قضت المحكمة الكلية في الكويت يوم الثلاثاء 28 مارس 2023 بالحكم على خمسة متهمين في غسل الأموال في قضية متعلقة بفضيحة الصندوق السيادي الماليزي (1MDB). وكانت الكويت إحدى أبرز المحطات في فصول القضية، التي أطاحت برئيس وزراء ماليزيا الأسبق نجيب عبد الرزاق، والذي ينفذ اليوم حكمًا بالسجن على خلفية اختلاس الأموال من الصندوق السيادي.
وكانت النيابة العامة الكويتية قد رفعت في صيف 2020 قضايا غسل أموال ضد خمسة متهمين، هم صباح جابر المبارك الصباح، وحمد علي الوزان، وسعود عبد الله عبد المحسن، ومحمد بشار كيوان (فرنسي الجنسية)، ولو تايك جو (الشهير بجو لو، ماليزي الجنسية)، بعد نشر الصحفية الاستقصائية البريطانية كلير ريوكاسل براون تحقيقًا على موقع ساراواك ريبورت حول غسل جو لو للأموال في الكويت.
وذكرت الجزيرة في حينها أن لقاء جمع عددًا من المسؤولين الأمريكيين بوزير الدفاع الأسبق الشيخ ناصر صباح الأحمد، وتقديمهم أدلة على تورط عدد من المسؤولين في تسهيل تمرير عمليات مالية مشبوهة لصالح شركات صينية وماليزية، عن طريق مشاريع وصفقات.
«أكبر الفضائح المالية في العالم»
أسس رئيس الوزراء الماليزي الأسبق نجيب رزاق الصندوق السيادي الماليزي (1MDB) في 2009، الذي سعى إلى تنفيذ استثمارات استراتيجية والتخفيف من حدة الفقر ضمن سياسته للتحرر الاقتصادي، برأس مال بلغ مليار دولار. رجل الأعمال جو تايك لو العقل المدبر وراء عملية اختلاس الصندوق لم تكن له أي صفة رسمية فيه، إلا أنه كان مقربًا من عائلة رئيس الوزراء ويحضر جميع الاجتماعات المتعلقة باستثمارات الصندوق.
وفي يونيو 2015، نشرت صحيفة وول ستريت جورنال مقالًا ذكرت فيه أن السلطات الماليزية تحقق في احتمال تحويل ما يزيد عن 700 مليون دولار من الصندوق السيادي إلى حسابات رزاق الشخصية، الأمر الذي نفاه الأخير، مؤكدًا أن مصدر الأموال تبرعات خارجية.
لكن وزارة العدل الأمريكية كشفت في يوليو 2016 عن تقديم شكاوى مصادرة مدنية تسعى لمصادرة واسترداد أكثر من مليار دولار من الأصول المرتبطة بمؤامرة دولية مزعومة لغسيل الأموال المختلسة من 1MDB، في ما وصفته السلطات الأمريكية بأنه «إحدى أكبر الفضائح المالية في العالم»، مشيرة إلى اختلاس أكثر من 3.5 مليار دولار بين عامي 2009 و2015 من قبل مسؤولين رفيعي المستوى في 1MDB وشركائهم.
ما دور الكويت في الفضيحة؟
يرتكز نشاط جو لو الإجرامي على ركيزتين: الأولى تأسيس شركات وهمية في الخارج تعرف بمصطلح «أوفشور»، تُأسس في دول تكون قوانينها المالية مرنة وأقل صرامة، تسهل على صاحب العمل تفادي الملاحقات القضائية. أما الركيزة الثانية فتكمن في إبرام اتفاقيات شراكة وهمية مع أطراف صاحبة نفوذ توحي بوجود شرعية سيادية داعمة للشراكة، مثل الشراكة مع طرف سعودي في مشروع استكشافات بترولية وتطوير الحي المالي في ماليزيا بالتعاون مع شركة إماراتية.
ليس معروفًا كيف بدأت العلاقة بين صباح جابر المبارك وجو لو، إلا أن الأخير كانت سمعته قد تضررت ولم تعد البنوك التقليدية تقبل التعامل معه. وبحسب ما ذكرته كلير ريوكاسل براون مديرة تحرير موقع ساراواك ريبورت في ندوة افتراضية نظمتها جمعية حماية الأموال العامة الكويتية، تواصل صباح جابر المبارك مع جو لو لعرض حصة في بنك التجارة الفيدرالي في جزر القمر المملوك بالكامل للمبارك. لكن جو لو كان لديه مخطط أوسع لاستثمار علاقته بالجانب الكويتي، واعدًا إياها بعمولات ضخمة من شراكته مع الجانب الصيني.
