تنويه: بعض الأسماء الواردة في الموضوع ليست حقيقية، بل غيرناها بناءً على طلب من أصحابها للحفاظ على خصوصياتهم.
استيقظت صباحًا، متفائلًا ولديَّ شعور لطيف بحب الحياة. حلقت ذقني ثم اتصلت بصديق لم أره منذ فترة. قضيت يومًا مُبهجًا، وقررت أن أحجز في نادٍ ليلي لأرقص مع أصدقائي، ثم انطلقنا إلى هناك، لكن فجأة ودون أي سبب ظاهر داهمني شعور بأني لا أريد أن أكون برفقة أحد في هذه اللحظة، وأن ما فعلته كان خطأً جسيمًا. فكَّرت أنه «إيه اللي جابني هنا؟»، ثم تركت الناس ورحلت.
لم يفتتح مصطفى (24 عامًا) حديثه مع «منشور» بهذا الكلام، بل هكذا ختمه. كان يصف يومًا شديد العادية في حياته، يتكرر بالصورة ذاتها وبصور أشد قسوة طول عمره، بسبب معاناته مع الاضطراب الوجداني ثنائي القطب (Bipolar Disorder).
الشاب المصري، حين علم بإصابته بالـ«باي بولار» قبل عشرة أعوام، لم يكن يدري أنه يشارك أكثر من 50 مليون شخص في أنحاء العالم مرضًا لا شفاء منه حتى الآن، وتضعه منظمة الصحة العالمية سادسًا في الترتيب ضمن قائمتها لمسببات العجز. كان مصطفى يعيش مع عائلته في الإمارات وقتها، مراهق عمره 14 عامًا يدرس في المرحلة الإعدادية، حين داهمته نوبات غريبة من الابتهاج يليها اكتئاب غير مبرَّر. بدأ مستواه الدراسي في الانهيار، فقررت المدرسة تحويله لطبيب نفسي.
شخَّص الطبيب مرض مصطفى بطريقة خاطئة فنصحه ببعض المهدئات، وطلب منه أن يتقرب أكثر إلى الله. لم يفلح العلاج فيما يبدو، إذ ازدادت حدة الاكتئاب حتى وصل إلى مرحلة عدم السيطرة، فاحتجزه أهله في مستشفى للأمراض النفسية شهرًا، وهناك خضع لجلسات أشعة ورسم مخ مع استشاريين، حتى شُخِّص أخيرًا بالاضطراب ثنائي القطب، وبدأ في تعاطي العلاج بجرعات مكثفة إلى أن تحسن حاله، وصارت فترات الاكتئاب والهوس تحت السيطرة.
اضطرابي
يُعرَّف الاضطراب الوجداني ثنائي القطب بأنه مرض نفسي عقلي يمر صاحبه بمراحل متناوبة من الابتهاج غير الطبيعي (الهوس) والاكتئاب الشديد، قد تصاحبها هلاوس وأوهام.
تختلف فترات ابتهاج المرض عن البهجة الطبيعية؛ إذ يجد المريض نفسه نشيطًا طيلة الوقت، ولا يحتاج إلى النوم سوى فترات قصيرة قد لا تتجاوز ثلاث ساعات يوميًّا. خلال تلك المرحلة، يحب المريض الحياة ويقبل عليها بكل كيانه. يتحدث بسرعة ويقفز من موضوع لآخر بحماس، يفكر في مشروعات جديدة، كما يبالغ في تقدير ذاته وقدراته.
قد يعجبك أيضًا: «الهوغاه»: سر السعادة والدفء عند الدنماركيين
لا يمكن تحديد سنٍّ معينة للإصابة بالمرض، ويتساوى الأطفال مع البالغين في نِسَب الإصابة، كما لا يمكن تحديد أوقات لنوبات الهوس والاكتئاب.
أما في مرحلة الاكتئاب فيشعر المصاب بالاضطراب ثنائي القطب بيأس وحزن لا سبب لهما. يفقد المتعة التي كان يلاقيها في الأشياء التي يحبها، بما فيها الجنس، بحسب شرح مصطفى، الذي يضيف: «قد أكون شهوانيًّا لأقصى حد في بعض الأوقات، وفي أوقات أخرى أصير باردًا كالثلج».
