ما الذي يجعلك «أنت»؟ قد يبدو سؤالًا ساذجًا، لكن فكر فيه. هل ستكون نفس الإنسان لو قابلت أشخاصًا مختلفين في حياتك؟ هل ستكون نفس الشخص لو ولدت في بلد أفقر، أو تلقيت تعليمًا أفضل؟ الكثير منَّا قد لا تخطر بباله أسئلة كهذه، غير أن الفلاسفة وعلماء النفس عكفوا عليها طويلًا، وباتوا الآن أقرب إلى الإجابة أكثر من أي وقت مضى.
وفي مقاله على موقع «High Existence»، يطرح الكاتب «سام برينسون» خمس أفكار ستجعلك أنت نفسك تتساءل: «من أنا؟»، وما إن كان عقلك أم جسدك أم الاثنان معًا يشكلان شخصيتك.
1. إشكالية الانتقال الآني: هل هي خلايا الجسد؟
واحدة من التجارب الفكرية المثيرة في هذا الإطار هي ما يسمى «الانتقال الآني»، أي إمكانية الوصول إلى مكان آخر دون سفر، وهي فكرة رأيناها في كثير من أفلام الخيال العلمي مثل سلسلة «Star Trek»، فلو تخيَّلنا أننا اخترعنا وسيلة انتقال يمكنها أن تمسح ذرات جسمك بالكامل، ومن ثَمَّ تفتتها وتركبها مجددًا في مكان آخر، فهل ستظل أنت نفس الإنسان؟
لنَقُل إنه سيُعاد تركيبك مرة ثانية ولكن باستخدام جزيئات أخرى على أن تكون لك نفس الملامح الجسمانية، فهل ستظل حينها الشخص نفسه؟ أو لنقل مثلًا إنك ستبقى على الأرض كما أنت، لكن نسخة مطابقة لك ستكون في مجرة أخرى، وهي تطابقك في كل شيء عدا أنها موجودة في مكان آخر، فهل سيكون ذلك شخصًا آخر؟ ما الذي يجعلك أنت «أنت»؟ هل هو الشكل الخارجي والأعضاء، أم الروح، أم العقل؟
قد يهمك أيضًا: كيف يفتح الوعي بوابة الرعب؟
2. أيهما سيارتك؟ أيهما ذاتك؟
ليس «الإدراك» و«الذات» إلا وهمًا فقط.
لو كانت لديك سيارة وغيرت كل عجلاتها، فهل ستبقى نفس السيارة؟ ماذا إذا غيرت المقاعد كلها ومن بعدها النوافذ، ثم الفرامل والمحرك وكامل هيكل السيارة، وكذلك مكوناتها الأصلية؟ وماذا لو أخذت كل قطع السيارة الأصلية تلك وركَّبتها معًا، أيهما ستكون الأصلية؟
إذا ما تبدَّلت كل خلايا جسمك بأخرى جديدة، ثم نجحنا بطريقةٍ ما في تركيب خلاياك القديمة لتكوين الشخص الذي كنتَه منذ 10 سنوات، فمَن مِن الشخصين سيكون أنت؟
ليس «الإدراك» و«الذات» إلا وهمًا، وفق برينسون، فإدراكك يبدو كحالة مستمرة لا تتغير، غير أنها ليست كذلك، فأنت ما تلبث أن تتبدل كل لحظة، ومع كل تغيير في خلاياك وذاكرتك تكون شخصًا جديدًا، تموت ويُعاد إحياؤك في كل لحظة، فالشخص الذي ستكونه بعد جزء من الثانية هو آخر غيرك، وحينما تستيقظ من نومك في اليوم التالي ستكون شخصًا آخر كذلك.
3. هل الجسد والعقل منفصلان؟
من فقدوا أحد أطرافهم يشعرون أنه لا يزال موجودًا، بل ويحسُّون بألم فيه.
يعرض برينسون بعض التجارب العلمية التي تزيد من حيرتنا حول من نكون. هناك تلك التجربة المعروفة باسم خدعة اليد المطاطية، وفيها يضع الشخص محل التجربة إحدى يديه على منضدة لكنها تكون محجوبة عن رؤيته، وفي الوقت نفسه تكون أمامه مباشرة يد مطاطية، ثم يمسح الشخص الذي يُجري التجربة بفرشاة على أصابع اليد الحقيقية التي لا يراها صاحبها وعلى اليد المطاطية، في الوقت والمكان نفسه وبالسرعة والحركات ذاتها.
بعد دقائق سيشعر الشخص محل التجربة كأن اليد المطاطية يده الحقيقية، وسيُهيَّأ إليه أن لمسات الفرشاة عليها تلامس يده، فقد حدَّث عقله بياناته واعتبر اليد المزيفة يده فعلًا بناءً على ما رأته العينان، لذلك حين يضرب أحدهم بمطرقة على اليد المطاطية أمامه، سيفزع كما لو كانت يده الحقيقية.
ثمة موضوع بحثي مثير يتعلق بما يسمى ألم الأطراف الوهمية، وهو شعور يغامر الأشخاص الذين فقدوا أحد أطرافهم في حادث أو نتيجة عملية بتر بأن الطرف المفقود ما زال موجودًا، بل وقد يشعرون بألم في ذلك الطرف، لأن أطراف الأعصاب ترسل إشارات بالإحساس بالألم، ممَّا يجعل العقل يعتقد أن الطرف لا يزال موجودًا.
