مع ظهور الحركات النسوية في العالم وبروز أنشطتها، تنبت أسئلة في عقول الجماهير عن ماهية هذه الحركات والأفكار التي تقوم عليها، ومعنى المطالبات التي ترفعها.
ولعل النسوية من الحركات التي تحتاج إلى إيضاح وتفسير؛ لأنها في كثير من الأحيان تُفهم بطريقة خاطئة، وهو الأمر الذي يؤثر على تحقيق مطالبها.
وفيما يلي نجيب أكثر الأسئلة شيوعًا، التي رصدناها بمتابعة نقاشات مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بالتزامن مع التحرك النسوي في المنطقة؛ وأهمه الحراك النسوي السعودي، والحاجة إلى التعريف ببعض المفاهيم والأفكار والتفصيلات.
ما هي النسوية؟
النسوية مصطلح يُطلق على النظرية الفلسفية والفكر الذي يناهض التمييز على أساس الجنس، ويطالب بوقف العنف ضد المرأة وتحريرها من الاضطهاد بجميع أشكاله، وينادي بالمساواة اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، وتحويل المرأة من عضو مهمَّش إلى عضو فاعل في المجتمع.
وتتشعب النسوية إلى جميع المناحي الحياتية التي يمكن فيها التمييز ضد الأنثى لحساب الذكر، حتى اللغوية منها، لنزع السيطرة الذكورية وتفوقها المفتعل.
ويؤكد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي «بيير بورديو» (Pierre Bourdieu) أن «هذه السيطرة مغروسة في اللاوعي الجمعي عند البشر منذ قرون، وتحوَّلت إلى عنصر غير مرئي وغير محسوس في العلاقات بين الرجال والنساء، وينبغي بالتالي إخراج هذا اللاوعي وتحويله الى وعي يعيد كتابة التاريخ».
وانقسمت النسوية إلى عدة مدارس فكرية؛ منها الليبرالية والراديكالية والاشتراكية والسحاقية ونسوية ما بعد الحداثة، وتختلف كلها في تفسيراتها وأدوات تحليلها، لكنها تتفق عادةً على النقاط الأساسية؛ وأهمها مناهضة النظام الأبوي، وللاستزادة يمكن مراجعة تلخيص كتاب «الحركة النسائية».
اقرأ أيضًا: كيف تعيش المرأة السعودية تحت ولاية الرجل؟
ما هو النظام الأبوي؟
يُعرِّف الدكتور إبراهيم الحيدري، عالم الاجتماع العراقي، النظام الأبوي بأنه علاقة هرمية تراتُبيَّة، تحكم الرئيس والمرؤوس في العائلة والقبيلة والطائفة والدولة، مشيرًا إلى أن السيطرة الأبوية الهرمية تقرر ثنائية من التسلط والخضوع بين الحاكم والمحكوم، وتُولِّد صراعًا اجتماعيًّا وتناقضًا نفسيًّا من شأنه تضخيم الذكورة وبخس الأنوثة، وجعل الولد البكر رجلًا متسلطًا.
وتنتقل هذه العلاقة التسلطية من البيت إلى المدرسة والوظيفة والمصنع والمؤسسات الأمنية والعسكرية، وحتى قمة هرم السلطة، وتقوِّي التنظيم البيروقراطي الذي يقوم على القمع والطاعة والخضوع، ويحوِّل الأفراد إلى مجرد آلات تُمسَخ شخصياته وتُغتصب حقوقهم وتُمحى إنسانيتهم.
لا تمانع النسوية أن يكون الرجل حليفًا لها، فالرجل ليس عدوًّا للنسوية؛ بل الذكورية عدوتها.
هذا النظام عبارة عن بنية اجتماعية سيكولوجية تقوم على التسلُّط والخضوع، وهو الهيكل الذي ينبني عليه قمع النساء وتعزيز الهيمنة الذكورية، التي تُفصِّل أدوار الذكر والأنثى وتحدُّها في أُطُر معينة، مانحةً سلطة تحديدها لتقاليد اجتماعية يصيغها هذا النظام الذكوري.
هل تكره النسويات الرجال؟
إن كون النظرية النسوية «فلسفية» يضعها في المصاف العقلاني لا العاطفي، وبالتالي ليست مسألة المحبة والكراهية محورًا في الفكر النسوي، لكن يمكن لهذا التساؤل أن يكون ناتجًا عن متابعة مشاهد الغضب والسخط لدى بعض النساء أو النسويات، اللاتي يُعبِّرن عن مشاعرهن الرافضة للسلطة الذكورية القاسية، والتي بدورها قد ترسم في الأذهان فكرة كراهيتهن للرجال، وهذا غير صحيح.