المعالِجة النفسية لَمَى الحزيِّن شرحت باستفاضة أكثر: «أحد مرضاي كان عاطلًا عن العمل، بلا مال أو شهادة عالية، لكنه كان يعيش في مزاج رائق ويرى أنه موهوب وأن حياته غاية في الجمال. كان كثير الحديث عن نفسه طَوال الوقت، وعن مواهبه التي هي في الحقيقة ضرب من الخيال، وبعد أيام دخل في حالة اكتئاب وبكاء وعدم رغبة في الحياة دون سبب واضح».
لا يمكن تحديد سنٍّ معينة للإصابة بالمرض، ويتساوى الأطفال مع البالغين في نِسَب الإصابة، كما لا يمكن تحديد أوقات لنوبات الهوس والاكتئاب؛ إذ تختلف طولًا وقِصرًا بين مريض وآخر، وكذلك تختلف الفترات بينها تبعًا لمداومته على تعاطي الأدوية، وقد تضرب النوبة المريض لساعات ثم تغادر، وربما تستمر شهورًا.
ولم يصل العلم بعد إلى علاج شافٍ للمرض، وكذلك لم يعرف أسبابه حتى الآن. نعلم فقط أن النسبة الأكبر من الإصابة تتسبب فيها عوامل وراثية؛ فلو كان أحد الزوجين مصابًا، فإن احتمال انتقال المرض إلى الابن يكون 10%، أما لو كان كلا الوالدين مريض باي بولار؛ فإن النسبة ترتفع إلى 40%. وليس الاضطراب الوجداني ثنائي القطب مرضًا نادرًا، بل إن دراسة للجمعية الوطنية للأمراض النفسية أكدت إصابة 57 مليون بالغ في الولايات المتحدة وحدها به.
ليست لدينا إحصاءات من هذا النوع في المنطقة العربية، لكن لنا أن نتخيل نسبة الإصابة بالتأكيد. ولو جربت أن تبحث على الإنترنت، لن تجد أخبارًا تتضمن «الاضطراب ثنائي القطب» سوى التي تذكر أسباب الانتحار، أو ترجمات لأخبار أجنبية، أو تلك التي تسرد لك حفنة معلومات من موسوعة ويكيبيديا العربية عن 10 فنانين عباقرة كانوا مصابين بأمراض نفسية.
رحلتي
تعمل الحزيِّن، التي تحمل الجنسيتين السعودية والأمريكية، في مصحة «فاليو» بولاية كانساس، وتحضِّر الدكتوراه في علم النفس، كما تقدم مساعدات لمرضى الباي بولار ضمن عدة مجموعات، إحداها «دعم مرضى الاضطراب الوجداني ثنائي القطب»، المجموعة العربية الأكبر على موقع «فيس بوك».
داهمته النوبات متتاليةً شديدة، تُخرجه من الظلمات إلى النور وتعيده إليها، تضربه في الحائط بقسوة ثم تستقبل ارتداد جسده بحنان على مرتبة ريش.
مجموعة الدعم تلك أسسها الشاب الأردني يزيد في مارس 2016، بتشجيع من صديقه المصري علي شاهين، لتصير أكبر تجمُّع عربي للمصابين بالباي بولار والمهتمين بالمرض على موقع التواصل الاجتماعي. يزيد، البالغ من العمر 23 عامًا، مصاب أيضًا، لكنه في حياته لم يتعرف إلى مرضى غيره.
قبل تأسيس المجموعة كان يشعر أنه الوحيد في العالم، ثم ضربت الفكرة رأسه وقرر تنفيذها: «كنت متعطشًا لرؤية أشخاص مثلي، آخرين لهم تقريبًا أعراض المرض نفسه، أتحدث معهم وأتعرف إليهم».
