من الملفت للنظر أن حقوق المرأة تطورت بشكل كبير في الـ50 عامًا الأخيرة، في مختلف دول العالم، فقد حصلت على حق التصويت في كثير من البلاد، وبدا أن حياتها تحسنت اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، إلا أنه يمكن أن تصاب بالذهول عندما تعلم أن الرابطة الأمريكية للتلفزيون مثلًا منعت حملة إعلانية بسبب حديثها عن فترة الحيض، بل ومنعت استخدام كلمة «مهبل» في الإعلان نفسه.
«إنفلونزا النساء»، «البيريود»، تعبيرات تُستخدَم لتجنب الحديث في الموضوع الحَرِج: الدورة الشهرية، الحيض. لكن الوقت قد حان للحديث صراحة ومباشرة عن تلك الوظيفة البيولوجية الواضحة في جسم الإنسان.
بينما تقرأ هذا الموضوع اليوم، هناك ما يقرب من 800 مليون امرأة على مستوى العالم لديهن دورة شهرية، لم يكن لأحدنا أن يوجد دون وجودها. ورغم ذلك تبقى الدورة الشهرية واحدة من محظوراتنا البيولوجية العنيدة. يناقش معظم الكتاب والمذيعين ببساطة مسائل مثل الدورة الدموية، والهضم، وكل تلك العمليات الطبيعية، بينما لا تزال مسألة الدورة الشهرية خارج التداول.
الكاتبة «جيني هامبتون»، التي ألفت عددًا من الكتب عن الصحة في إفريقيا، تناقش في مقالها على موقع «Aeon» أشكال التعامل مع الدورة الشهرية في الإعلام الأمريكي والعالمي، وتعرض طريقة التعامل معها عبر التاريخ، وكيف كانت النساء تحاول الحفاظ على صحتهن في وقت لم يجدن فيه كثيرًا من الأدوات المتطورة والصحية الموجودة الآن.
أساطير ومحاذير عن ثابت شهري
أحيطت عملية الحيض بأساطير كثيرة، فاعتقد بعضهم أن تأخر مجيئه يسبب عدم استقرار الرحم ويُنتج سلوكيات شاذة، من الشتائم العنيفة إلى الاكتئاب الانتحاري.
يشترك الإنسان مع عدد من الثدييات في وجود الدورة الشهرية كثابت بيولوجي، غير أن الدورة الشهرية في أنثى الإنسان استثنائية بعض الشيء، ذلك أنه عندما يعمل هرمون الأوستروجين والبروجسترون معًا ليحفزا عميلة الإباضة يذهب الدم إلى الرحم ليجعل من بطانته شيئًا أقرب إلى الإسفنجة المغذية، وحينها يمكن للبويضة إذا كانت مخصبة أن تترسخ وتتطور لتصبح طفلًا بعد ذلك. أما إذا لم يحدث الحمل، أي لم تخصب البويضة، فإن بطانة الرحم الإسفنجية تتفكك، وتترك الجسم عبر المهبل، وهو ما يسمى فترة الحيض أو الدورة الشهرية.
على عكس الكلاب مثلًا، إذ لا تستطيع بطانة الرحم الكثيفة إعادة استيعاب الدم مرة أخرى، وبدلًا من ذلك، يخرج ما قدره 15 ملعقة شاي صغيرة في فترة الحيض في عدة أيام. والحال أن شراء واستخدام منتجات الدورة الشهرية غير مناسب لأغلب النساء، والتخلص من كل الفوط الصحية والسدادات القطنية مشكلة بيئية متزايدة بالنسبة إلى العالم.
تتفق أدبيات الدورة الشهرية على أن فترة الحيض العادية تحدث كل 28 يومًا، يمكن أن تكون أطول أو أقصر، أو أن تكون غير منتظمة عند بعض النساء.
لفترة طويلة جدًّا على مدار التاريخ، كانت النساء تحمل وتنخرط في عملية الرضاعة أغلب أوقات حياتها، كانت هذه الأوقات صعبة بالنسبة إليهن، أضف إلى هذا نظام التغذية السيئ، والعمل المتواصل الذي كان سِمة القرن العشرين. كان معدل الحيض في القرن المنصرم عند بلوغ الفتاة 12 عامًا، لكن معظم الفتيات لا تصل إلى فترة حيضها الأولى حتى سِن 17 أو 18 عامًا.
