في طفولتي، كنت كلما ظهر ياباني في أحد الأفلام أتساءل عن السبب وراء هذه العيون المسحوبة، وهذه الملامح المميزة. كانت أمي تجيبني عن اقتناع بأنه قد ألقيت قنبلة نووية على اليابان منذ زمنٍ بعيد، تسببت في تغيير ملامحهم للأبد، وأنهم كانوا يشبهوننا مع اختلاف بسيط في لون الشعر والجلد.
قضيت سنوات طويلة بعدها أتخيل الجيل الأول من الشعب الياباني وقد ذابت جلودهم واحترقت ببشاعة، والجيل الثاني من الأطفال الذين لم يُعايشوا هذه المأساة، لكنها حددت ملامحهم بدقة، فكانت إرثًا ثقيلًا.
بالطبع لم تكن تصوراتي أو تصورات أمي صحيحة في ما يتعلق بملامح الشعب الياباني، لكن بالفعل منذ 73 سنة، كانت المأساة في أوضح تجلياتها في اليابان، عندما ألقت القوات الأمريكية أول قنبلة نووية في العالم على مدينة هيروشيما، في تمام الثامنة والربع صباح السادس من أغسطس عام 1945، فدمرت القنبلة 90% من المدينة، وأسفرت عن وفاة 140 ألف إنسان فورًا، بخلاف من ماتوا في ما بعد بمرض «التهاب الأشعة النووية الفجائي».
ثم أتبعت القوات الأمريكية القنبلة الأولى بثانية ألقتها على مدينة ناغازاكي، في الحادية عشرة ودقيقتين من 9 أغسطس، فمات 70 ألف إنسان فورًا، ودُمِّرت المدينتان تدميرًا شديدًا.
مَن نجا من هذه المذبحة البشرية كان قد خسر أهله كلهم، أو أُصيب بورم سرطاني، أو عاش مشوهًا أو ضعيفًا لا يقوى على العمل، أو رُزِق طفلًا بعيوب خلقية أو مصابًا بداء «الرأس الصغير»، أو ربما كل ما سبق. ومن حالفه الحظ ونجا من كل هذا، عاش بحسرة لا تزول، ليتذكر مأساة إنسانية راح ضحيتها أبرياء خرجوا للتنزه أو العمل في يوم صافٍ جميل، فتلاشى نهارهم في لحظات، وخيَّم الليل على حياة من بقي منهم، ليتذكروا ليلًا طويلًا ومطرًا أسود.
كان آينشتاين أول من اقترح فكرة القنبلة الذرية على الرئيس الأميركي «فرانكلين روزفلت».
نقدم من خلال كتاب «هيروشيما وناغازاكي: مأساة القنبلة الذرية»، للكاتب الياباني «تاكيشي إيتو»، صورة بانورامية لهذه المأساة التي عايشها اليابانيون، وتغير بعدها كل شيء.
البدء في صناعة أول قنبلة نووية في العالم
كان آينشتاين واحدًا من أعظم علماء الفيزياء في القرن العشرين، وهو أول من تنبأ بظهور القنبلة النووية، إذ بعث برسالة إلى الرئيس الأمريكي، في ذلك الوقت، «فرانكلين روزفلت»، في الثاني من أغسطس 1939، يُطلعه فيها على آخر التطورات في أبحاث الطاقة الهائلة التي تنطلق عند تفتت نواة الذرة، وقال في رسالته إن «هذه الاكتشافات الجديدة من الممكن أن تؤدي إلى إنتاج قنبلة ذات قوة هائلة، يستطيع انفجارها أن يهدم ميناء بأكمله، وكذلك بعض ضواحيه».
حذر آينشتاين الرئيس الأمريكي من أن ألمانيا اتجهت بالفعل إلى بحث لصناعة هذه القنبلة، وطالبه بالبدء على الفور في إجراء الأبحاث لصناعتها.
