في 26 أكتوبر، كتبت «لجين الهذلول» تغريدة أشارت فيها إلى التجربة الآيسلندية في الحراك النسوي عام 1975، والتي تركت أثرها الكبير في الاقتصاد والمجتمع الآيسلندي منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا.
متابعو الناشطة السعودية يعلمون أن لها آراءً سياسية معارضة للحكومة في القضايا الاجتماعية المتعلقة بالمرأة السعودية وموقفها الشهير مع موضوع القيادة. بذكرها لهذه التجربة في التغريدة إياها، تكون «لجين» قد أحيت ذكرى التظاهرة الآيسلندية في محاولة لإجراء مقارنة غير مباشرة مع الحراك النسوي السعودي ضمن هاشتاغ #٢٦_سنة_مطالبة_ بقيادة_المرأة.
ولكن ما المعايير التي تحدد مدى نجاح حراك سياسي أو فشله؟ وهل ينجح مشروع استنساخ النموذج الآيسلندي في المجتمع السعودي؟
ماذا حدث في آيسلندا؟
حصلت المرأة في آيسلندا على حقها الانتخابي لأول مرة عام 1915، منذ ذلك الوقت وحتى عام 1975، تمكنت تسع سيدات فقط من دخول البرلمان الآيسلندي، أي 5% من مجموع مقاعد البرلمان بالمقارنة مع 16% و23% في الدول الإسكندنافية الأخرى. أغضب ذلك الضعف السياسي لدور المرأة الحركات النسوية المُطالبة بإشراك النساء في شؤون الدولة مناصفةً مع الرجل، وقاد ذلك الحراك جماعة رائدة في الدفاع عن حقوق المرأة تسمى «ريد ستوكينغز» الآيسلندية، التي اقترحت إضراب النساء عن العمل وتسجيل موقف معارضة رسمي.
لم تنشر الصحف الأخبار في ذلك اليوم؛ لخروج العاملات من المطابع.
لكن الاقتراح قوبل بالرفض من قبل النساء الآيسلنديات المحافظات، وبخاصة الأكبر سنًا منهن، بحجة أن الاعتراض المباشر بهذا الشكل المبالغ فيه يمثل عداءً للنظام الحاكم، فاتجهت «ريد ستوكينغز» للتركيز على حقوق النساء العاملات في بيئة العمل ومعاناتهن مع فجوة الأجور بين الجنسين التي بلغت 60% في 1975، كما ناقشت «ستوكينغز» معاناة ربات المنازل مع قوانين الدولة التي لا تلقي لهن بالًا للفوز بانتباه الأغلبية النسائية، وأخيرًا استجابت النسوة لهذا الحراك وقررن تلقين الدولة درسًا في أهمية دور المرأة.
اقرأ أيضًا: هُنا مجلس رجال: رحلة المرأة في المشهد السياسي الكويتي
زاد الطلب على النقانق في هذا اليوم؛ لأنها وجبة الأطفال المفضلة الأسرع طهوًا.
وبالفعل خرجت 90% من مجموع النساء الآيسلنديات في يوم 24 أكتوبر 1975 إلى الشوارع للهتاف بحقوقهن المسلوبة، تاركات وظائفهن الرسمية وواجباتهن المنزلية، معتليات المنصات والمنابر للمطالبة بالإنصاف في الأجور وتحقيق المساواة الاجتماعية بين الجنسين. سببت تلك التظاهرة صدمة كبرى لجميع قطاعات الدولة؛ فأغلقت على إثرها البنوك، والمصانع، والمدارس، وبالطبع لم تنشر الصحف الأخبار في ذلك اليوم؛ لخروج العاملات من المطابع.
حتى الأزواج لم يتمكنوا من التأقلم مع إضراب زوجاتهم عن القيام بشؤون المنزل من طبخ وتنظيف ومتابعة الأطفال، فأخذ البعض أبناءهم إلى مكان العمل ومعه دفاتر التلوين والألعاب، كما زاد الطلب على النقانق في هذا اليوم؛ لأنها وجبة الأطفال المفضلة الأسرع طهوًا، وسميت هذه التظاهرة بـ«يوم خروج النساء من العمل».
