هذا موضوع صحفي لا يخبرك أن الأطباء أشرار، ولا ينمِّي خوفك تجاه الطب. هذا موضوع يعرض وجهًا آخرَ لشيء نعتبره جميعًا ساميًا، لا بهدف التقليل منه أو تشويهه، بل بهدف إثبات أن جميعنا، حتى أصحاب المهن المقدسة، قادرون على التحوُّل في لحظة إلى الوجه المقابل تمامًا.
هذا موضوع عن الوجه القبيح للطب.
الوحدة 731: الأطباء في زيهم الأسوأ
في مدينة هاربن شمال شرقي الصين، وعلى بعد أميال من الخنادق والمدافع والدماء التي تسيلها الأطراف المتنازعة في الحرب العالمية الثانية، كانت هناك حرب من نوع آخر: حرب الوحدة 731، حرب أدارها الأطباء.
الوحدة 731 كانت حقل تجارب كبير أسسه الأطباء والباحثون اليابانيون خلال الحرب. الفارق الوحيد في حقل التجارب هذا أن حيوانات التجارب كانوا بشرًا. الضحايا كانوا أسرى حرب. وبين عامي 1939 و1945، فقد على الأقل ثلاثة آلاف شخص حياتهم هناك.
فضول الأطباء تجاه استكشاف الجسم البشري هو ما حسم الموقف. ماذا سيحدث للإنسان لو أزلنا معدته وأبقيناه حيًّا؟ فلنجرب إذًا. كيف نعالج الغنغرينا الناتجة عن التجمُّد؟ فلنجمد أطراف الأسرى ونجرب طرقًا مختلفة للعلاج. هل تنتقل عدوى الزهري من الأم إلى الجنين؟ فلنُصِب بها بعض الحوامل ونرى ماذا يحدث. التخدير يكون بمواد كيميائية قد تؤثر في نتائج التجربة؟ فلنشرِّح أجسام الضحايا أحياء إذًا.
الغريب أن الوحدة 731 ضمت أطباء من مختلف أنحاء اليابان، أطباءٌ أقسموا على رعاية مرضاهم منذ اليوم الأول. لكن ألا تُعَد معرفة الطريقة الأفضل لعلاج الغنغرينا رعايةً للمرضى أيضًا، حتى لو اضطررنا للتضحية ببعض البشر من الأعداء؟
لم ينجُ شخص واحد من المذبحة، لحسن حظهم ربما ولسوء حظنا، لنبقى معتمدين على قليل من الوثائق التي وُجِدت بالصدفة، وأقل من الشهادات من بعض الأطباء الذين عاصروا المذبحة، يروونها على استحياء ويختفون بعدها.
بعد استسلام اليابان، عُقِد اتفاق سري بين الحلفاء وأطباء الوحدة 731، تقرّر على إثره عدم محاسبة أحد منهم.
أنشئت الوحدة 731 بالأساس لمساعدة اليابان في إطلاق حرب بيولوجية ضد أعدائها. وبتعريض الضحايا لمختلف الحالات المرضية، أصبح بإمكان أطباء الوحدة اكتشاف طرق لعلاج الجنود اليابانيين خلال الحرب. ربما أتت الوحدة أُكُلَها في النهاية حين تمكنت اليابان من قتل نحو 300 ألف شخص باستخدام الأسلحة البيولوجية التي طوّرتها الوحدة على ضحاياها. طائرات نقلت جرذانًا حاملة للطاعون والجمرة الخبيثة وغيرها، طافت أرجاء الصين تطلق عدواها في كل حدب وصوب. استمرت العدوى في حصد أرواح مواطني الصين حتى بعد سنوات من انتهاء الحرب.
هل أتت عمليات استكشاف أجساد الضحايا أُكُلَها أيضًا؟ تشير التقارير، لحسن الحظ أو لسوئه، إلى أن التجارب التي أُجريت في الوحدة 731 ساعدت بالفعل على إنقاذ عديد من أرواح اليابانيين.
