أدرك تمامًا أنه لا أحد يتذكر سامح، فأنا بالكاد أتذكره. كان طبيبًا شابًّا في أوائل الثلاثينيات، نحيلًا، عيناه خضراوان، ويستخدم نظارة طبية رفيعة تناسب الصورة النمطية للطبيب.
كان سامح شخصية نمطية بدوره في مسلسل تلفزيوني مصري، أُنتج أوائل الألفية، حين كنت تلميذة في المدرسة الابتدائية، إلا أنني لأسباب مجهولة رأيت الطبيب الشاب فتى أحلامي، وبت أتابع المسلسل، فلا أذكر منه اليوم سوى: سامح الطبيب النفسي الذي كان يعالج امرأة شابة متزوجة، فوقعت في حبه. يتناوب مع اثنين من الممرضات على تقييدها إلى السرير بغرض حقنها بمادة مخدرة، فتصيح متباكية: «الحقني يا سامح»، بينما هو منشغل بـ«تحضير الحقنة»، شأنه شأن محمود المليجي أو رشدي أباظة أو أي طبيب نفسي بارز في تاريخنا الفني.
لحسن الحظ، لا يظهر طبيبي النفسي على الشاشات لأهداف درامية، ولا يبدو عادة بنفس درجة ارتباك سامح ونحوله. وبالرغم من شيوع الأمر على الشاشات، فإنه لا يلجأ إلى إلزامي بالعلاج داخل المستشفى، أو تقييدي إلى السرير، حتى في أحلك الأيام وأصعب الفترات العلاجية.
أذكر ملامحه في إحدى المراحل، ومدى تأثره بألمي. أقول له: «أنا عاوزة أموِّت نفسي»، يرد بثقة:«اسمها أقتل نفسي. فيه حد في الدنيا يستاهل القتل؟»، أرد بالنفي، فيعود ليسأل: «أمال ليه انتي تستاهليه؟».
أضيق بمحاصرته المنطقية لرأسي الهش الضعيف حينها: «انت مالك. أنا عاوزة أموت». أعلن في يأس، فيعود لثقته: «أنا الدكتور بتاعك». يزداد حنقي، فألجأ إلى العنف، أنعته بالكذب والتجاهل وعدم الاهتمام، يتجهم وجهه ويُعلمني أن لغتي غير ملائمة ولا بد من تبديلها. أغضب، يغضب، يعلو صوته بتعليمات حول السلامة الشخصية، يعلو صوتي، ثم يكسب الجولة.
كان طبيبي سعيدًا بعد ثلاثة أشهر من بداية العلاج، حين قلت دون مناسبة: «انت دكتور شاطر على فكرة».
عامان وأربعة أشهر كالقط والفأر، قضيتهم ملتزمة برحلة العلاج النفسي من كآبتي شبه المستوطنة واضطراب الشخصية الحدية. تعلمت خلال هذه الفترة أن طبيبي يفوز بالجولة بحكم الطبيعة للأسف، وبحكم تدريبه، وربما شهادة كلية الطب المعلقة في منزل والديه كما أظن.
فطبيبي أشبه ما يكون بموظف قسم المراجعات الفورية القابع أمامي في أثناء الجلسات، يتولى الرد دائمًا على ما أوجه لذاتي من سُباب، وما أنعت به نفسي من صفات، وما أطلق عليَّ من أحكام أبسطها الفشل وعدم القيمة، حين أمر بنوبة اكتئابية، فيعود ليذكرني بأن لكل بشر على الأرض قيمته الخاصة: «مش دا كلامك؟». أراوغه، فأنعت نفسي بالغباء والكسل، فيلوِّح باختبار الذكاء، وكيف تعبر سلوكياتي عن أعراض مرضية ليس أكثر: «لا أحد يحبني».
ينظر ملاكي المنقذ بحزم في دفتره، ويُعدد حفنة من الأصدقاء، يدرك تمامًا عمق علاقتي بهم، وتستمر المُنازلة إلى أن يزرع بصدري بذرة صغيرة من الأمل أو الرغبة في المقاومة، يرويها بتمهل في كل زيارة أسبوعية، ولا يعبأ بمقاومتي وعنادي، لا يتهرب كذلك من أحاديثي العنيفة وإحساسي بالملل من دواء لا يجدي نفعًا.