تقول «فيغديس فينبوغادوتير» (التي شغلت منصب أول رئيسة في آيسلندا) عن هذا الموضوع: «إن ما حصل في يوم خروج النساء من العمل كان الخطوة الأولى في تحرير النساء في آيسلندا. لقد نجح إضراب النسوة في شل نظام البلد تمامًا وفتح أعين كثير من الرجال».
تلخص «فيغديس» في المقابلة التالية التحول الذي طرأ على مسار آيسلندا السياسي نتيجة للحراك النسوي الذي بدأ عام 1975 وشاركت فيه بالتظاهر أولًا ثم إدارة الدولة لاحقًا من عام 1980 إلى 1996، حتى وصلت آيسلندا إلى الدولة الأولى من ناحية حقوق النساء على مستوى العالم.
أين وصلت آيسلندا الآن؟
آيسلندا هي أكثر دولة نسوية في العالم.
بعد إضراب الآلاف من النساء عن العمل وهتافهن في شوارع العاصمة «ريكيافيك» بضرورة الحصول على كامل حقوقهن القانونية، تحولت مجموعة المطالبات التي خرجن لأجلها إلى تغييرات جذرية أثرت في سياسة المدى الطويل لآيسلندا. ففي العام نفسه، تمت الموافقة على تشريع قانون لإعطاء النساء العاملات إجازة أمومة لمدة ثلاثة أشهر، كما شُرِّعت عدة قوانين تختص بالإجهاض وصحة الأم بشكل عام. وفي السنة اللاحقة، شكلت آيسلندا مجلس المساواة بين الجنسين، الذي أصدر بدوره قانون المساواة عام 1976، فحظر التمييز بين الجنسين في أماكن العمل والمدارس.
في عام 1980، أصبحت «فيغديس فينبوغادوتير» أول رئيسة دولة منتخبة ديمقراطيًا بأغلبية ساحقة في العالم، وترأست البلاد 16 عامًا عملت فيها على تحسين وضع المرأة، لتصبح بعدها آيسلندا أكثر دولة نسوية في العالم، وتنجح في تشريع قانون يمنع المتاجرة بالعري بأي صورة كانت؛ فقد تم إغلاق النوادي الليلية التي تتاجر بأجساد النساء، وهو ما اعتبرته دول أوروبية مثل بريطانيا أمرًا شبه مستحيل؛ إذ تعتبر من الصناعات التي تدر ربحًا كبيرًا على البلاد.
أما فيما يتعلق بفجوة الأجور التي ابتدأت الحراك في الأساس، فإن آيسلندا اليوم تترأس قائمة الدول التي تمتلك أقل فرق في الأجور بين الجنسين (20%)، وفقًا للتصنيف العالمي لفرق الأجور بين الجنسين (Global Gender Gap Index) لعام 2016.
هل حقًا يمكننا المقارنة؟
بالعودة إلى التغريدة التي بدأنا بها هذا المقال، ما مدى ملاءمة هذه التجربة للمجتمع السعودي؟
في أحيان كثيرة تخضع تصرفات الذكور والإناث للقيود التي توارثها المجتمع السعودي منذ ما يبدو كأنه الأزل.
من الواضح أن هناك اختلافًا جذريًا بين المجتمعين من ناحية ديناميكية العلاقة بين الجنسين، والتاريخ الاجتماعي في تطور الأفراد والجماعات، وثوابت المجتمع التي تلتزم بها كافة فصائله.
الأعراف والتقاليد تلعب دورًا أساسيًا في المجتمعات العربية عمومًا والسعودية تحديدًا، وفي أحيان كثيرة تخضع تصرفات الذكور والإناث للقيود التي توارثها المجتمع السعودي منذ ما يبدو كأنه الأزل.