شكَّل روزفلت اللجنة التجريبية لأبحاث اليورانيوم عام 1939، في سرية شديدة، وفي 1942 أُبلغ بأن القنبلة الذرية يمكن أن تكون جاهزة للاستخدام في أثناء الحرب، فأمر الرئيس القوات المسلحة بإنشاء معمل للتجارب ومصنع لإنتاجها.
تولى «ريسري غروبس» منصب القائد العام لمشروع إنتاج القنبلة الذرية الذي سُمي «مشروع مانهاتن السري»، ولم يعرف به سوى أربعة أشخاص فقط، بخلاف العلماء والقائمين على صناعة القنبلة، وهم الرئيس الأمريكي روزفلت، ووزير الحربية «ستيمسون»، ورئيس أركان القوات المسلحة «مارشال»، وأخيرًا «غروبس» نفسه.
تولى البروفسور «أوبنهايمر» منصب المسؤول العام عن تصميم القنبلة الذرية وإنتاجها، وأنشأ مصنعين لصناعة القنبلة: واحد في ولاية واشنطن، وآخر في ولاية تينيسي، في أماكن بعيدة عن العمران، وعيَّن 540 عاملًا في المشروع بمرتبات مغرية، ولم يعرف أيٌّ منهم أي شيء عن المشروع الذي يعملون فيه حتى إلقاء القنبلة في أغسطس عام 1945.
أحيط المصنعان بحراسة أمنية مشددة وكلاب بوليسية وحشية تنهش كل من يقترب منها. تشابه هذان المصنعان مع معسكرات النازية الألمانية الإجبارية في أنهما يحتويان على مئات الآلاف من الناس الذين لا يعرفون ما يفعلون.
سرى خوف داخل الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1944، سببه خشيتهم من أن تسبقهم ألمانيا في صناعة القنبلة النووية، ثم تستخدمها في الحرب، فتنتصر، مع أن الأمور كانت تسير من سيئ إلى أسوأ، بالنسبة إلى ألمانيا، في الحرب، منذ عام 1942.
قدم روزفلت طلبًا إلى رئيس الوزراء البريطاني «وينستون تشرشل» بخصوص إنتاج قنبلة نووية مشتركة نظرًا إلى تفوق بريطانيا على الولايات المتحدة في أبحاث القنبلة الذرية، في الفترة بين 1940-1941، وقوبل الطلب بالرفض.
انقلبت الآية عام 1942، فتقدمت الولايات المتحدة هذه المرة على بريطانيا، وعلم تشرشل بذلك، فبعث برسالة إلى روزفلت بخصوص إنتاج القنبلة الذرية، واتفقا على تبادل المعلومات عن القنبلة النووية، على الأقل، حتى لو لم يتشاركا في إنتاجها، وأعطياها أسمًا مُشفرًا هو «سبيكة الأنبوبة» كي لا تتسرب أي معلومات عنها إلى ألمانيا النازية أو الإتحاد السوفييتي، وإن كان من الحلفاء.
في الثاني من ديسمبر عام 1942، نجح الفيزيائي الإيطالي الأمريكي «إنريكو فيرمي» في إحداث تفاعل متسلسل في المفاعل لأول مرة، وفي عام 1944 بدأ إنتاج قنبلة اليورانيوم، وأُطلِق عليها اسم «الولد الصغير» وقنبلة «البلوتنيوم» التي سُميت «الرجل السمين»، وجرت تجربة القنبلة الأخيرة في 15 يونيو عام 1945، وحدث الانفجار الرهيب الذي صنع كرة كبيرة من النار في صحراء الأمغولد بقرب لوس ألاموس بولاية نيو ميكسيكو. نجحت التجربة.
في 17 يوليو 1945، تسلم تشرشل رسالة مشفرة عن نجاح التجربة، كان نصها للمفارقة هو: «وُلِد الأطفال في حالة مُرضية» (Babies satisfactory born).