تجربة التثليج مثلًا، التي كانت تُطبّق بالأساس بإخراج الضحايا في البرد حتى تتجمد أطرافهم تمامًا، ساعدت أطباء الوحدة على معرفة أن طريقة الطب التقليدية في علاج أثر الصقيع حينذاك خاطئة كليًّا، وأن الطريقة المُثلى هي بغمر الطرف المصاب في ماء بدرجة حرارة معينة، توصلوا إليها أيضًا من التجريب على الضحايا. ربما لأجل ذلك استمر الأطباء في تجاربهم البشعة، لأجل الهدف الأكبر: خدمة الوطن والحفاظ على أرواح الجنود اليابانيين. الغاية، في نظرهم، كانت كافية لتبرير الوسيلة.
في عام 1946، وبعد استسلام اليابان، عُقِد اتفاق سري بين الجنرال الأمريكي «دوغلاس ماك آرثر»، القائد الأعلى لقوات الحلفاء حينذاك، وأطباء الوحدة 731، تقرّر على إثره أن لا يُحاسَب أحد على تلك المذبحة. الأطباء الذين ارتكبوا جرائم ظلوا يمارسون وظائفهم بعد الحرب، ربما كأفضل الأطباء على الإطلاق، ربما كأكبر المجاهدين في سبيل إنقاذ حياة مرضاهم، تاركين إيانا في الرعب والكابوس الأكبر، عما يمكن للإنسان ارتكابه فقط إن ظن أنه يفعل كل ذلك لأجل «هدف أسمى».
توسكيجي: امنعوا الدواء من أجل العلم
في ولاية ألاباما الأمريكية، وفي قرية توسكيجي التي كان يسكنها السود، وجد بعض الأطباء ضالتهم لدراسة مرض الزهري.
400 شخص من حاملي المرض من العمال البسطاء أُدخلوا في التجربة رغمًا. لم يخبرهم أحد عن طبيعة مرضهم، ولم يخبرهم أحد أنهم جزء من تجربة. ورغم أن المرض لم يكن له علاج بالفعل في بداية التجربة، فإنه بعد مرور سنوات، عندما أصبح البنسلين متاحًا كعلاج أمثل للزهري، أحجَم الأطباء عن تقديمه للمرضى في توسكيجي، وفضّلوا أن يستمروا في دراسة المرض.
تغير طريق البحث العلمي بسبب تجربة توسكيجي، ووُضعت قواعد أكثر صرامة للتجارب الطبية على البشر.
استمرت التجربة لمدة 40 عاما، هي الأسوأ بالتأكيد في حياة تلك القرية سيئة الحظ، التي مُنع عنها الدواء الشافي في سبيل «هدف أكبر». الزهري كان مرضًا خطيرًا وقتها يودي بحياة الآلاف كل عام، ودراسة طبيعته ودورة حياته داخل الجسم سيتيح لهؤلاء الأطباء فهمه أكثر، وبالتالي تقديم طرق علاج أفضل، أو هكذا ظنوا.
من المحزن معرفة أن تجربة توسكيجي لم تعُد على الطب بأي نفع تقريبًا. فبرغم تسجيل تقارير هائلة عن تطور المرض وآثاره طويلة المدى على مدار الأربعين عامًا، فإن كان البنسيلين قد أثبت قدرته المذهلة في القضاء على المرض على كل حال. لم يعد الزهري وباءً، والتجربة التي كان مُقرّرًا لها من البداية أن تستمر لستة أشهر استمرت 40 عامًا، مدفوعةً بفضول الأطباء وحده في تتبُّع مرض قاتل داخل أجساد لا يلتفت إليها أحد.
لكن هدفًا لم يكن يرمي إليه أيٌّ من أطباء التجربة تحقق في النهاية. فبسبب تجربة توسكيجي، تغير طريق البحث العلمي على عناصر بشرية تمامًا.
في عام 1974، إثر تبيُّن حقيقة تجربة توسكيجي وإيقافها، تأسست «الهيئة الوطنية لحماية العناصر البشرية في البحوث الطبية والسلوكية». قواعد أكثر صرامة من أي وقت مضى وُضِعَت، أملًا في عدم تكرار مأساة طبية أخرى في أي وقت لاحق.
التجارب السريرية: التضحية بالواحد من أجل المئة
تقوم صناعة الأدوية بالأساس على ما يسمى التجارب السريرية، وهي مرحلة تجريب الدواء أو المادة الجديدة على البشر. تُقسّم التجارب السريرية إلى ثلاث مراحل أساسية، كل مرحلة بهدف محدد. يزيد عدد المشتركين بتقدُّم المرحلة، ولو لم يضر الدواء، سيتحرك للتجريب على عدد أكبر.