أحيطت عملية الحيض بكل أنواع المحظورات والأساطير، ذلك أن اليونانيين القدماء اعتقدوا أن تأخر مجيء الحيض للفتاة سيسبب تراكم الدم حول قلبها، وعدم استقرار الرحم في جسمها، ما سينتج عنه سلوكيات شاذة، بداية من الشتائم العنيفة إلى الاكتئاب الانتحاري. وفي القرن العشرين، يُعزى أي سلوك غير مناسب أو أي فقر في الصحة العقلية للمرأة إلى المصطلح «هيستيريا» (Hysteria) المأخوذ من المصطلح اليوناني القديم للرحم« Uterus».
يحذِّر «بلينيوس الأكبر»، الذي توفي عام 79 من الميلاد، من أن المرأة إذا جرّدت نفسها عارية حينما تكون في فترة الحيض، وسارت بجوار حقل القمح، فإن اليساريع والديدان والخنافس، وحشرات كثيرة أخرى، ستسقط من عيدان الذرة، والنحل يتخلى عن خلاياه إذا لمسته امرأة حائض، والكتان المغلي في القدر يتحول إلى اللون الأسود، وموس الحلاقة يصبح ضعيفًا. كان بلينيوس يعتقد كذلك أن تناول دم أحد المصارعين يشفي داء الصرع.
كتبت القديسة «هايدغارد بنجين» (1098-1179) أن الجذام، الذي كانت تؤمن بأن المرء يصاب به نتيجة الشهوة العالية أو الإفراط في تناول المشروبات الروحية، يمكن أن يعالَج بالاستحمام بعينات معينة من دم الحيض كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
كذلك رفضت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر أن تتقدم المرأة خلال الدورة الشهرية للتناول من القربان المقدس الذي يمثل جسد المسيح، ورأت أنها فترة نجاسة، على الرغم من أن المسيح سمح لامرأة تنزف دمًا بأن تلمسه.
تطالعنا كتب الفقه الإسلامية بالأحكام التي تخص المرأة خلال فترة الحيض، إذ يحرُم عليها ممارسة العبادات، والطقوس، وأن لا تمس القرآن أبدًا طوال فترة حيضها، بل ويصل الأمر بالنسبة إلى كثيرين إلى تحريم جلوسها في المسجد أو لمس أي شيء فيه خلال فترة الدورة الشهرية، وبالطبع يحرم على الزوج لمسها أو إقامة أي علاقة معها، ويجب عليه دفع كفارة إذا أقام علاقة مع زوجته.
في القرون الوسطى كان يُعتقَد أن عضو الرجل سيحترق إذا لامس دم الحيض، وإذا وافقت فترة حمل الطفل وقت الحيض عند امرأة ما تسكن في نفس البيت، فإن هذا الطفل يمكن أن يكون شيطانًا أو مشوهًا، وكانت المرأة التي ينتابها تدفق كثيف للحيض تُنصح بأن تربط شعر رأس حيوان بشجرة يافعة، وإذا فشل ذلك يمكن أن تتناول نباتًا معينًا بينما تردد صيغًا رقمية محددة، أو أن يكون عليها أن تجد ضفدعًا، وتحرقه جافًّا، ثم تضع رماده في جراب حول وسطها.
اقرأ أيضًا: شرفي ليس بين قدميّ وعضوي ليس ثقبًا أسود: فن نسوي في مجتمع ذكوري
كيف تعاملنا مع الدورة الشهرية في العصر الحديث؟
«لماذا يستثمر أحد في مشروع يعلم أن نصف سكان العالم فقط سيستخدمونه؟».
حتى 1985، لم تكن الكلمة «دورة شهرية» قد استخدمت بعد في الإعلانات التجارية التي كانت تظهر في التلفزيون، وفي عام 2010 منعت رابطة تلفزيون أمريكا حملة إعلانية من استخدام كلمة «مهبل» أو حتى «بين الفخذين». وحتى يومنا هذا لا تزال الإعلانات تستخدم سائلًا أزرق غامضًا بدلًا من الدم، في إشارة إلى قوة امتصاص المناشف الصحية.