وتقوم النسوية على فكرة تدعيم المساواة مع الجنس الآخر لا رفضه، والتحرُّر من القيود الذكورية والسلطة الأبوية لا من وجود الرجل، ولا تمانع النسوية أن يكون الرجل حليفًا لها في رفض هذه القيود، فالرجل ليس عدوًّا للنسوية، بل الذكورية عدوتها، وهذا هو الفارق.
وربما يجدر بنا ذكر أن الفيلسوفة الفرنسية «سيمون دي بوفوار» (Simone de Beauvoir)، إحدى أهم المنظِّرات في الفلسفة النسوية، ارتبطت بالفيلسوف الفرنسي «جان بول سارتر» (Jean-Paul Sartre)، دون أن يوقفها هذا عن كونها منظِّرة في الفكر النسوي، وكذلك فعلت «إميلين بانكيرست» (Emmeline Pankhurst)، رائدة حركة المساواة السياسية في بريطانيا، إذ تزوجت المحامي «ريتشارد بانكيرست» وشاركها المطالبات والمسيرات.
قد يعجبك أيضًا: تقاطعات بين المثلية والنسوية
هل تريد النسوية أن تكون للمرأة أفضلية على الرجل؟
هذا خطأ شائع، والنسوية ليست المقابل المطابق للذكورية. ففي الوقت الذي تعني فيه الذكورية سيطرة جنس الذكر على الأنثى، لا يعني ذلك أن النسوية هي العكس تمامًا. النسوية تطالب بالمساواة وكسر القوالب وتغيير النظم التي تخلق اضطهادًا للأنثى في مقابل مميزات للذكر، ولا تعني لا سيطرة الأنثى أو المطالبة باضطهاد الذكر، بل بإعطاء المميزات نفسها للأنثى بشكل متساوٍ.
هل يمكن للرجل أن يكون نسويًّا؟
يقول البعض إن الرجل بإمكانه أن يكون نسويًّا إن أراد؛ مؤمنًا بالمساواة ورفع التمييز على أساس الجنس بجميع أشكاله، وممارسًا لهذا وداعمًا له، إلا أن رأيًا آخر يذهب إلى أن الرجل يمكنه أن يكون داعمًا لحقوق المرأة لا نسويًّا؛ لعدم قدرته على فهم ما تمر به وتعانيه.
الفيلسوف الإنجليزي «جون ستيوارت مِل» (John Stuart Mill) مثلًا كان من أوائل المطالبين بحقوق المرأة السياسية ومساواتها بالرجل، وله أثر مهم في الحركة النسوية في القرن التاسع عشر.
هل يمكن أن تكون المرأة ذكورية؟
تواجه الكثير من النسويات رفضًا وهجومًا من بعض النساء، ومن أمثلة ذلك هاشتاغ #لن_تسقط على موقع «تويتر»، الذي يشارك فيه عدد كبير من النساء الرافضين لحملة إسقاط الولاية عن المرأة السعودية. وهذا الانحياز لاستمرار اضطهاد المرأة تصرف «ذكوري» تبعًا للتعريف، وقيام نساء به لا يغير من كونه ذكوريًّا، لكن ما الذي يدعو هؤلاء النسوة إلى مثل هذا الفعل؟
إن عملية التجهيل والتنشئة على أسس ذكورية تمييزية وقامعة للمرأة لم تبدأ منذ وقت قريب، فالنظام الأبوي وضع ركائزه منذ قرون طويلة، أنتج خلالها أفكارًا غرسها في عقل الأنثى قبل الذكر.
من الطبيعي أن نرى نساءً يرفضن رفع الاضطهاد، فالاعتياد يخلق أُلفة، وقلة الوعي تخلق جهلًا.
في كتابه «أصل العائلة»، يوضح الفيلسوف الألماني «فريدريك إنجلز» (Friedrich Engels) من وجهة نظر النسوية الاشتراكية أن اضطهاد المرأة بدأ مع صعود المجتمع الطبقي وظهور الأسرة النواة.
يعني هذا أن اضطهاد المرأة بدأ قبل مئات السنين، كان خلالها يتم إقناع المرأة أنها أقل قيمة، وأنها إنسان ومواطن من الدرجة الثانية، من حق الرجل أن يتملكها ويتسلط عليها، ويعتبرها أداة جنسية للمتعة وإنتاج الأطفال وليس لرغباتها أهمية، والعنف ضدها مستساغ عبر مؤسسات عدة؛ منها المؤسسة الدينية والإعلامية والتربوية.
بعد هذا كله، من الطبيعي جدًّا أن نرى نساءً يرفضن رفع الاضطهاد، بل و لا يعتبرنه اضطهادًا، فالاعتياد يخلق أُلفة، وقلة الوعي تخلق جهلًا يظهر في شكل رفض قاطع. وعلى هذا، فإن أي تصرف ذكوري تفعله أو تؤيده امرأة، ما هو إلا نتاجٌ لترسبات الهيمنة الذكورية عبر أزمنة.