كان يزيد في المرحلة الثانوية حين شعر بنوبات المرض لأول مرة. الآن صار طالبًا يدرس القوى الحرارية، في السنة الخامسة من كلية الهندسة بجامعة العلوم والتكنولوجيا في الأردن. بعد أن حصد مجموع 94% في الثانوية، تابع اجتهاده في الكلية في أول عامين، وعُلِّق اسمه على لوحة الشرف بعد السنة الثانية، ثم ارتبكت كل الحسابات فجأة.
داهمته النوبات متتاليةً شديدة، تُخرجه من الظلمات إلى النور وتعيده إليها، تضربه في الحائط بقسوة ثم تستقبل ارتداد جسده بحنان على مرتبة ريش. بسبب نوبات الاكتئاب؛ صار لا يستطيع السيطرة على مزاجه، وبدأ يتغيب عن المحاضرات، ويفقد التركيز في المواد التي يدرسها، ثم رسب في الدراسة.
كان يتقلب بين موجات من الاكتئاب والهوس، الشقاء والسعادة. خلال اكتئاباته يفقد الأصدقاء، يُضحي وحيدًا أغلب الوقت، يضيق بالقرب من البشر، أداؤه العقلي يسوء، يملُّ بسرعة، يثور على أشياء تافهة، لا يقدر على ربط الأفكار، يشعر بالخوف من كل ما هو جديد، وبالعجز عن إنجاز الأشياء.
في نوبات هوسه؛ ينسى فترات الاكتئاب تمامًا، يحبُّ نفسه ويقدرها أكثر مما تطيق، تتصارع الأفكار في عقله، يغني بصوت عالٍ وبشكل حماسي، لا يشعر بالحاجة للنوم، يتفجَّر جسده نشاطًا وطاقة، يثق في قدراته؛ فيكوِّن صداقات مع البنات وهو الخجول دومًا، بل يعوِّض أحيانًا ما رسب فيه من مواد عندما كان مكتئبًا، وأكثرها يتفوق فيه.
بعدما رسب في سنته الثالثة؛ قرر أن يعرف سبب ما هو فيه، فبدأ يقرأ عن الأمراض النفسية. صادف كتاب «الاكتئاب: اضطراب العصر الحديث» للدكتور عبد الستار إبراهيم، فوجده يذكر أعراض الباي بولار، وعلم أن هذا هو. شعر بالذهول، هالَهُ أن ما ينتابه مرض معروف وموصوف، سببه بيولوجي. خالجه الأمل لمَّا عرف أن هناك علاجًا للسيطرة على النوبات، وأحس بعبء كبير ينزاح عن صدره، بعد أن كان يلوم نفسه على ما يقع له.
قد يهمك أيضًا: انقراض الأدب العربي: هل يُغني فيسبوك وتويتر عن قراءة المتنبي ونجيب محفوظ؟
مثل يزيد، رحلة مصطفى لم تكن سهلة؛ إذ بدأ الأطباء علاجه بـ«الديباكين»، الذي يُستخدم كذلك لعلاج الصرع: «الدواء كان مخيفًا، كان يضعني في حالة لا أشعر فيها بشيء ولا أفكر على الإطلاق».
صار يشعر أنه مختلف، شيءٌ ما ليس على ما يرام بداخله. كلما استشعر نوبة اكتئاب في الطريق، يكسر واحدًا من أصابعه بسبب التوتر. كسر إبهامه وحده أربع مرات، غير الأصابع الأخرى. حين فكَّر في حاله لم يعجبه؛ فاعتزم أن يتخلى عن حياته ويبدأ واحدة جديدة «على نظافة». عاد إلى مصر عام 2009، ومع عودته كبر نهمه لمعرفة كل شيء عن الباي بولار، ومع نموِّ المعرفة، قرر أن يقلل الأدوية حتى يوقفها تمامًا، ويحاول السيطرة على نفسه دون مضادات الاكتئاب.
الآن، صارت له ثلاثة أعوام ناجحًا في التحكم في مزاجه دون كيمياء، لكنه يضطر أحيانًا إلى تناول بعض المنومات، إذ يعاني من صعوبة في الخلود إلى النوم.