تُحاط التجارب السريرية بأسوار عالية من التحكمات والأكواد الأخلاقية لضمان سلامة المشتركين، لكن هل يمكننا في النهاية ضمان أنهم سيخرجون منها دون أذى؟
في لندن عام 2006، كانت واحدة من أسوأ التجارب السريرية لا في إنجلترا وحدها، بل في العالم بأسره. كان دواء «TGN1412» قد أظهر نتائج رائعة على القرود، وبالتالي تحركت التجربة نحو العائل التالي والأهم: الإنسان. قبل ثمانية مشتركين، أصحاء تمامًا، الانضمام إلى التجربة مقابل مبلغ من المال. وبعد دقائق فقط من حقن ستة أفراد منهم بالعقار، توقفت وظائفهم العضوية واحدًا تلو الآخر.
بنهاية التجربة، كان أحد المشتركين قد فقد بعض أصابعه وإحدى قدميه جراء الغنغرينا، وخمسة آخرون يغادرون باب العناية المركزة بقلوب تهتز وجلًا مما قد يصيبهم من العقار في وقت لاحق.
دعنا نعود لنؤكد مرة أخرى: حدث هذا في 2006، وليس في واحد من الأوقات المظلمة التي عاشتها الإنسانية.
لم يُتّهم الأطباء في التجربة لأنها لم تكن غلطتهم. لم يكن أحد ليعلم أن الجسم البشري سيتعامل بهذا الشكل مع العقار، لكنه مثال بسيط على الأذى الذي قد تُلحقه التجارب السريرية بعدد قليل من الأشخاص بهدف تجربة عقار قبل إطلاقه لعدد أكبر من الناس. الأذى موجود طوال الوقت، المخاطرة بحياة أشخاص، قد يكونوا أصحاء تمامًا، موجودة طوال الوقت.
نوع آخر مهم أيضًا من التجارب السريرية يقوم على منع الدواء عن مجموعة من المرضى بهدف معرفة أثره عند الآخرين. في هذا النوع، يُقسّم المرضى إلى مجموعتين بشكل عشوائي، مجموعة تُعطى العقار ومجموعة أخرى تتناول كبسولات تحوي مواد ليس لها تأثير على الإطلاق، يُطلق عليها «بلاسيبو».
يجب أن تكون المجموعتان على نفس الدرجة من المرض لتكون المقارنة واضحة، وتناول واحدة من المجموعتين مادة لا تأثير لها مهم أيضًا، لبيان الأثر الذي أحدثه العقار في الطرف الآخر.
لكن، أليس في ذلك منع لدواء قد يكون فيه الشفاء عن مرضى يحتاجون إليه؟
أحيانا قد يتحسّن المرضى الذين يتعاطون البلاسيبو لفترة وجيزة، في ظاهرة تُعرف بـ«Placebo Effect»، تنشأ بالأساس من تهيئة المرضى نفسيًّا لكونهم يتعاطون علاجًا. وهنا تكمن معضلة أخرى يعتبر فيها الرافضون أن إعطاء البلاسيبو، بشكل أو بآخر، يمثل خداعًا لمستقبليه، حتى إن كان شرطٌ من شروط بدء التجربة أن يوافق جميع المرضى على أنهم قد يتعاطون علاجًا وهميًّا في أي مرحلة.
اقرأ أيضًا: بلاسيبو: هل تصلح الأدوية الوهمية كعلاج للأمراض؟
لولا التجارب السريرية لفقدنا ملايين الأرواح كل عام، لكن ألا يمكننا القول إنها تعتمد بالأساس على المخاطرة بأرواح قليل من البشر من أجل إنقاذ عدد أكبر؟
المعضلة مستمرة مع التجارب المعتمدة على أدوية وهمية. عشرات الأوراق البحثية والكتب تُنشر كل عام عما إذا كان استخدام البلاسيبو أخلاقيًّا أم لا. الانقسام بين الموافقة، بحجة أنها الطريقة الأفضل لدراسة أثر العقارات الجديدة، والرفض، بحجة أن هناك دائمًا طُرقًا بديلة للدراسات الطبية لا تعرِّض المرضى بالضرورة لأذًى أو خداع.