قد يهمك أيضًا: كيف ينظر رائد تصوير «السوبر موديل» إلى الموضة وقضايا النسوية؟
ما علاقة النسوية بالدين؟
تاريخيًّا، ظهرت بعض الحركات النسوية الدينية في الأديان الإبراهيمية الثلاثة؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، تعيد تفسير القواعد الدينية المتعلقة بمعاملاتها مع المرأة، وتطالب بأوضاع أفضل.
ومن ذلك محاولة الحركة النسوية اليهودية إدخال النساء إلى الحاخامية المغلقة حكرًا على الرجال، ومطالبة النسوية المسيحية بألا تكون المناصب الدينية كالقساوسة والباباوات ذكورية فقط، ومحاولة النسوية الإسلامية تنقيح التراث الديني وإعادة تفسير النصوص لتقليص المسافة التي تخلقها بين الجنسين، خصوصًا فيما يتعلق بتعدد الزوجات والميراث وضرب الزوجة، وغيرها من المسائل التي لا تحقق المساواة وتعزز من السلطة الذكورية.
وتكمن المشكلة في أن أيًّا من هذه الحركات لم يحقق الكثير من التقدم، وأي تغيير حدث كان طفيفًا، إذ إن التعامل هنا في حدود ضيقة ومقدسة يجب عدم المساس بها من قبل المؤمنين، بالإضافة إلى أن طابع هذه الأديان تأسس بشكل ذكوري في الأصل، ومن غير المنطقي محاولة تعديل تفاصيله دون المساس بأساسياته.
اقرأ أيضًا: هل هناك حركة نسوية حقيقية في الكويت؟
ما علاقة النسوية بحقوق الإنسان؟
المرأة تواجه سلطتين؛ الذكورية التي تقمعها لجنسها، وسلطة الدولة التي تقمعها باعتبارها مواطنًا.
إحدى الإشكاليات التي تقف عندها النسوية هي اعتبار كلمة إنسان مرادفًا للذكر، وأن الأنثى استثناء على فكرة الإنسان، تحتاج إلى الإشارة إليها بالتحديد لتبيانها.
وتذهب بعض النسويات إلى أن فكرة «حقوق المرأة» جزء من حقوق الإنسان، تأكيدًا لاعتبارها أحد أنواع الجنس الإنساني لا استثناء عليه، وأن المطالبة بحقوق الإنسان هي مطالبة بحقوق المرأة بالضرورة.
فالمطالبة على سبيل المثال بحرية التعبير أو التنقل أو المشاركة السياسية، تعتبر بالضرورة مطالبة بهذه الحريات لأي نوع إنساني ذكرًا كان أم أنثى، إلا أن بعض النسويات يذهب إلى أن هذا تمييع لقضية المرأة ومساهمة في تهميشها، فطالما هناك نظام أبوي يخصها بالاضطهاد، يجب أن تُختص بحقوق واضحة لها.
فالمرأة بصفتها مواطنة تواجه سلطتين؛ السلطة الذكورية التي تقمعها لجنسها، وسلطة الدولة التي تقمعها باعتبارها مواطنًا، على عكس المواطن الذكر الذي يطالب دولته بحقوق الإنسان فيواجه سلطةً واحدة للقمع.
ما علاقة النسوية بالسلطة؟
النسوية ضد جميع الأنظمة السلطوية الديكتاتورية والقبلية، وغيرها من الأنظمة القائمة على أساس أبوي، مهما ادَّعت هذه الأنظمة دعمها للمرأة.
ويرى الفكر النسوي أن هذه الأنظمة تبقى أساس كل اضطهاد تواجهه أنثى في المجتمع؛ بدايةً من علاقتها مع ذكور عائلتها في المنزل وانتهاءً بقوانين الدولة، مرورًا بما تقاسيه في التعامل الاجتماعي، وما تتعرض له من تأطير ونظرة وعنف مع ذكور المجتمع.
إن كل ما تواجهه الأنثى في مجتمع ذكوري يكون بسبب هذا النوع من السلطات الأبوية، مهما اختلف شكل هذه السلطات؛ سواءً كانت الدولة أو القبيلة أو رأس المال. وتبقى هذه السلطات الأساس الذي تقوم عليه كل أنواع الاضطهادات، لأنها لبنة بناء الهيمنة الذكورية في المجتمعات وراعيها الأول، حتى وإن أطلَّت بالعكس في الواجهة.
وسيواصل «منشور» تحديث هذا الموضوع بمزيد من الأسئلة والأجوبة بخصوص النسوية متى طرأت، فإن كان لديك أي سؤال شاركنا به في التعليقات.