تنبت بذرة المقاومة قرب نهاية كل نوبة، وتزهر في نهايتها. لم تزهر علاقتنا كذلك منذ المقابلة الأولى، بالرغم من أن وجهه البشوش أعطاني شيئًا من الأمن المبدئي جعلني أرضخ، بشكل مبدئي كذلك، لتشخيصه الأوَّلي: اكتئاب.
«مستحيل أنا يجي لي اكتئاب»، سارعت بالقول، فبدأ يعدد لي الأعراض التشخيصية لاضطراب الاكتئاب، لنجري إحصاء كم ينتابني منها، ولأي فترة زمنية، ظللت لفترة لاحقة أردد أن تشخيصه خطأ، وأن ما يصيبني نوبات من التدلل باهظ الثمن، إلا أنه تمسك برأيه إلى أن بدأت حالتي في التحسن لأول مرة بمساعدة مضادات الاكتئاب.
كان سعيدًا حينها، وتحديدًا بعد ثلاثة أشهر، حين قلت دون مناسبة: «انت دكتور شاطر على فكرة». للغرابة، رغم ذلك، لا أحتفظ بذلك الرأي كثيرًا، وبخاصة عندما تنتابني نوبات مرضية جديدة، أو ترتفع أسهم إحدى سمات شخصيتي الحدية، إذ أبدأ آنذاك بتوجيه اللوم إلى خطته العلاجية أولًا، ثم تجاهله لألمي وعدم تقديره معاناتي بوصف أحد مثبطات التوتر سيئة السمعة، وأخيرًا ألومه على وجوده ذاته، والذي يحول دون تحقيقي هدف التلاشي والاختفاء، أو التخلص من الذات.
أصبحت على دراية شبه كاملة بكيفية تغير موقفي من الطبيب بتغير أعراضي، تلك الخبرة ذاتها جعلتني أتيقن أن الأمر لم يكن مماثلًا في العلاقة بين رنا وطبيبها أستاذ الطب النفسي الشهير. أعرف الفتاة السمراء المصرية منذ فترة قصيرة.
تضيء «الواجبات» جزء الرأس في أثناء العلاج السلوكي. كأن يكلفك الطبيب بتدوين أي عبارة تخطر على ذهنك، وتبدأ باللفظ «أنا».
رنا اسم مستعار لفتاة مصرية، اخترناه حين وافقت على مشاركتي بعضًا من ملامح علاقتها بطبيبها النفسي، والتي استمرت ما يزيد عن عام بعد أن قررت لأول مرة اللجوء إلى العلاج النفسي للتخلص من ألمها الخانق، وما كانت تعانيه من حزن مصحوب بآلام جسدية.
وثقت رنا في قدرته العملية بشكل مبدئي كذلك، فقد عالج صديقات أخريات، وأحرز معهن تقدمًا ملحوظًا في محاربة الاكتئاب على مدار أعوام. لم تكن ثقة مطلقة رغم ذلك كما تشرح لي، فهي ما تزال تشعر مع كل زيارة بأنها تضع سيناريو مُسبقًا لمسار الجلسة، وتحديدًا لما ستُدلي به من بيانات، اسألها: إلى أي نسبة مئوية يعرفك الطبيب حقًّا؟ تُجيب: «50%».
كلما عبرت رنا باب العيادة الخاصة بطبيبها، زادت مخاوفها حول آرائه في ما ستقول. «أحكامه» كما تصفها، تثير قلقها الدائم، رغم أنه لم يُعطِ أي بادرة لإطلاق الأحكام والتعنيف أو التقليل من شأن أي بادرة منها. ترى الأمر مشكلتها الشخصية: «يمكن أنا اللي مش عارفة أستقبل قبوله ليَّا. أنا اللي مش عارفة أصدقه».
تصف لي صديقتي أفكارها ومشاعرها الحقيقية بمجموعة أغراض محكمَة التغليف، لم يتمكن الطبيب يومًا من فض غلافها ومطالعتها عن قرب. لم تطمئن هي كذلك لحقيقة أنه سيستوعب تمامًا مشاعرها ويدرك مصدرها دون وصم أو تقليل.
رغم ذلك، تحمل رنا في صدرها امتنانًا من نوع خاص للطبيب الذي يتدخل في أحوال الطوارئ ويدفعها إلى التحسن، إلا أنها اتخذت قرارًا شبه نهائي بوقف جلسات العلاج معه، لتذهب إلى طبيبة أخرى شابة بدلًا منه.