اليابان هدفًا
أسقطت الولايات المتحدة القنبلتين، حتى مع علمها بنية اليابان الاستسلام، وبرغم مناشدة العلماء لها وقف التجربة.
خشي روزفلت وتشرشل أن تتسرب أي أنباء عن القنبلة، وبخاصة إلى الاتحاد السوفييتي، واتفقا في اجتماع كوبيك، في الفترة بين 11-16 سبتمبر 1944، على استخدام القنبلة ضد اليابانيين مرة دون تحذير، ثم تحذيرهم في ما بعد، بإسقاط قنبلة ثانية في حال عدم استسلامهم.
اجتمع روزفلت وتشرشل وستالين في يالتا، فبراير 1945، ولم يتحدثوا مطلقًا عن القنبلة الذرية، لكنهم عقدوا اتفاقًا مهمًّا بخصوص اليابان، مؤداه أن «يشترك الاتحاد السوفييتي في الهجوم على اليابان خلال فترة ثلاثة أشهر من انتهاء الحرب في أوروبا، مقابل الموافقة على حق استرداده للأراضي التي سلبتها اليابان منه منذ الحرب اليابانية الروسية».
لكن بعدما نجحت تجربة القنبلة النووية، لم تعد الولايات المتحدة بحاجة إلى مساعدة الاتحاد السوفييتي بخصوص اليابان، لذا عجلت باستخدام القنبلة الذرية ضدها، وبخاصة أن الحرب في أوروبا انتهت باستسلام ألمانيا في الثامن من مايو عام 1945، ما يعني أن يشترك الاتحاد السوفييتي في الحرب ضد اليابان في موعد أقصاه الثامن من أغسطس 1945.
في حالة استسلام اليابان، باشتراك الاتحاد السوفييتي في الحرب، فاتساع الأراضي المحتلة للاتحاد في آسيا، ستتبعه أحداث كالتي حدثت في أوروبا.
لذا أسقطت الولايات المتحدة القنبلتين، حتى مع علمها بنية اليابان الاستسلام، وبرغم مناشدة العلماء لها وقف التجربة التي ستودي بحياة الآلاف من البشر، وستثير الرأي العام ضد أمريكا. لكن ضُرِبت بتوسلاتهم عرض الحائط، فقد كان الهدف الحقيقي من إسقاط القنبلة الذرية ليس إجبار اليابان على الاستسلام غير المشروط، بل الضغط على الاتحاد السوفييتي بعد الحرب.
الدرس انتهي.. لموا الكراريس
«بدا كأن العالم عاد إلى بدء الخليقة... أين البر وأين النهر؟ اتشح العالم بالسواد والسكون... هل اختفى الزمن؟ هل سقطت الشمس؟ ماذا حدث؟».
انفجرت القنبلة الأولى في هيروشيما على ارتفاع 600 متر، والقنبلة الثانية في ناغازاكي على ارتفاع 500 متر، ومع الانفجار وُلِدت كرة نارية صغيرة وكبرت بعد ثانية وغطت دائرة قطرها نحو 280 مترًا، ووصلت درجة الحرارة، وقت انفجار القنبلة، إلى ملايين من الدرجات المئوية، وبعد ثانية واحدة أصبحت درجة الحرارة على سطح الكرة خمسة آلاف درجة مئوية، ومع الانفجار حدث ضغط عالٍ للهواء، وتكونت عاصفة مخيفة بلغت سرعتها 280 متر في الثانية، وزادت سرعتها عندما التقت العاصفة التي تصادمت بالأرض مع العاصفة التي تولدت من القنبلة مباشرة.
أُصيب الناجون بحروق جسيمة، وتساقطت جلودهم، وتعرضوا لكميات هائلة من الأشعة النووية، ومات كثيرٌ منهم فجأة بعد أسبوع أو أكثر.