كذلك، هناك تجارب الخروج من الجسد، التي يشعر فيها الشخص كأنه طافٍ خارج جسده، وربما يتطلع إليه من أعلى أيضًا، وقد تحدث نتيجة صدمات عقلية شديدة أو بسبب الإشراف على الموت (كما في الجراحات الكبرى أو عند الغرق) وغير ذلك من الأسباب، كما أن البعض قادرون على خلقها بأنفسهم، ويُعتقَد أن واحدًا من كل 10 أشخاص يمر بتجربة الخروج من الجسد أثناء حياته.
أبحاث جديدة في هذا المجال تؤكد أن هناك مناطق في المخ مسؤولة عن ذلك الشعور، غير أن تلك الأبحاث تعزز فكرة أن العقل والجسد ليسا شيئًا واحدًا، وأن كلًّا منهما منفصل عن الآخر، وهو ما تؤكده كذلك تجارب مثل القفاز المطاطي وألم الأطراف الوهمية.
4. الجسد أم البيئة: أيهما يشكِّل إدراكنا؟
تذهب نظريات علمية إلى أن الجسد هو الذي يشكِّل العقل، فيما تعتقد أخرى أن إدراكنا تشترك البيئة في تكوينه، وهي أفكار تتعارض مع الاعتقاد بأن الجسد والعقل منفصلان، حسب برينسون.
هناك مثال بسيط على ذلك، فكثيرًا ما يحثُّنا الناس على الابتسام والضحك في سبيل أن تضحك لنا الدنيا، وهو أمر صحيح، فقد نبتسم لأننا سعداء أو نبتسم لنجلب السعادة لأنفسنا.
هل أنت مجرد ترجمة لما يشعر به جسدك من مؤثرات؟
خلال إحدى التجارب، طُلب من مجموعة من الأشخاص أن يمسك كل واحد منهم قلمًا بأسنانه، بطريقة تجبره على استخدام العضلات التي تتحرك أثناء التبسُّم، وهؤلاء كانوا أسرع استجابةً للعبارات اللطيفة، بينما حدث العكس عندما عُكست التجربة، بحيث أُجبروا على استخدام عضلات الجبين التي تتحرك عند التجهُّم.
قد يعجبك أيضًا: فلسفة النكتة: كيف يضحك السعوديون؟
وتشير دراسات إلى أن الناس يميلون بأجسادهم إلى الأمام حينما يفكرون في المستقبل، وإلى الخلف حين يفكرون في الماضي، كما أن الإمساك بكُرة ملمسها ناعم يجعل المشاركين في التجارب يرون وجوهًا ملامحها محايدة على أنها وجوه نسائية، بينما كان العكس صحيحًا حينما أمسكوا بكُرات أكثر صلابة.
وُجد أيضًا أن الأشخاص الذين يجلسون على مقاعد صلبة خلال المفاوضات يكونون أقل مرونة في تقديم التنازلات، كما أن من يحملون مشروبًا ساخنًا في أيديهم يشعرون أن الآخرين أكثر لطفًا وكرمًا، بعكس لو كان المشروب باردًا.
إلى هذا الحد يمكن لأجسادنا أن تؤثر في عقولنا وأفكارنا؟
إذا كان الأمر كذلك، فهل أنت مجرد ترجمة لما يشعر به جسدك من مؤثرات؟ لو كنَّا نستطيع أن نغير رأيك عن طريق إعطائك كوبًا ساخنا من القهوة، فهل يعني ذلك أن أفكارك وآرائك ملكٌ لجسدك أم ملكٌ لك أنت؟
5. ماذا لو تغيرت مكونات جسدك؟
عقولنا وأجسادنا تشكل معًا من نحن، لكننا نظل أنفسنا حتى لو تعطَّل أحدهما.
يقول الفيلسوف «جوليان باجيني» في كتابه «The Ego Trick» إن الذات مثل الساعة، فنحن نسمي الساعة ساعةً رغم أنها مكونة من مجموعة أجزاء صغيرة، فإذا أزلنا عقرب الثواني ستظل ساعة، ولو نزعنا الزجاج وبعض التروس ستبقى ساعةً كذلك.
نحن مثل الساعة، مخزوننا من الذكريات والتجارب بالإضافة إلى الجينات والأفكار مجتمعة هي التي تشكل من نحن. حاول أن تفكر في «من أنت» في المطلق، حاول أن تحس به، ستجد ذلك مستحيلًا، فلا يوجد ما يسمى بالذات، إنما هي زجاج الساعة وشريطها وعقاربها ومجموعة تروس.
قد يهمك أيضًا: هل تصنع الجينات شخصياتنا أم نشكلها بأنفسنا؟
يخلص برينسون إلى أن عقولنا وأجسادنا معًا تشكل من نحن، غير أننا نظل أنفسنا حتى لو تعطَّل أحدهما عن العمل، فالأشخاص المصابون بمرض عقلي أو بالشلل يظلُّون أنفسهم.
لكن ماذا إذا زُرع لشخص قلب شخص آخر، فأيهما سيكون؟ وإذا اعتبرنا جدلًا أن العواطف محلها القلب، هل سيظل الشخص ذو القلب الجديد يحب من يحب ويكره من يكره؟
تخيَّل معي أن العلماء نجحوا في نقل المخ البشري في المستقبل من شخص لآخر، فهل سيكون للشخص الجديد نفس مستوى الذكاء والرغبة في الاندماج الاجتماعي؟ هل سيظل هو «هو» أصلًا؟ وماذا إذا غيرنا الاثنين معًا، القلب والعقل، هل سنكون أمام إنسان جديد؟