عائلتي
يضع الباي بولار المصاب به باستمرار في مزاج مضطرب بين السعادة والحزن، سيفرض على المريض طريقة صعبة في التعامل مع الأشخاص من حوله. الأهل والمقرَّبون منه يعرفون، لكن غيرهم لن يفهم، وحتى المقربين ليس كلهم سيتفهَّم.
ثنائي القطب مرض معقد، والمصاب به يصير حسَّاسًا للغاية. حكى يزيد ما عنده لبعض أصدقائه وصديقاته المقربين فقط، وإخوته كذلك، لكنه لم يحك لوالديه لأنهما «لن يتفهما المرض» كما يوضح.
أما مصطفى فعانى كثيرًا من غير المتفهِّمين، خصوصًا صديقه الذي شرح له مرضه منتظرًا منه دعمًا؛ فلم يجد إلا الشفقة: «فوجئت برد فعله، وشعرت أنه خذلني. قاطعته فورًا، ولا أزال حتى الآن. الباي بولار مرض بيولوجي ولا فارق بينه وبين السكر والضغط، ويمكن للمريض أن يصل لمرحلة استقرار لو عرف كيف يتحكم في نوباته».
يضع مصطفى الآن حدودًا وشروطًا أمام من قد يحكي لهم، إلا إنه لا مفر من وقوع مشاكل مع بعض من لا يعرفون؛ أشخاص يتعامل معهم بصورة يوميَّة فيرونه في جميع حالاته: «أضطر إلى الشرح والتبرير، وأحيانًا أسكت، لكن لو سكتُّ ألتمس لهم العذر، أعلم أني أنا المخطئ».
يستطرد: «خلال نوبات الاكتئاب، وكذلك عندما أجدني مسرورًا بصورة غير طبيعية أو أتحدث كثيرًا، أعرف أني يجب أن أكون وحدي. أشعر وقتها أن هناك خللًا داخلي، ولكي أعالجه لا بد أن أغلق هاتفي وأبتعد عن الناس. من أجل ذلك أعيش وحدي وأعمل مستقلًّا من المنزل، كي لا أجد نفسي تحت ضغط الالتزام بساعات عمل بين الناس».
تؤكد لَمَى الحزيِّن في حديثها لـ«منشور» دور العائلة المهم في التعامل مع المرض: «أنصح دائمًا بجلسة تجمع المريض وعائلته والطبيب المعالج أو الاختصاصي، وفيها يشرح المعالج طبيعة المرض للعائلة بطريقة علمية وطبية صحيحة». سيؤثر تعامل أفراد العائلة ومن يراهم المريض يوميًّا في حالته النفسية، فهو يحتاج بشدة إلى أشخاص حوله يقدِّرون ما يشعر به، ويستجيبون لطلباته.
يُكمل مصطفى الحديث: «أفراد الدائرة المقربة مني يفهمون ذلك، ويعرفون أني قد لا أكون في حالة مستقرة طول الوقت، وأن عليهم أن يستجيبوا لو طلبت أن أكون وحدي لفترة، حتى أتمكن من السيطرة على نفسي وأعود لمرحلة الاستقرار».
حبيبتي
كما العائلة، للارتباط دور كبير في تعديل مزاج مريض الباي بولار، وشريكة/شريك حياة المصاب قد يكون السبب الأهم في راحته نفسيًّا، أو ربما يتسبب في تدمير حياته. لو لم يتفهم طبيعة مرض حبيبه/حبيبته، سيولِّد هذا مشاكل بلا حدود.
ومن خبرتها في علاج المرضى تحكي الاختصاصية لَمَى: «كثيرًا ما تقع المشادات بين الأزواج، وترتفع الأصوات بالزعيق دون معرفة سبب الخلاف الحقيقي. قد يظن الرائي أن ما يحدث بسبب اختلاف في طبيعة كليهما، لكن الحقيقة أن المشكلة هي عدم تفهُّم المرض، وينتهي الأمر بالطلاق»،.