كتبت فتاة أصيبت بورم سرطاني في وجهها: «كانت أمي تشعر بالعذاب في كل مرة كنت أقول لها: كان أفضل أن تقتليني».
احتار الأطباء في الأعراض التي أصابت الناجون، فلم يعرفوا أنها تندرج تحت داء «التهاب الأشعة النووية الفجائي»، فقد ارتفعت حرارة المصابين بعد أسابيع من الإصابة، وهاجمهم القيء الشديد، ونزفت أجسادهم الدماء، وظهرت على جلودهم بقع أرجوانية اللون، وتساقط شعرهم، وماتوا الواحد تلو الآخر. ظن الأطباء أنها حمى التيفود أو مرض الزحار، وهو مرض ينتشر في مناطق البلاء والكوارث. لذا مات الآلاف بعد عذاب دون أن ينالوا علاجًا.
تضمن الكتاب عددًا من شهادات ضحايا هذه المأساة. كتبت فتاة يتيمة أصيبت بورم سرطاني في وجهها، رسالة لمدرس دار الأيتام التي أُلحقت بها، تقول فيها: «الأطفال الأبرياء كانوا يفرون دائمًا عندما يرونني قائلين: الشيطانة جاءت، الشيطانة جاءت».
«طاردت الأطفال وأنا أبكي كأنني أصبحت شيطانة فعلًا، وأحسستُ دائمًا بأنني أحسد الموتى، وكانت أمي تشعر بالعذاب والحرج في كل مرة كنت أقول لها: كان أفضل أن تقتليني».
ماتت الأجنة في بطون أمهاتها، ومن نجا وُلِد مشوهًا أو مصابًا بالتخلف العقلي. أطفال لا يعرفون عن القنبلة النووية، لكنهم يحملون أعباء القدر المؤسف منذ ولادتهم.
أعلنت اليابان استسلامها في 15 أغسطس 1945، لتنتهي بذلك الحرب العالمية الثانية، بأكبر الكوارث الإنسانية في العالم.
كلنا «هيباكشا» (مصابون بالقنبلة)
رغم الاحتجاجات، ورغم حادث انفجار مفاعل «تشرنوبل»، في نهاية عام 1986 بلغ عدد الدول التي لديها محطات للطاقة النووية 26 دولة.
علمت الولايات المتحدة الأمريكية، منذ البداية، بتأثير القنبلة النووية، وبمرض «التهاب الأشعة النووية الفجائي»، ولم تحاول مداواة الضحايا، فقط استدعتهم للكشف عليهم، لتستخدمهم في أبحاثها عن أثر القنبلة الذرية، وصرفتهم دون علاج، وكذبت في تقريرها عن عدد ضحايا الحادث، وقدرتهم بـ78 ألف شخص في هيروشيما، و27 ألف في ناغازاكي، وذلك أقل من نصف عدد الضحايا الحقيقي.
حتى عام 1977، عندما بحث 46 خبيرًا من «منظمة الصحة العالمية»، خسائر القنبلة الذرية، ساعدهم الباحثون اليابانيون، لكنهم وجدوا صعوبة في ترجمة الكلمة اليابانية «هيباكشا»، والتي تشتمل على ثلاثة معانٍ، هي: «ضحية ومعذب وناجٍ». في ما بعد، اتفقوا على استخدام الكلمة كما هي، ومنذ ذلك الوقت أصبحت هيباكشا كلمة عالمية.
تأسست بعد ذلك حركة يابانية لمنع القنبلة الذرية الهيدروجينية، كان شعارها «كلنا هيباكشا»، وبدأت أمواج الحركات السلمية ضد التسلح النووي تجتاح العالم.
توالت الاحتجاجات والحركات السلمية لنزع السلاح النووي، أبرزها اجتماع «هايد بارك» في لندن، حيث تظاهر أكثر من ربع مليون شخص احتجاجًا على تأييد «مارغريت تاتشر» للسياسة النووية الأمريكية، وإقامة 160 صاروخًا في بريطانيا.
