يقول المثل الشعبي التونسي: «إش يا ذبانة ما فمة في الدنيا كان أنا»، أي ابتعدي يا ذبابة فليس في الدنيا مثلي، في ما يفيد التفرد والاختلاف، فهل يصف هذا المثل حال تونس مقارنةً بمحيطها العربي؟
تونس المزيانة: كيف هو وضع المرأة فيها؟
«سأفرض حق المرأة وحريتها بالقانون، ولن أنتظر ديمقراطية شعب منخدع بالثقافة الذكورية باسم الدين»، هذا ما قاله الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة الذي يلقب بـ«محرر النساء» في إحدى خطبه.
يُتهم بورقيبة بأنه وجه الطغيان العلماني، إذ شهد عهده تغييرات أثارت المتشددين الإسلاميين، فقد أصدر العديد من القوانين منها مجلة (قانون) الأحوال الشخصية عام 1956، التي تضمنت منع تعدد الزوجات بصفته مهينًا للمرأة ومنقصًا لكرامتها، بحسب ما وصفه بورقيبة في أحد خطاباته.
ويتعرض الرجل الذي يطلب الزواج من امرأة أخرى لعقوبة السجن لعام كامل على الأقل، كما حددت المجلة سن زواج الفتاة بـ18 سنة، وأصبح الطلاق مدنيًّا بيد المحكمة لا الرجل، ويمكن للمرأة أن تطلب الطلاق من المحكمة دون تقديم مبررات، والأهم من هذا كله إقرار المساواة التامة بين الجنسين في الدستور التونسي.
لم يكتفِ بورقيبة بإصدار قوانين لصالح المرأة، بل بدأ بتوعية المجتمع حول ذلك، فاهتم بتعليم المرأة وتذكير النساء بأنهن لسن أقل من الرجال كما تخبرهن التقاليد البالية.
تتقدم تونس في تشريع الإجهاض على بعض الدول الغربية مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
هاجر، الفتاة التونسية، تقول لـ«منشور» إن «النساء هنا يعرفن حقوقهن، من الطبيعي أنهن لا يحفظن المجلة الجزائية ولا القوانين، لكنهن يعرفن الأُسُس التي يقفن عليها. لا يزال هناك تفاوت بين الحرية الشخصية للمرأة التي تعيش في المدينة عنها في القرى بحسب تعليم الأهل وطبقتهن الاقتصادية، فالفقر يؤدي إلى الانغلاق، لكن بشكل عام تعرف المرأة التونسية أنها مساوية للرجل وتتصرف على هذا الأساس».
وفي سبيل امتلاك المرأة في تونس لجسدها وحمايتها من الخضوع للابتزاز الجسدي، شُرِّع الإجهاض في تونس بشكل قانوني، بشرط أن لا يبلغ الحمل ثلاثة أشهر، وأن تكون هناك خشية على صحة الأم لو بقي الجنين، عدا ذلك تُعاقَب الأم بالحبس سنتين.
وتوفر المستشفيات الحكومية والخاصة الإجهاض الدوائي الآمن للأمهات الراغبات في إنهاء الحمل، في وضع استثنائي عن المحيط العربي الذي يجرِّم الاجهاض بكافة أشكاله وأسبابه ويحرمها شرعًا، ووضع تقدمي حتى على بعض الدول الغربية التي لم تشرع الإجهاض بعد، مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
اقرأ أيضًا: الإجهاض في العالم العربي: «لا أحد يرغب في الحديث عن الأطفال الميتين»
وضع المرأة التونسية متقدم في مجالات أخرى منها السياسة، وقد أُدرج مبدأ المناصفة بين الجنسين في القانون الانتخابي الذي صدر بعد الثورة على الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
فرض ذلك القانون على الأحزاب السياسية «تقديم قوائم انتخابية تتضمن أعدادًا متساوية من المترشحين من كلا الجنسين، فنتج عن ذلك انتخاب 68 امرأة من أصل 217 نائبًا في برلمان 2014، وفي يونيو 2016، تبنى البرلمان تعديلًا للقانون الانتخابي صارت بموجبه الأحزاب مُلزمةً باختيار نصف رؤساء قائماتها الانتخابية على الأقل من النساء»، بحسب تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش».
