة.
توحش الجيش العراقي حين تجاوز الأيام الأولى بعد ظهور المقاومة، فبدأت الإعدامات تتوسع والتعذيب يشتد، فضعفت بعض المجموعات بسبب أسر أو استشهاد بعض أفرادها، لهذا عملنا على جمع هذه المجموعات لتكون أكبر وأكثر تماسكًا، مثل مجموعة «بيت القرين» الشهيرة التي كانت عبارة عن مجموعتين: مجموعة «قوة الكويت» (المسيلة) بقيادة الشهيد سيد هادي، ومجموعة أخرى باسم «القرين» الذين اجتمعوا بعد أسري للمرة الثانية.
وصلتنا معلومات بأن كويتيًا يدعى غانم الملا أسس مجموعة يعتبرها مجموعة مقاومة، إلا إن لها أهدافًا مريبة تتعلق بنظام الحكم في الكويت. تواصلت مع أحد المنضمين إليه بالاتفاق مع أفراد من المقاومة، وهم أحمد السيافي ومحمد مسلم عقيل والشيخ مشعل اليوسف الصباح، لمعرفة ما يديره الملا والتأكد مما نسمع عنه.
لم يكن الصراع بين هويتي الشخصية والوطنية سهلًا، كان علي التضحية بإحداهما في سبيل الأخرى.
التقيته وسمعت منه كلامًا مسيئًا للقيادة الكويتية والشعب الكويتي، وتنظيم جماعة لا تهدف للمقاومة. بعد الخروج من اللقاء قابلت مجموعة «القرين»، ثم توجهت إلى منطقة الرميثية ونقلت ما شاهدت وسمعت إلى عقيل واليوسف والسيافي، فاقتحمت القوات العراقية البيت الذي كنا فيه، وأُسرت من هناك في الثاني من يناير 1991. كان الجنود يهللون فرحين بالقبض على خلية مقاومة، وعلى محمد مسلم عقيل بالأخص، الذي كان اسمه معروفًا.
بالشتائم والضرب أُرسلنا إلى منطقة العمرية في المشاتل، وبقينا هناك حتى يوم 14 يناير، لكون الأخبار تتحدث عن ضربة لقوات التحالف يوم 15 يناير.
كان المعتقل مليئًا بالنساء والأطفال (الذين فُك سراحهم قبل الترحيل) بالإضافة إلى الرجال وكبار السن، وكنت مرتبكًا، لم يكونوا على معرفة باسمي هنا حتى الآن، لكن أحدهم اعترف تحت التعذيب باسمي الحقيقي، ولا ألومه طبعًا. أنكرت ذلك وأنا تحت التعذيب، ثم ساعدني أسير آخر باعتراف مزيف عن اسم مختلف لي. لم يكن الصراع بين هويتي الشخصية والوطنية سهلًا، كان علي التضحية بإحداهما في سبيل الأخرى، ولم يكن سهلًا كذلك رعبي من أي لحظة قد يؤتى فيها بأهلي وأطفالي للتعذيب أمامي كي أعترف.
وجدت مصحفًا مهملًا، أخذته وخيطته بإبرة وخيط استعرته من الموجودين. ظلت هذه النسخة من القرآن رفيقتي طوال الوقت، أحملها حتى اليوم لأتذكر أن التعلق بالله وحده الذي أعادني.
«راجع لأهلي وديرتي ومحبوبتي»
رُحِّلنا إلى سجن أبو غريب في بغداد قسم الأحكام الخاصة، وهناك كنت أخاف الاختلاط بأحد قد يعرف اسمي ويناديني به أمام الضباط العراقيين، حتى عمم بعض أصدقائي على الجميع بألا أُنادَى باسمي الحقيقي حتى لا تُعرف شخصيتي.
وُضعنا في البداية في زنازين، وبعدها في قاعة كبيرة شملت الكويتيين الأسرى، وعرفنا أن الطابق أسفلنا كان مليئًا بقيادات عسكرية عراقية سجنهم صدام حسين خلال تغييره سياسة الاستخبارات العراقية.
التقيت بعض من أعرفهم في السجن، وكان من بينهم محمود الدوسري ومحمد الفجي، اللذان أخذا دورًا في مساعدة الأسرى الكويتيين وتوفير ما يمكن من احتياجاتهم.
بعض الموجودين كان معه راديو ينقل لنا الأخبار في الكويت، وكنا نسمع صوت القصف من داخل المعتقل، ما بين ترقب وتوجس وأمل.