تصف أولى جلساتها معها بحماس: «اتكلمت معايا كتير، على عكس الدكتور الأولاني، كان كلامه مقتضب. قالت لي حاجات طمنتني وسلطت نور على حاجات جوايا وادتني واجب. أعتقد هبدأ أقول كل الكلام الحقيقي».
تضيء «الواجبات» جزء الرأس في أثناء العلاج السلوكي. كأن يكلفك الطبيب بتدوين أي عبارة تخطر على ذهنك، وتبدأ باللفظ «أنا»، أو إكمال جُمل على شاكلة: «أنا محتاجة أعيش علشان...». في البداية، رفضتُ أن أؤدي أيًّا من تلك التمارين بالغة السذاجة وتجاهلتها، إلى أن سألني الطبيب عنها في جلستنا الثانية على وجه التحديد، «مش هعمل شغل التنمية البشرية دا»، أجيب، فيرد: «لو معملتيهمش مش هقدر أكمل شغل معاكي».
كان له المُلك حينها. خرجت من الغرفة والعيادة، وبكيت ما إن أصبحت وحدي، وقررت ألا أعود إلى ذاك المتغطرس القاسي.
بعد ذلك، وفي منتصف الأسبوع، حاولت التدوين، وأنتجت صفحة مليئة بالمفاهيم المغلوطة والسوداوية عن ذاتي. لم أدرك قيمتها إلا بعدما تحسنت قليلًا وعاودت أداء التمرين: «أنا مش أنانية، أنا مش بتدلَّع، أنا أستحق أعيش من غير خوف، أنا أستحق أعيش».
لم يعان إبراهيم (اسم مستعار) من أي مشكلات مع طبيبه النفسي في ما يتعلق بمجريات العلاج السلوكي. حققا قدرًا من التوافق الثنائي رغم عدم وجود معرفة سابقة، أو تفاصيل عن أسلوب الطبيب العلاجي مع عملاء آخرين. فقد توصل إليه إبراهيم، الشاب العشريني مصري الجنسية، عن طريق أحد المواقع الإلكترونية، واختاره بناء على سعر الجلسات الملائم لقدرته المادية، إلا أنه شعر بالقبول تجاهه منذ الجلسة الأولى.
بدأ الحديث، كصديقين في سن متقاربة، أو بلغة صديقين كما ينبهني، شاملة المُزاح والسُّباب والتفاهم المتبادَل.
لم يكن يشعر بأي غربة أو حواجز في الحديث داخل العيادة النفسية عن ذاته، وعما يقابله من أحداث، وحتى حياته العاطفية. إلا أنه لم يصف طبيبه في تلك الفترة بـ«معالج جيد». فقط «مستمع جيد» يصف العلاج الدوائي، ويمارس العلاج المعرفي السلوكي.
لم يحن الفراق بينهما إلا بعدما انقطع إبراهيم عن زياراته للعلاج فترة طويلة، ثم عاد ليقابله الطبيب مستبشرًا أكثر من اللازم.
عاد الشاب إلى العيادة زائرًا وليس عميلًا. دلف إلى مكتب طبيبه ليلقي السلام. يتذكر العلاج الدوائي الذي ما زال منتظمًا في تناوله منذ أشهر طويلة. يسأل الطبيب عنه: « لأ لأ، أنت زي الفل، دا خلاص نوقفه».
شعر إبراهيم، كما يصف لي، بالسخف والاستهانة لأول مرة في حديث طبيبه، فقد كان يدري أن غالبية العقاقير المضادة للاكتئاب تتطلب إجراءات معينة للتوقف عن تعاطيها دون حدوث مضاعفات أو انتكاسات.
كان يعلم علم اليقين أن عمق مرضه لا يقاس باتساع ابتسامته عند مقابلة أحدهم بعد غياب. لذا، امتنع عن زيارة الطبيب ذاك، وذهب إلى استشاري آخر أكبر في السن، وأكثر خبرة بالأساليب العلاجية. يصفه لي:«راجل مشهور ستيني، لجأت له لما احتجت حد يسمعني، وهو شرح لي الاكتئاب غير الطبيب التاني، شرحهولي بالتفاصيل، وتأثيره على كيميا المخ، بمجسم عنده في العيادة. علشان كدا فيه دكتور ترتاح له، ودكتور شاطر».
لم تنته علاقة خديجة بالعلاج النفسي نهاية سعيدة. لم تحصل على كل الإجابات، إلا أنني تأكدت أن النهاية جاءت مُرضية.