قد يهمك أيضًا: هُنا مجلس رجال: رحلة المرأة في المشهد السياسي الكويتي
ثورة الياسمين: «يا شعبنا يا باهي بن علي هرب»
منذ عام 2011، تموج المنطقة العربية بثورات وتحركات شعبية أُطلق عليها «الربيع العربي»، أشعلها جسد التونسي محمد البوعزيزي، الذي أحرق نفسه احتجاجًا على مصادرة عربة الخضراوات خاصته وصفعه من قِبل شرطية، فتوالت الاحتجاجات في تونس وانتقلت كأثر الفراشة إلى عدة دول عربية.
ورغم تعدد الثورات والتحركات الاحتجاجية العربية، إلا أن واحدةً منها لا يمكن وصفها بالنجاح سوى ثورة تونس، إذ تحول بعض تلك الاحتجاجات إلى حروب أهلية مثل ليبيا، وأخرى إلى ساحات قتال لتصفية مصالح دولية مثل اليمن وسوريا، وغيرها أُنهيت مباشرةً مثل البحرين، أو عادت كما كان عليه الوضع قبلها مثل مصر.
أما تونس، التي بدأت من عندها الموجة، فقد صمدت نحو استقرار أوضاعها في استجابة للصرخة الشهيرة التي أطلقها المواطن العجوز خلال الاحتجاجات التونسية: «لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية».
ربما يعود هذا إلى وقوف الجيش على الحياد وعدم تدخله في الصراعات السياسية، كما حدث في مصر عندما تدخل الجيش مرتين خلال الثورة، مرة كمجلس عسكري انتقالي بعد تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك، وأخرى عند عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي بعد تظاهرات 30 يونيو 2013، وذلك لِمَا للنظام العسكري المصري من تاريخ طويل من التدخل في الشؤون السياسية منذ انقلاب الضباط الأحرار أو ما يسمى بثورة يوليو، على عكس الوضع في تونس.
جنح كثير من التونسيين إلى التدين بسبب صدمة الثورة، فأطلقوا اللحى وارتدت النساء النقاب.
خلال المرحلة الانتقالية في تونس ما بعد الثورة، واجهت النخب السياسية المختلفة صراعًا أعاق الانتقال السلس للسلطة، حتى أجريت انتخابات فاز فيها حزب «نداء تونس» علماني التوجه بقيادة الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، وحل في المركز الثاني بفارق بسيط حزب «النهضة» الإسلامي الذي ينتمي دوليًّا إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهو الحزب الذي قاد الفترة الانتقالية قبل إجراء الانتخابات، برئاسة المنصف المرزوقي وزعامة راشد الغنوشي.
ورغم اعتراض بعض القيادات والمطالبة بإعلان نتائج الهيئة المستقلة للانتخابات، إلا أن الحزب أعلن اعترافه بالهزيمة وبارك للحزب العلماني فوزه، في ما أسماه الغنوشي بالتنازل خوفًا من تكرار ما حدث للإخوان في مصر عقب 30 يونيو وإدخال تونس في دوامة العسكر، كما أن التنازلات بشأن الشريعة في مناقشات إقرار الدستور الجديد تعبير عن توافق مع بقية الأحزاب، وهو ما حفظ لتونس تجربة ديمقراطية فريدة من نوعها في المنطقة.
توضح هاجر أن الشعب التونسي تعرض لصدمة بعد رحيل بن علي ووطأة حكمه العلماني، فجنح نحو التدين، وشاهدنا كثيرًا من اللحى أُطلقت، وكثيرًا من النساء ارتدين النقاب، وصوَّت عديدون لحزب «النهضة»، إلا أنه بعد زوال الصدمة عادت الأوضاع كما كانت عليه في السابق.
من أين جاء التوانسة بهذا الاختلاف إذًا؟
ربما بسبب موقعها الجغرافي الذي يصل بين قارتي إفريقيا وأوروبا، اكتسب التونسيون طباعًا انفتاحية بسبب احتكاكهم بمختلف الثقافات، وربما بسبب الحضارات التي توالت على البلد الصغير من أمازيغية وإسلامية حتى الاستعمار الفرنسي، فجعل ذلك من الثقافة التونسية خليطًا أنتج انفتاحًا، وربما هي سنوات الحكم العلماني التي أتت بعد الاستقلال، وهو ما تعبر عنه هاجر بقولها «نحن في تونس، اللي يحب يصلي يصلي واللي يحب يسكر يسكر».