حطت أقدام جو لو في مدينة الكويت في أبريل 2016، وبحسب حكم المحكمة الكلية الكويتية فإن جو لو، الذي يرتبط بعلاقة صداقة مع المتهم الثاني حمد الوزان منذ فترة الدراسة الجامعية، كان قد دخل الكويت بتأشيرة صادرة من صباح جابر المبارك (المتهم الأول). واجتمع الاثنان بحضور بشار كيوان (المتهم الرابع) في مزرعة صباح جابر المبارك بالعبدلي، وخططوا جميعًا لغسل الأموال المستولى عليها من الصندوق السيادي الماليزي داخل الكويت.
تبييض فندق بارك لين في نيويورك
اتخذ المتهمون من مبادرة الحزام والطريق الصينية غطاء لإعلان شراكة استراتيجية بين الكويت والصين في مجالات متعددة. وكانت شركات صينية قد وافقت على الاشتراك في مخطط جو لو والمشاركة في العملية نظير حصولها على عقود لمشاريع بنية تحتية في ماليزيا. سافر صباح جابر المبارك إلى شانغهاي تحت غطاء دبلوماسي وبحضور ممثلين عن الحكومة الكويتية لإعلان الشراكة.
إلا أن اللقاء في شانغهاي كان غطاء لعمل آخر، إذ قال بشار كيوان لموقع ساراواك إن إحدى غرف الاجتماعات شهدت توقيع أوراق شراء حصة جو لو في فندق بارك لين نيويورك من قبل مجموعة الوسيط الدولية، وإعادة بيعها مباشرة إلى مجموعة جرينلاند الصينية بغرض حماية الأصل من التجميد القضائي المرتقب. وكان المتهم الأول صباح جابر المبارك قد أكد في تحقيقات النيابة العامة لقاءه بجو لو في شانغهاي، تلبية لدعوة من شركة جرينلاند الصينية لتوقيع مذكرة تفاهم مع شركة الوسيط إنترناشونال، التي يمتلك حصة 20% فيها.
سداد فواتير جو لو في سبتمبر 2016
كانت عملية تبييض حصة جو لو في فندق بارك لين بمثابة فتح الباب للتعاون بينه وبين الشيخ صباح جابر المبارك، والذي بحسب موقع ساراواك خاطب في يونيو 2016 مكاتب Kim & Kobre وGibson Dunn & Crutcher للمحاماة، ومكتب Schillings المتخصص في إدارة السمعة، ليخبرهم بنيته سداد فواتير صديقة جو لو السابقة والمستقبلية، بعد أن كان يجد صعوبة متزايدة في نقل المليارات حول النظام المصرفي العالمي من أجل دفع ثمن الخدمات وإجراء استثماراته.
بدأت الأموال المختلسة بالتدفق إلى حسابات بنكية في الكويت في سبتمبر 2016، وذلك بعد تعيين الشركات الصينية كمقاول رئيسي لمشروع قطار السكة الحديد الكهربائية ومشروع خط أنابيب النفط في ماليزيا. وحولت شركة ترو دراغون التابعة لشركة المقاولات الصينية CCC مبلغ 450 مليون يوان صيني (21 مليون دينار) إلى حساب شركة كومورو الخليج للتجارة العامة والمقاولات (المملوكة لصباح جابر المبارك وبشار كيوان) لدى البنك الصناعي والتجاري الصيني (ICBC) فرع الكويت.
وذكرت تحقيقات النيابة العامة الكويتية أن المبلغ المحول لصالح كومورو الخليج على أنه عمولة مفروضة عن عقد توريد مادتي البيتامين والفولاذ، قد أُعد زورًا ودون أن تقابله أي أعمال حقيقية، مضيفة أن الصباح وكيوان حولا من حسابات شركة كومورو من وإلى شركات في دول الكيمان وموريشيوس وجزر البهاما وسيشل وهونغ كونغ والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية ومكاتب محاماة، وغيرها من الأعمال الخاصة بجو لو.
في ذلك الحين صدر إعلان المدعي العام الأمريكي بملاحقة جو لو، وانكشف مخطط الاختلاس من الصندوق السيادي الماليزي أمام العالم، إلا أن ذلك لم يمنع جو لو وشريكه الاستراتيجي الجديد صباح جابر المبارك من تداول الأموال الملوثة وتبييضها، لتغطية ما يمكن تغطيته من اختلاسات وسداد الديون المستحقة على الأطراف.