وقامت مظاهرة في روما عام 1981 احتجاجًا على إقامة 112 صاروخًا موجهًا في كوميسو. ومسيرة في أمستردام اشترك فيها 50 ألف متظاهر في العامِ نفسه.
وعُرِض فيلم «اليوم التالي» في 20 نوفمبر 1983، والذي يتخيل وقوع حرب نووية شاملة، إذ تسمَّر الناس أمام الشاشات وأصابهم الرعب مما يمكن أن تُحدثه هذه الأسلحة.
رغم كل هذه المظاهرات، ورغم حادث انفجار مفاعل «تشرنوبل» عام 1986، فإن الإحصائيات تشير إلى أنه في نهاية عام 1986 بلغ عدد الدول التي لديها محطات للطاقة النووية 26 دولة، وعدد المحطات 376، وعدد الدول التي تخطط لإنشاء المحطات 37 دولة، وعدد المحطات المحتمَلة 277.
عام 1987، عُقِد اتفاق التخلص من الأسلحة النووية لأول مرة بعد 42 سنة من إنتاجها، ووقَّع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان والرئيس الروسي غورباتشوف على المعاهدة التي نصت على التخلص الكامل من الأسلحة النووية والمتوسطة المدى، 859 صاروخًا صُنعت في أوروبا وآسيا من الجانب الأمريكي، والجانب الروسي يتخلص من 172 صاروخًا خلال ثلاث سنوات. لكن هذه الصواريخ للأسف لم تمثل سوى 3 أو 4% من نسبة الأسلحة النووية الموجودة في ذلك الوقت.
من يمتلك الأسلحة النووية الآن؟
رغم كل المساعي لن نعيش في عالم مسالم لا تحكمه الطاقة النووية.
آخر ما وثقه الكتاب كان «الجلسة الخاصة الثالثة لنزع السلاح للأمم المتحدة»، في يونيو 1988، فقد صدر الكتاب في نفس السنة. حدث كثير من التطورات بخصوص «الشأن النووي» في العالم منذ ذلك الحين وإلى وقتنا هذا، وُقِّعِت معاهدات أخرى «للحد من انتشار الأسلحة النووية» اشتركت فيها الدول العظمى الخمسة: الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين، إضافة إلى أربعين دولة أخرى، بينما رفضت الهند وباكستان التوقيع على هذه المعاهدات، وبدأتا أبحاثهما النووية عام 1998، رفضت إسرائيل أيضًا التوقيع على تلك المعاهدات، وانسحبت كوريا الشمالية من المعاهدة عام 2003 بعد توقيعها على المعاهدة الأولى بتاريخ 1 يوليو 1968.
بحسب مقال نُشِر على موقع شبكة «BBC» الإخبارية، رغم أن مخزون العالم من الأسلحة النووية تضاءل بشكل ملحوظ بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1991، فإن هناك المئات من الأسلحة النووية في العالم، استطاع الباحثون تقديرها بشكل تقريبي، رغم حرص كل دولة تمتلك هذه الأسلحة على سرية كل ما يتعلق بتفاصيل صناعتها.
تسع دول في العالم تمتلك ما يقرب من تسعة آلاف سلاح نووي، ينتشرون برًّا وبحرًا وجوًّا، و1800 في حالة تأهب قصوى في حال وقوع أي تهديد على هذه الدول. إضافة إلى رؤوس الصواريخ القديمة التي بحاجة إلى التفكيك وإعادة التركيب، ليكون العدد الإجمالي لهذه الأسلحة، بحسب «معهد ستوكهولم لأبحاث السلام» هو 15 ألف سلاح نووي، وهذا عدد ضئيل مقارنة بعدد الأسلحة النووية قبل عام 1980، والذي وصل إلى 70 ألف سلاح نووي.
تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الآن القدر الأكبر من السلاح النووي في العالم.