عندما وضعت الشاعرة الكندية «روبي كور» صورة لها عام 2015 بملابس كاملة وبقعة دم على بنطالها، حذفها موقع إنستغرام مرتين. وتقول الكاتبة «ميشيل هانسون» في مقال لها في صحيفة الغارديان: «الدم جيد في أفلام الرعب، لكنه يصير محظورًا عندما يندلق من مهبل المرأة».
صحيح أن المواقف تتغير، لكن ببطء. في أولمبياد عام 2016 في ريو دي جانيرو، توضح الكاتبة «جيني هابتون» أن السبّاحة الصينية «فو يوهاني» أذهلت الإعلام عندما أكدت أنها كانت تسبح في فترة دورتها الشهرية. كان رد الفعل على تصريحها متباينًا، لكن المذهل أنه لم يكن كثير من المشجعين الرياضيين الصينيين يعلمون أنه من الممكن لامرأة أن تسبح في فترة دورتها الشهرية.
في عام 2017 عززت شبكة الإذاعة البريطانية «BBC» ذلك المحظور عندما سأل «إيفن دافيزن»، مقدم برنامج «Dragons’ Den»: «لماذا يستثمر أي شخص في مشروع مناشف صحية وهو يعلم تمام العلم أن نصف سكان العالم فقط سيستخدمون منتجه؟»، بحسب المقال.
عندما انضمت بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي عام 1973، وافق السياسيون الرجال على أن منتجات الحيض ليست من المنتجات الأساسية، على عكس منتجات الأطفال «الحفاضات» وماكينات حلاقة الرجال، وحتى المروحيات، التي كانت معفاة من الضرائب.
وفي 2014 رفعت «لورا كوريتون» دعوة عريضة لإلغاء الضرائب على المنتجات الصحية، وكتبت أن «الدورة الشهرية ليست رفاهية، يمكننا أن نتوقف عن التبذير في أمور أخرى غير مهمة، أو في التعامل مع السلع غير الأساسية، لكن المرأة لا تختار الدورة الشهرية». وبعد توقيع 320 ألف مواطن بريطاني على تلك الدعوى، اتخذ رئيس الوزراء «ديفيد كاميرون» قرارًا بإلغاء الضرائب على المنتجات الصحية الخاصة بالمرأة.
تذكّر: نحن نتحدث عن عام 2014.
في أستراليا كذلك، تقول الكاتبة، انطلقت حملة لإلغاء ضريبة 10% التي تُستقطَع من المنتجات الصحية، وفي أمريكا هناك 11 ولاية فقط لا تفرض ضرائب على المنتجات الصحية، بينما تجني ولاية كاليفورنيا نحو 20 مليون دولار سنويًّا نتيجة فرض الضرائب على منتجات المرأة الصحية.
أعلنت الأمم المتحدة في 2014 أن 28 مايو من كل عام سيكون يومًا عالميًّا لـ«التوعية بحق المرأة في استعمال الفوط الصحية والنظافة من دماء الحيض»، واختير اليوم لأن متوسط فترة الحيض خمسة أيام في إشارة إلى شهر مايو، ويحدث كل 28 يومًا. لكن لماذا استخدمت منظمة الأمم المتحدة كلمة «نظافة»؟ هل ما زالت تعتقد ونحن في القرن الـ21 أن الدورة الشهرية نجسة؟ ترى الكاتبة أن من الأنسب استخدام كلمة «اليوم العالمي للدورة الشهرية».
التناقض الكبير في موضوع الدورة الشهرية يمكن أن يكون إثباتًا للأنوثة أو الخصوبة، ويمكن أن يكون مصدرًا للعار أو الإزعاج. في الفترة الحالية، تطورت حياة كثير من النساء اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، وعلى الرغم من أن نساء العصر الحديث أكثر راحة جسمانيًّا بالتأكيد خلال فترة الحيض، فإننا لا نزال نصاب بالإحراج عندما نتحدث عن ذلك الجزء الطبيعي من حياتنا.