يؤكد مصطفى هذا الأمر، إذ يروي أنه دخل علاقة دامت ثلاثة أعوام، وكان لها فضل كبير في تحسُّن مزاجه: «شريكتي في العلاقة كانت أكثر من يتحمل تقلباتي. شعرتُ لأول مرة في حياتي بأني شخص سويٌّ وكامل بسببها. كنت أحُسُّ بأن أحدًا يتحكم في مزاجي. قلَّت نوبات الاكتئاب جدًّا، لدرجة أني صرت لا ألحظها، وعشت حياة طبيعية كأني أتناول الأدوية بانتظام».
التجربة ذاتها خاضها يزيد، وبدوره أكد أن حبيبته كانت أكثر من احتمل تقلبات طبعه، وظلت تشد من أزره وتشجعه على الانتظام في العلاج، لكن المرض تدخل ليفرض ظِلَّه ثقيل الوطأة على حياة الشابين، وقرر يزيد أن ينفصل عن حبيبته خلال إحدى نوبات الاكتئاب.
الحشيش يجعل أعراض المرض أكثر قوة، فيزيد طول وعنف نوبات الاكتئاب والهوس.
انفعالي
لدى وجوده بالمستشفى في الإمارات، تحدث مصطفى إلى شاب أردني يُدعى بدر الدين. بدر مريض باي بولار، خلال نوبة اكتئاب حاول أن يقتل شخصًا، طعنه بالسكين، لكنه نجا.
قد يحدث هذا مع مرضى ثنائي القطب، لكن ليس دائمًا. وتؤكد الحزيِّن أن العنف ليس من أعراض المرض، لكن «إذا عانى المصاب من قلة صبر وانزعاج من حوله؛ من الممكن أن يفقد أعصابه، وقد يؤدي ذلك إلى شيء من العنف أو القسوة، كما أن عددًا من الدراسات أوضح أن بعض المصابين بالباي بولار قد يقترفون جرائم في مرحلة الهوس؛ كالضرب والسرقة».
بعدما عايش مصطفى التجربة بنفسه؛ صار يلتمس العذر دومًا للمنتحرين من مرضى الباي بولار والتوحد والفصام.
ليس تعامل الآخرين فقط ما قد يولِّد العنف لدى المريض؛ المخدرات كذلك تفعل، والحشيش على وجه الخصوص. وبحسب لَمَى، فإن الحشيش يجعل أعراض المرض أكثر قوة، فيزيد الاكتئاب ويزيد الهوس.
يؤكد مصطفى ذلك من تجربته مع المخدرات، إذ يؤثر الحشيش عليه سلبًا ويزيد مزاجه تقلُّبًا، لكن سُلطته تتجلى على المدى الطويل: «الحشيش يتحكم في الجهاز العصبي، وهو أحد مسببات الاكتئاب المعروفة».
اقرأ أيضًا: الأخبار تصيبك بأعراض الصدمة النفسية.. والعلاج تخصيص وقت «للنكد»
مَوْتي
لا يتوقف التأثير الخبيث للاضطراب الوجداني ثنائي القطب عند الحالة النفسية السيئة، ولا عند الحزن مجهول المصدر، أو الرغبة في عدم مخالطة الناس؛ بل يتجاوز ذلك إلى التفكير الدائم في الانتحار.
يعيش المريض دومًا بأفكار انتحارية تلاحقه. يمسي الموت صديقه، يلازمه في صحوِه ونومه، يتناول معه إفطاره ويشاطره سريره، ويزور دومًا أحلامه. يقول مصطفى، الذي حاول قتل نفسه مرتين بالفعل عامي 2010 و2014: «يصبح الانتحار حلًّا لطيفًا ومريحًا أحيانًا».
يؤكد مصطفى أنه، بعدما عايش التجربة بنفسه، يلتمس العذر دومًا للمنتحرين من مرضى الباي بولار والتوحد والفصام، الذين يعيشون في الأغلب منعزلين، ويرون تفاصيل كئيبة وموجعة للغاية، في الحياة بشكل عام وفي تصرفات المقربين منهم بالأخص، لا يلحظها غير المرضى أبدًا.
الأمر نفسه يؤكده الشاب الأردني يزيد، الذي قرر الانتحار مرة واحدة، خلال نوبة اكتئاب شعر فيها بأنه وصل إلى قاع الهزيمة وخيبة الأمل، لكن صديقه الذي أفضى إليه بقراره أقنعه بالعدول.