معظم هذه الدول، وبخاصة باكستان والهند وكوريا الشمالية، تعمل باستمرار على تطوير مخزونها من السلاح النووي، وهذا يتعارض مع روح معاهدة «الحد من انتشار السلاح النووي» كما صرح «Shannon Kile»، مدير المشروع النووي بمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام.
صرح باراك أوباما، بعد توليه الرئاسة بأشهر قليلة، بأن «الولايات المتحدة ستلتزم بسعيها نحو عالم يسوده السلام والأمن دون سلاح نووي». وفي السابع من يوليو 2017، وقَّع أكثر من مئة دولة على معاهدة دولية، هي الأولى من نوعها، لحظر الأسلحة النووية تمامًا من العالم. ورغم هذا رفضت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والدول الأعضاء لحلف «الناتو» التصديق على هذه المعاهدة لأنها تُضعِف مكانة معاهدات «الحد من انتشار السلاح النووي».
لذا، يبدو أننا رغم كل هذه المساعي لن نعيش يومًا في عالم مسالم لا تحكمه الطاقة النووية.
لستُ سوى جندي، الخدعة الأقدم:
يصعُب على الإنسان التنبؤ بردود فعل إنسان آخر عندما يتعلق الأمر بتدمير حياته للأبد. لكن، فلنقلص دائرة الاحتمالات ونقول إن هناك من يثأر، ومن ينشُد العدالة، ومن يُسامح حتى لو عجز عن النسيان.
لكن الأكيد أن من وقع عليه ظلم أو عدوان يرغب دائمًا في أن يشعر بندم وحسرة المعتدي، إنها حاجة إنسانية بمثابة الماء الذي يطفئ نيران الحسرة والألم.
لذا، وبعد مرور 73 عامًا على هذه الكارثة الإنسانية، أجد في نفسي رغبة في تتبع حيوات أبرز القائمين على بدء هذه المأساة.
بالرغم من أننا لا يمكن أن نرى العالم الفيزيائي الكبير ألبرت آينشتاين طرفًا أساسيًّا في صناعة القنبلة، وفي قرار إلقائها، فإن أبحاثه تظل هي الشرارة التي بدأت صناعة أخطر وأكثر الأسلحة تدميرًا في العالم. لم يندم آينشتاين في السنوات التي تلت الحادث على أبحاثه عن الذرة، لكن ندم على خطابه للرئيس فرانكلين روزفلت، وقال: «لو علمت أن ألمانيا لم تكن لتنجح في صنع القنبلة لما حركتُ ساكنًا».
قال تاكاشي للطيار الأمريكي: كانت السماء في هذا اليوم شديدة الجمال، شعرنا بالأمان حينها لأن جرس الإنذار لم ينطلق، لقد رأيت طائرتك ولوحت لها.
تضمن مقال بصحيفة «الغارديان» البريطانية قصصًا للناجين من الحادث، وتحليلًا لردود أفعالهم تجاه القائمين عليه. من أكثر هذه القصص تأثيرًا قصة «Akihiro Takahashi»، وهو رجل في العقد السابع من عمره، فقد أذنيه في أثناء الحادث، وأصيب بمرض الكبد المزمن، ويعجز عن رفع ذراعه الأيمن بصورة كاملة.
قابل تاكاشي الطيار الأمريكي «Paul Warfield Tibbets» في واشنطن منذ سنواتٍ عدة، والذي كان مسؤولًا عن إلقاء أول قنبلة نووية في العالم على مدينة هيروشيما، وسُميت الطائرة الأمريكية «Enola Gay» التي حملت القنبلة باسم والدته.
قال له تاكاشي: لن أشكو أو أحمل أي ضغينة تجاهك. ثم دفع بيده اليمنى تجاه تيبيتس، فلاحظ الأخير الحروق التي تنتشر فيها وسأله: هل هذا من تأثير القنبلة؟ فقال له تاكاشي: نعم. فبدا عليه الدهشة والتأثر.