لكن تبقى واحدة من أهم القواعد التي يقوم عليها هذا النوع من التجارب أن يكون عدد الأفراد الذين يتعاطون البلاسيبو أقل دومًا من متعاطي العلاج الحقيقي. إذا كان لا بد من إلحاق الأذى، فلنلحقه بعدد الأقل.
النفعية: اثنان أفضل من واحد، وثلاثة أفضل من اثنين
ينص المذهب الفلسفي الكلاسيكي للنفعية (Act Utilitarianism) على أنه «في أي موقف تتعرض له، عليك أن تختار الفعل الذي سيحقق المنفعة للعدد الأكبر من الناس».
طبقًا للنفعية الكلاسيكية، النتائج دائمًا تبرر الوسيلة. إذا كنت ستحقق نتيجة جيدة، فالطريق التي ستسلكها للوصول إليها لا تهم. في النفعية، لا تعلو سعادة شخص على آخر، كلنا سواء، وما يحكم الأمر هو العدد الذي ستتحقق له تلك السعادة.
في النفعية الكلاسيكية، يمكنك أن تضحي بطفلين من قبيلة تتضور جوعًا لإنقاذ الباقين، وسيبدو فعلك أخلاقيًّا تمامًا. الأمر ليس تفضيلًا لحياة شخص على آخر، بل وسيلة اقتُرحت لمعرفة الصواب من الخطأ. إن كنتَ في موقف لا تتبين فيه الفعل الأفضل، فاختر دائمًا ما يحقق السعادة لأكبر عدد من الناس.
التجارب السريرية لا تفضِّل حياة شخص بعينه، لكن الأفضل دائمًا المخاطرة بحياة العدد الأقل من أجل الحفاظ على العدد أكبر. وكذلك كان الحال في الوحدة 731 وفي توسكيجي، من الصعب جدًّا تخيُّل أن أطباء عاديين، وليسوا رجال حرب مثلًا اعتادوا القتل، قد أقدموا على تلك الأفعال، لكن ربما ما حسم الموقف أمام ضمائرهم كان النفع الذي سيعود على عدد أكبر من الناس بالاكتشافات التي سيحققونها. النفعية تعمل كمسكِّن جيد لضمائر الحائرين، تعمل جيدًا في حالتي السلم والحرب.
متى يتغير اتجاه بوصلة الطب؟
الأطباء، بشكل خاص، مهنتهم أخطر من أي مهنة أخرى، فهم يتعاملون بشكل مباشر مع حيواتنا ويحملونها على أيديهم طوال الوقت.
السؤال عما إذا كان الطب، كعلم وممارسة، يعتمد أحيانًا على مبادئ فاسدة قد يطول ويتفرّع. والأمثلة التي عرضناها تشرح ما قد يصبح عليه الأمر في المستقبل، كما أضحى مرةً في الماضي. الأكواد الأخلاقية والقانونية عديدة ومتشعبة، لكن هناك دومًا من يهرب، هناك دومًا من يحنث بقسمه. السؤال هنا قد لا يكون عما إذا كان الطب معتمدًا على الشر، لكنه قد يتغير قليلًا ليصبح: هل على الطب دائمًا أن يختار بين مصلحة الفرد ومصلحة الأكثرية؟
في الماضي، دفع الفضول بعض الأطباء إلى ارتكاب أفظع الجرائم الإنسانية، ظانِّين أنهم يتطلعون لهدف أسمى بإنقاذ حيوات أكثر. والآن، نجد الشكل الأقل وطأة في التجارب السريرية التي يعتمد عليها جزء كبير للغاية من الطب. لكن هل ستظل المعضلة مستمرة؟
الآن، نؤمن جميعنا أنه لا غنى لنا عن التجارب السريرية، لكن ربما ظنوا في الماضي أنه لا غنى لهم عن تلك المذابح أيضًا، ربما ظنوا أنها الحل الأمثل لإنقاذ بقية الحيوات. الخوف أن نستيقظ يومًا على صرخة أحدهم ينبههنا إلى أن الاختيار كان أمامنا طوال الوقت، لكننا فقط تجاهلناه.