لَمَى الحزيِّن بدورها تشير إلى أن أسوأ لحظاتها مع مرضى الباي بولار تكون حين يخططون للانتحار، لكنها تشرح نقطة مهمة ها هنا: «يعتقد كثيرون أن أغلب المرضى ينتحرون خلال فترة الاكتئاب، لكن الدراسات تشير إلى أنهم ينتحرون في مرحلة الهوس الشديد (الابتهاج)». تحكي أن إحدى المريضات فاتحتها يومًا في أنها انتهت من التخطيط للانتحار، وجهزت كل تفاصيل جنازتها، ووزعت ممتلكاتها على المقربين إليها، فاضطرت لتحويلها إلى المستشفى كي توضع تحت مراقبة مستمرة.
قد يعجبك أيضًا: ملف «منشور» عن الانتحار
ملاذي
إذًا، دعم المحيطين بالمريض مهم جدًّا، لكن الدعم من الغرباء ضروري كذلك، وليس أفضل من «فيس بوك»، أكبر تجمع بشري على الإنترنت، لإنشاء مجموعة دعم لمرضى باي بولار. وتضم مجموعة «دعم مرضى الاضطراب الوجداني ثنائي القطب» ما يقرب من 5 آلاف شخص، ما بين مرضى وأطباء ومهتمين بالمرض.
يقول يزيد لـ«منشور» إن المجموعة تضم عددًا من الاختصاصيين والأطباء، إضافة إلى فريق للإدارة أغلبه من الاختصاصيين النفسيين. يوضح أن أغلب أطباء المجموعة مشهورون جدًّا، وأنه تواصل معهم بنفسه، ووافقوا على الانضمام ومساعدة المرضى مجانًا، كما لا يزال يحاول التواصل مع أطباء موثوقين يمكن الاعتماد عليهم؛ للإجابة عن أسئلة أعضاء المجموعة وتقديم النصيحة.
يبدو صوت يزيد حزينًا وهو يستطرد: «بعض أصدقائي رأوا أني متكبر لأني أعتزل الناس».
يؤكد يزيد أن مجرد رؤية شخص له أعراض المرض نفسها والتحدث معه تُشعر المصاب بأنه ليس وحيدًا. سماع نصائح الاختصاصيين وتلقي الدعم المعنوي من أعضاء المجموعة المصابين ساعده كثيرًا، وكذلك سماع تجارب الآخرين والتعرف إلى المرض أكثر، وأفاده أيضًا مشاهدة كيف يتعلم المرضى في المجموعة السيطرة على المرض والتعامل معه، إضافة إلى نصائح مَنْ عانوا من ضربات المرض ثم استقر حالهم: «أعاد لي هذا الأمل».
نصيحتي
لا يُخفي يزيد ضيقه من أن المجتمع لا يعرف إلا أقل القليل عن الأمراض النفسية وأسبابها. يتمنى أن يكتشف العلم علاجًا قاطعًا لمرضه، لكنه يتمنى أكثر أن يقرأ العرب مزيدًا عن الباي بولار، وأن يتوقفوا كذلك عن الحكم على المرضى. يبدو صوته حزينًا وهو يستطرد: «بعض أصدقائي رأوا أني متكبر لأني أعتزل الناس».
تشدد المعالجة لَمَى الحزيِّن على أن الوعي والإدراك وفهم طبيعة المرض يعتبر نصف طريق العلاج. تنصح دومًا أقارب المرضى بالقراءة عن الباي بولار؛ كي يفهموا المرض ويتعاملوا معه بطريقة أفضل. تشير إلى أن معظم الناس لديهم «أزمة في التعامل مع أي مرض نفسي؛ إما يتعاملون بشفقة أو عطف، أو يعتبرون المريض مجنونًا»، بينما من الضروري أن يعرف الناس أهم ما يحتاج إليه المريض؛ وهو احترام المساحات.
يلتفت مصطفى إليَّ ويقول: «إذا قلتُ لكَ دعني وحدي؛ فافعل.. فورًا».