تعلمت خديجة، صديقتي الكويتية، كيفية البحث والتقصي عن طبيب أو معالج نفسي «ملائم». وحدها، بخبرة ربما زادت عن 10 سنوات، إذ إنها قابلت أول استشاري نفسي في حياتها ولم تكن تخطت الثالثة عشرة من عمرها.
كان قرار والدتها بالأصل، التي واجهت ما وصفته صديقتي الشابة الثلاثينية بصعوبة في التواصل مع ابنتها المراهقة، وربما وجدت لدى الطبيب إجابات عما يحيرها، أو طمأنة منشودة على مخاوفة، إلا أن خديجة لم يصبها من هذا ولا ذاك إلا القليل، فكان الاستشاري يعمل في إطار مهني محاط بمعتقداته الدينية وخلفيات اجتماعية أخرى، قللت من فرص التعرف إلى ذاتها، أورثتها كذلك صورة نمطية سيئة للعلاج النفسي، تجذرت تلك الصورة لاحقًا بعد سنوات حين انتقلت شابة إلى العيش في أمريكا، وعملت لفترة مع معالجة نفسية عربية برؤية أحادية.
تقول صديقتي عنها:«لم تكن تفهمني حقًّا. كانت مأساتي أكبر من قدرتها على التصرف، فكثيرًا ما كانت تؤكد ضرورة قبولي لنفسي، إلا أنها كانت تحثني على طلب اللجوء الإنساني أو السياسي للحصول على حريتي».
بعد عودتها إلى الكويت، والمرور بتجارب علاج أخرى غير مجدية، تعرفت خديجة إلى معالجة جديدة تعمل بأسلوب «الدراما ثيربي»، وبدأت معها مشوارًا علاجيًّا مختلفًا، يستخدمان فيه الرسم والكتابة والأنشطة المختلفة لرصد الحالة النفسية التي تمر بها صديقتي والوقوف على أسبابها.
كانت العلاقة ودية تمامًا، تشملها ثقة خديجة في معالجتها منذ اللحظة الأولى، دون أن تجد لذلك سببًا محددًا. ولأول مرة، أصبحت مشارِكة فعالة في عملية العلاج النفسي، ولا يقتصر دورها على الحديث، ليدوِّن شخص آخر ملاحظاته.
حين طلبت منها معالجتها التوجه إلى طبيب نفسي ليصف لها علاجًا دوائيًّا مضادًّا للاكتئاب، بدأت عملية بحث دقيقة عن طبيب يقدم خدمة طبية خالية من الأهواء الشخصية أو الرواسب المجتمعية والدينية.
وجدتها بالفعل. طبيبة ملائمة لم تطاردها بإطلاق الأحكام، وشخَّصتها بالاكتئاب الجسيم. حاليًّا تبدأ علاقة خديجة بالعلاج النفسي في التراجع عن أولوياتها، رغم ما حققته خلالها من نجاح: «المعالجة النفسية بذلت معايا جهد كبير في تقبل أشياء والتصالح مع أشياء والمرور بفترات صعبة، لكن فيه أشياء مالهاش جدوى».
ربما لم تنته علاقة خديجة بالعلاج النفسي نهاية سعيدة. لم تحصل على كل الإجابات، إلا أنني تأكدت من نبرات صوتها في أثناء الحديث، أن النهاية جاءت مُرضية. وإذا ما قورنت بالمعاناة والألم، تبدو لي غالبية الإجابات جلية اليوم على مستوى شخصي، إذ لم يعد يرهقني السعي وراء: «لماذا؟» أو «لماذا أنا؟» على وجه التحديد.
في أفضل أيامي أنتظر الغد، أتساءل: «ماذا نحن فاعلون؟»، ثم أتذكر أنني وحدي من ستفعل، إذ عليَّ في لحظة ما أن أتخلى عن موعدي الأسبوعي في عيادة الطبيب لصالح آخر بحاجة للمساعدة. تؤلمني تلك الحقيقة، تُشعرني بوحدة مُسبقة، لكنها ربما الخدعة من المراد الأساسي من المشوار برمته، أن تتمكن من بناء علاقات أخرى صحية بعد بناء علاقة علاجية واضحة المعالم والحدود. سأفتقد طبيبي، حين أغادره. سيفتقدني كذلك، لكني سأعمل جاهدة على ألا أفقد ذاتي مجددًا. بمجرد أن أعثر عليها.