يحترم معظم التونسيين الحرية الشخصية، فنسبة 81% منهم متعلمون، وتماشيًا مع تقبل الاختلاف أثمرت المطالبات بتقنين الحشيش تعديلًا على قانون المخدرات التونسي يخفف عقوبة من يُقبض عليه متعاطيًا للحشيش للمرة الأولى، في خطوة يأمل المطالبون أنها تسير بهم نحو طريق التقنين، كما تتصدر تونس الدول العربية في نسبة استهلاك الكحول.
في الوقت نفسه، فإن أعرق الجامعات المتخصصة في التعليم الديني هي جامعة الزيتونة في تونس، أول جامعة في العالم والتي تناسلت عنها جامعة الأزهر، وحافظت عبر قرون على مكانتها العلمية والدينية. وتنتشر الجوامع العريقة في كل المدن، شاهدةً على المحطات التاريخية الكبرى لتونس والمنطقة، ممَّا يوحي بتسامح كبير في الثقافة التونسية وتقبل للاختلافات كافة.
لكنها ما تزال تشبهنا: تونس الخضراء ليست جنة
رغم التفرد الذي تفخر به تونس، إلا أنها لا تخلو من المشكلات التي تتشابه فيها مع محيطها، إذ تقاضي المحاكم التونسية المثليين وتعاقبهم بالحبس بسبب ميولهم الجنسية، ممَّا يمثل انتهاكًا لحقوقهم، بالإضافة إلى تعرضهم للضرب والفحوص الشرجية القهرية في مراكز الشرطة.
اقرأ أيضًا: كل الطرق تؤدي إلى الحبس: الأبعاد السياسية لاستهداف المثليين في مصر
وتشير مؤشرات حرية الصحافة والإعلام، التي ترصدها منظمة «مراسلون بلا حدود»، إلى تراجع تونس في هذا المجال بسبب تضييقات حكومية على حرية التعبير وانتهاكات بحق الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، بالإضافة إلى تخوفات منظمة العفو الدولية من تزايد التعذيب وإساءة المعاملة والاحتجاز بشكل قسري من الأمن التونسي.
لا يجب أن تشوه المشكلات وجه تونس الجميل، ولا أن يترك التونسيون ياسمينتهم تذبل.
بينما تنطلق تونس إلى الأمام في حقوق متقدمة للغاية للنساء، فإنها لا تزال تعاني مشكلات لم تجد لها حلًّا.
لا تتساوى المرأة التونسية مع الرجل في الميراث، بالإضافة إلى أن 45% من النساء التونسيات يتعرضن لعنف جسدي في محيطهن الأسري، سواءً نساء المدينة أو الأرياف، كما أن 15.7% منهن يتعرضن للعنف الجنسي ما بين الاعتداء والاغتصاب والتحرش والابتزاز، و78% من التونسيات يتعرضن لعنف اقتصادي يتراوح بين عدم المساواة في الأجور والتسريح وسوء ظروف العمل، وبعض الحالات تعاني ممَّا يشبه العبودية.
ممَّا يؤسَف له أنه رغم الانفتاح وثقافة التسامح في تونس، إلا أن هناك ما يقارب سبعة آلاف مقاتل تحت لواء «داعش» يحملون الجنسية التونسية، وهو رقم لا يستهان به أبدًا.
لا يجب أن تشوه هذه المشكلات وجه تونس الجميل، ولا أن يترك التونسيون ياسمينتهم تذبل، بل عليهم أن يعملوا على تقديم حلول لتكون تونس المنارة التي يُشار إليها لتضيء الطريق لبقية دول المنطقة، وأن تسعى لخلق نموذج تقدمي مشابه للنموذج التونسي، نموذج ساعٍ نحو الحرية والعدالة والمساواة والتسامح، لا يخضع فيه فرد للاضطهاد ولا الكراهية ولا العنف، حتى يصدح الجميع مرددين ما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش: «كيف نُشفى من حب تونس؟».