شراء أرض Air Itam في ماليزيا دون إكمال أوراق الملكية في أغسطس 2017
بحسب موقع سارواك، خاطبت السلطات الماليزية وحدة التحريات المالية الكويتية في يونيو 2018 للتحقق مما إذا كان المبارك قد اشترى أرضًا مملوكة للصندوق الماليزي في أغسطس 2017. وليس ذلك فحسب، بل قدم البنك الصيني في الكويت أربعة بلاغات في 2017 و2018 و2019 إلى وحدة التحريات المالية أيضًا، تتعلق بتضخم حساب الشيخ صباح المصرفي، وذلك بحسب ما ذكرته الجزيرة في تقرير لها.
ويكشف تحقيق وحدة التحريات كما تضمنه حكم المحكمة عن تأسيس المحامي سعود عبد المحسن (المتهم الثالث) شركتين في الكويت، هما شركة الأصباح العالمية للتجارة العامة وشركة المنيرتين للتجارة العامة برأس مال ألف دينار فقط، وذلك بموجب توكيل من المتهم الأول.
وأشارت التحقيقات إلى تحويل شركة ملتي ستراتيجيك إنفستمنتس ليمتد (MSIL) التابعة لشركة المقاولات الصينية مبلغ 7.2 مليار يوان صيني (343 مليون دينار) إلى حساب شركة الأصباح العالمية للتجارة العامة المملوكة بالكامل للشيخ صباح جابر المبارك، على أنها عمولة عن عقد استشارات، والذي بدوره عمل على تبييضها عبر عدد من الحوالات بين حسابات أخرى يديرها، بالشراكة مع حمد الوزان (المتهم الثاني) وسعود عبد المحسن (المتهم الثالث).
إحدى تلك الحسابات كان لشركة أوفشور تحمل اسم Silk Road Southeast Real Estate LTD، وهي التي حولت 4.2 مليار يوان صيني (200 مليون دينار) إلى حساب شركة سنتوهان بودي مان (Sentuhan Budiman Sdn. Bhd) المملوكة للحكومة الماليزية. وقد ذكر المتهم الثالث سعود عبد المحسن في التحقيق أنه هو من وقع على عقد شراء أسهم من وزارة المالية الماليزية في أكتوبر 2017 بصفته ممثلًا للشركة. وقد أوضح السيد توني باو عضو مجلس الشعب الماليزي في الندوة التي نظمتها الجمعية الكويتية لحماية المال العام أن المبلغ انتقل بعد ذلك لحساب شركة إيبيك في أبو ظبي لسداد ديون الصندوق الماليزي جراء إصدار سندات في العام 2013.
أما المبلغ المتبقي والبالغ 143 مليون دينار تقريبًا، فقد كشفت تحقيقات النيابة أن صباح جابر المبارك حوله إلى حسابات عديدة داخل الكويت وخارجها. وفي محاولة منه لتمويه مصدر الأموال، تعاون الصباح مع الوزان لاستغلال حساب شركة المنيرتين للتجارة العامة التي يملك الأخير تفويضًا بإدارتها، وإجراء عدد من التحويلات من وإلى الحساب لشركات خارج الكويت، يُعتقد أن بعضها وهمي. وبين الحكم أيضًا تحويل الشيخ صباح الملايين إلى حساباته الشخصية لشراء يخت وطائرة خاصة وسيارات ومجوهرات، وأيضًا لصب أموال في حسابات أبنائه. وجاء في الحكم أن حمد الوزان تلقى 14 مليون دينار باعترافه الشخصي، دفعها له الشيخ من الأموال الماليزية المسروقة نظير استشارات وبحوث استثمارية.
وقررت المحكمة حبس كل من صباح جابر المبارك وحمد الوزان وبشار كيوان وجو لو 10 سنوات، وحبس المحامي سعود عبد المحسن 7 سنوات، وإلزامهم برد مليار دولار، وتغريمهم مجتمعين مبلغ 145 مليون دينار كويتي في حكم أول درجة. والجدير بالذكر أن المتهمين الثلاثة الكويتيين موجودون في الكويت لتنفيذ الحكم، بينما غادر بشار الكويت إلى فرنسا (التي يحمل جنسيتها) بعد خلاف مع صباح جابر المبارك عام 2017. أما جو لو العقل المدبر لعملية الصندوق الماليزي فقد توارى عن الأنظار منذ عام 2016، ويُعتقد أنه يتمتع بحماية من السلطات الصينية.