نظر تاكاشي إليه مطولًا، ثم قال: كانت السماء في هذا اليوم صافية وشديدة الجمال، شعرنا بالأمان حينها لأن جرس الإنذار لم ينطلق في ذلك الوقت. لقد رأيت طائرتك ولوحت لها.
أجابه تيبتس ببرود: نعم، لقد رأيت هيروشيما بوضوح من موقعي.
قبل أن يغادر قال له تاكاشي: نعتقد نحن سكان هيروشيما، أن الأسلحة النووية اختراع شرير، وأن هذه المأساة يجب ألا تتكرر في أي بلد في العالم، وأرجو أن تبذل كل ما في وسعك لتحقيق هذا.
رد عليه تيبيتس قائلًا: أنا أتفهم ما تقول، سيد تاكاشي، لكنني أعلم أنني سأفعل نفس الشيء مجددًا في حالة نشوب حرب جديدة، وفي حال طُلِب مني إلقاء قنبلة نووية. لكن على كل حال لا يجب أن تحدث حرب جديدة، لأنه بمجرد أن تبدأ حرب لا يكون في وسع الجنود إلا تنفيذ الأوامر المطلوبة منهم.
استغرقت المحادثة نصف الساعة، وظل تيبتس مُمسكًا بيد تاكاشي اليمنى طوال الوقت، فشعر الأخير بأنه ربما يشعر ببعض الألم في قلبه، وعندما أخبر تاكاشي صديقًا له بهذا الهاجس، قال له الصديق: أشك في هذا.
هيروشيما في القلب والذاكرة
لم تقدم الولايات المتحدة اعتذارًا رسميًّا لليابان قط، ولكن كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما أول من بادر بزيارة هيروشيما في تاريخ الرؤساء الأمريكيين، وقدم العزاء للضحايا في 27 مايو 2016، أي بعد مرور 71 سنة على الحادث.
ذكر أوباما في خطابه أن ذكرى هيروشيما يجب ألا تتلاشى من الأذهان، لكنه لم يعتذر عن الحادث، ثم أضاف قائلًا: تمنعنا ذكرى هيروشيما من الاعتداد بأنفسنا، وتدعم خيالنا الأخلاقي، وتمكننا من أن نتغير. بعدها خاطب اثنين من الناجين اللذين طالبا دول العالم بالتخلص من مخزونهم من السلاح النووي، والتُقِطت لأوباما صورة شهيرة وهو يُعانق واحدًا منهم هو «Shigeak Mori» البالغ من العمر 81 سنة.
استقبل الشعب الياباني الرئيس الأمريكي بحفاوة، ورحبوا بزيارته حتى لو لم يُقدم لهم اعتذارًا رسميًّا.
تقول «Seiki Sato»، ابنة أحد الضحايا، والتي قضت القنبلة على عائلة والدها بأكملها:
«نحن اليابانيين فعلنا أشياء غاية في البشاعة في كل أنحاء قارة آسيا، وكان علينا أن نعتذر عنها لأننا بالفعل نخجل من أنفسنا. لكننا لم نعتذر بصدق لكل هذه البلاد الآسيوية. ومع هذا يظل إلقاء القنبلة النووية أكثر تلك الأفعال شرًّا».
أشاد عدد من الصحف ووكالات الأنباء اليابانية بالزيارة، وورد في أهم هذه الصحف، وهي صحيفة «The Japan Times» الآتي:
«التكريم الحقيقي لكل من خسر حياته أو تغيرت حياته للأبد في أحداث هيروشيما وناغازاكي، هو أن تدفع زيارة أوباما المجتمع الدولي دون أي تأخر نحو عالم خالٍ من الأسلحة النووية. حقيقة أن هذه لم تُستخدم منذ أكثر من 70 سنة لا تضمن لأطفالنا مستقبلًا دون أخطار».