أضف إلى ذلك أن المرأة السعودية بالذات لا تملك حرية التصرف ولا الاختيار، هي تخضع لسلطة الولي، أو الوصي الذكر، في أي قرار مصيري يتعلق بها، سواء أكانت ترغب في الالتحاق بوظيفة، أو السفر للخارج، أو الزواج، أو الحصول على رعاية صحية، أو حتى عند تسريحها من السجن، هي تحتاج موافقة رسمية من الوصي الذكر، فَلِكَي نقارن بين المجتمعين السعودي و الآيسلندي، وجب علينا أن نجد أساسًا مُقارِبًا وأوجُه تشابه معينة، وهذا الأمر شبه معدوم.
تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش» اختصر المعاناة النسوية السعودية بهذا الاستنتاج: «ما لم تلغ السعودية نظام ولاية الرجل بالكامل، ستبقى مخالفةً التزاماتها الحقوقية، ولن تستطيع تحقيق رؤية السعودية 2030 المستقبلية التي أعلنت فيها النساء، اللاتي يشكلن نصف السكان تقريبًا، عنصرًا مهمًا من عناصر القوة، وستتم تنمية مواهبهن لصالح المجتمع والاقتصاد».
ماذا سيحدث لو افترضنا تطبيق النظام الآيسلندي في المملكة؟
لنفترض أن مظاهرة «خروج النساء من يوم العمل» طُبِّقت في المملكة بوضعها الحالي، ماذا سيحدث؟
النتيجة ستكون كارثية جدًا، وهذه هي الأسباب:
- لم تدخل المرأة السعودية في سوق العمل إلا مؤخرًا، مع ذلك لا يزال خروجها يلقى الرفض من قبل بعض الفصائل المعادية لعمل المرأة المستقل؛ بحجة الاختلاط والفتن ونشر الفساد. لذا، فإن إضرابها عن العمل لن يخدم قضيتها بل سيشكل هدية من السماء لأولئك الذين يُمنون أنفسهم بفشل المرأة وعدم قدرتها على تحقيق أهداف سوق العمل والقطاع الخاص.
- توقف المرأة عن العمل يستدعي استبدالها بكوادر محلية على أهبة الاستعداد للعمل في اللحظة نفسها (أي الذكور في هذه الحالة)، وهو ما قد يكون خطوة للوراء بالنسبة للحركة النسوية السعودية، وبخاصة أن البلاد بحاجة إلى تكافؤ نسبة النساء العاملات في مقابل الرجال وليس العكس.
- خروج ربات المنازل من بيوتهن للإضراب سيكون أمرًا مرفوضًا من قِبَل الأزواج وعائلات النساء المحافظات، ونحن بحاجة إلى حل أكثر ملاءمة لطبيعة التيارات المحافظة بالتأكيد، ولسنا بحاجة إلى تأجيج الأوضاع وتعقيدها.
دعونا نفكر في حلٍ أكثر واقعية
أخيرًا، ما زال بوسعنا الاسترشاد بنموذج الحراك النسوي الذي أشارت له «لجين»، ولكن في الوقت نفسه يجدر بنا ألا نغفل ظروف المرأة السعودية؛ فالهجوم على مؤسسات الدولة والهتاف في الشوارع على الطريقة الآيسلندية قد يؤدي إلى نتائج عكسية بدلاً من تحرير عقدة المرأة السعودية التي تبقى دون حل.
نحن على مشارف 2017، ولم تخرج المرأة السعودية من سلطة الوصاية الذكورية المفروضة عليها قانونيًا. لربما كان على الدولة أن تتجاوب مع هموم المرأة على نحوٍ أكثر فاعلية، وأن تسعى لتطبيق رؤية 2030 الواعدة.
ليس بمقدوري أن أقترح الحل المثالي لأنني لا أعلمه، ولكنني متيقنة بأن الحراك النسوي السعودي الذي ظهر هذا العام بالحملات الشعبية عبر وسائل التواصل الاجتماعي هو إكمال لمسيرة حراك ابتدأتها أجيال من السعوديات في الماضي.