رُحلنا بعد ذلك من أبو غريب في فبراير، بعد تحرير الكويت، إلى سجن الرمادي في منطقة الأنبار، وكان الصليب الأحمر قد سجل أسماءنا قبل الترحيل، وشاركوا في ترحيلنا إلى الرمادي في عملية تبادل الأسرى. كل ضابط عراقي حقق معي كنت أعطيه اسم شخص مختلف، ورغم تخوفي، فإني أعطيت اسمي الحقيقي للصليب الأحمر، حتى يعرف أهلي مكاني وما إذا كنت حيًا أو ميتًا.
قابلت في سجن الرمادي ضباطًا ومدنيين أُسروا عشوائيًا خلال انسحاب القوات العراقية من الكويت. وجدني أحد الذين كانوا مع غانم الملا، فسألته عما حصل للمجموعة، وأبلغني أن الكل بخير وأن غانم الذي سيطر عليهم قبضت عليه المقاومة.
حضن أطفالي وعائلتي واحتوائهم كان كل شيء بالنسبة لي. حضن عائلة وحضن وطن. كيف يمكن أن يملؤك هذا الدفء دفعة واحدة؟
ركبنا الطائرة، وطوال الطريق كنا نتساءل: كيف أصبح الوطن؟ وما حال عوائلنا؟ وماذا عن أصدقائنا الذين أُسروا ولم نرهم في المعتقل معنا؟ ما حالهم وماذا جرى لهم؟ وهل سيعودون مثلما عدنا؟
وصلت الكويت، وقابلت أهلي أخيرًا بعد ثلاثة أشهر من الأسر. حيرة وارتباك وعدم تصديق، هل نجونا فعلًا؟
نزلت من الطائرة وفي استقبالي أخي الذي أخذني في حضنه، وأول شخص أردت الذهاب إليه ورؤيته كان أمي، دخلت عليها ودون تفكير نزلت على رجلها أبكي، وتبكي هي. «شسويت فينا؟ كنا ما بين حيين وميتين».
حضن أطفالي وعائلتي واحتوائهم كان كل شيء بالنسبة لي. حضن عائلة وحضن وطن. كيف يمكن أن يملؤك هذا الدفء دفعة واحدة؟
كان ضروريًا بعدها التجول في الكويت لرؤية كيف صارت. ذهبت إلى بيت القرين مقر مجموعة «المسيلة»، فوجدت آثار الأصدقاء الذين استشهدوا وقابلت الناجين منهم، بكيت صحبي ورفاقي، رحل من كانوا لا يحملون سوى النقاء.
تجول بي قريبي على الأماكن المدمرة، منطقة المطلاع التي دُمرت فيها القوات العراقية المنسحبة، وكيفان التي بدأنا منها مقاومتنا، والمباني المنهارة، لم تعد الكويت بوجهها الجميل الذي أعرفه.
لا شيء تغير
في بداية الاحتلال لم نفكر في شيء غير التحرير، لكن في الأسر، فكرنا في التغييرات التي ستكون الكويت عليها، ستعود بلدًا أفضل مما كانت عليه، سيختفي ما كان يحزننا، والأخطاء ستعدل. كنا نظن بأننا سنخرج من هذه المحنة دولة مختلفة، وطنًا أفضل، دون العنصرية ولا الطائفية التي اخترقتنا في الثمانينيات، والاقتصاد سيتطور، والتكاتف سيكبر لأننا أثبتنا إمكانية ذلك خلال الاحتلال، والتفرقة بين الطوائف والقبائل والشرائح ستزول.
هذه توقعات مبنية على أن هذا درس لنا سنخرج منه باستفادة، صدام كان قد استغل كل ما يحدث في الكويت داخليًا من اختناق سياسي ومجتمعي لدعم غزوه، وكل هذه السلبيات جعلته يظن أن من شأنها أن تجعل الشعب الكويتي في صفه.
هل ندمت على مشاركتي في المقاومة؟ بعمري لم أفكر في ذلك. لو وقعنا في الاحتلال ثانية سأقاوم ثانية، سوء الوضع لن يجعلني أتراجع عن حماية الوطن. حين شاركت في المقاومة كنت أريد أن أكون صادقًا مع نفسي، ففي تدريباتي للعسكريين، كنت أعلمهم الفداء والتضحية وأحدثهم عن حاجة الكويت إليهم. هل أقول هذا الكلام وفي وقت الأزمة والاختبار الحقيقي أتراجع؟ أي احترام للذات سيكون هذا؟ وأي وطن سأعيش فيه لو خذلته؟