«خدعتني إعلانات حفاضات الأطفال». هكذا بدأت سلمى حديثها معي بابتسامة شخص تخلى عن سذاجته وصار يعرف كل شيء. سلمى أم لطفل واحد عمره الآن ثلاث سنوات. عانت من اكتئاب ما بعد الولادة، الذي أطفأ فرحتها بولادة طفلها الأول وغيَّر كثيرًا في تصورها للحياة والمستقبل.
يصيب اكتئاب ما بعد الولادة من 10% إلى 15% من الأمهات بعد أسابيع قليلة إلى عام واحد من الولادة. كثيرًا ما تُتجاهل أعراضه ولا يُشخَّص حتى في دول العالم المتقدمة، باعتبار أن التغيرات التي تطرأ على سلوك الأم وصورتها أمور طبيعية تحدث نتيجة وضعها الجديد. تُظهر تحليلات نتائج عدة دراسات علمية أن 20% من الأمهات في الدول النامية يُصَبن باكتئاب ما بعد الولادة، خلافًا لأرقام سابقة كانت تشير إلى ارتفاع نسبته بين الأمهات في البلدان الأعلى دخلًا.
كوَّنت سلمى صورة ذهنية وردية مخالفة للواقع: «تصوَّرتُ أن الرضَّع يلهون ويمرحون إلى أن يأتي موعد تغيير الحفاضة. ظننت أن حياتي كأم ستكون مزيجًا من الحب والنوم واللعب».
نحكي في هذا الموضوع رحلة سلمى مع اكتئاب ما بعد الولادة، ونعرِّج على مقتطفات من قصص أمهات أخريات واجهن المشكلة نفسها، محاولين التعرف إلى المرض وأهم مسبباته وطرق علاجه.
حزن مقيم: أعراض اكتئاب ما بعد الولادة
كانت سلمى (31 عامًا) في حالة من النشوة عندما غادرت المستشفى بعد ولادة ابنها آدم بعملية قيصرية. رغم الآلام، كانت تشعر بأنها «تطير فوق السحاب»، ولم تتبين حجم المسؤولية إلا عندما انتقلت للإقامة في منزل أهلها لمدة ثلاثة أسابيع، وبدأت تمارس الأمومة.
بعد الولادة تكون المرأة معرضة لثلاث صور من تغير المزاج:
1. «الكآبة النفاسية» (Baby Blues): تصاب بها معظم الأمهات في الأيام التالية مباشرة للولادة، وهي تغيير مزاجي طبيعي تتناوب الأم فيه مشاعر فرح وحزن عميقين. ربما تبكي دون سبب، وتشعر بنفاد الصبر والتوتر والقلق. قد تستمر هذه المشاعر من أيام قليلة إلى أسبوعين بعد الولادة، ثم تزول وحدها.
2. «ذهان ما بعد الولادة» (Postpartum Psychosis): مرض نادر، لكنه أليم. يمكن أن يصيب الأم خلال الأشهر الأولى بعد الولادة، وتتضمن أعراضه هلاوس سمعية وبصرية وأوهامًا غير معقولة، إضافة إلى الأرق والغضب وإصدار تصرفات غريبة.
3. «اكتئاب ما بعد الولادة» (Postpartum Depression): يمكن أن تصاب به الأم بعد أيٍّ من ولاداتها في حالة تعدد الولادات، ويلازمها فيه حزن وشعور باليأس والتوتر. تتغير شهيتها للطعام وتعاني من اضطرابات النوم بصورة تجعلها عاجزة عن ممارسة الأنشطة اليومية. ورغم أن اسمه اكتئاب «ما بعد» الولادة، فإنه ربما يبدأ خلال فترة الحمل. وهذه بعض علاماته:
- يطارد الأم شعور بالذنب، فكثيرًا ما تفكر في ما «ينبغي» عليها فعله، وتعتقد أنها لا تستحق أن تكون أُمًّا، وأن قرار الأمومة كان خطأ كبيرًا، وغالبًا تخفي ذلك الشعور خوفًا من تأثر نظرة الآخرين إليها
- لا تستطيع الأم أن تشعر بالاطمئنان، فكلمات التشجيع والطمأنينة يغلبها الحزن والتوتر والشعور بثقل العبء
- تفكر في الهرب دون عودة، أو قد تفكر في الانتحار، أو تتمنى الموت، وتأتيها هذه الأفكار بشكل متكرر
- تتشكك في حبها لطفلها، فلا تشعر بعاطفة تجاهه، وربما لا ترغب في النظر إليه أو رعايته، أو قد تخشى أن تُترَك وحدها معه
- تشعر بعبء الأمومة والعجز عن أن تكون أُمًّا جيدة، وأن الطفل انتقل إليه هذا الشعور، ولذلك لا يحبها
- تشعر بالانفصال عن الآخرين والعجز عن الاندماج معهم
- تفقد الرغبة في الاهتمام بنفسها
الاكتئاب أفقد سلمى القدرة على الاستمتاع بمتع الحياة البسيطة التي كانت تقدرها جدًّا.
لا تشعر الأمهات المصابات باكتئاب ما بعد الولادة بكل هذه الأعراض مجتمعة بالضرورة، فيكفي أن تصاب بمجموعة منها ليشخِّص الطبيب المختص إصابتها به.
تقول سلمى: «فقدت كثيرًا من الوزن. فقدت 15 كيلوغرامات خلال شهرين فقط من الولادة، وهذا معدل سريع جدًّا». كانت سلمى قد سمعت في أحد البرامج التلفزيونية أن النساء عادة ما يخسرن الوزن الذي اكتسبنه خلال أشهر الحمل التسعة في تسعة أخرى بعد الولادة.
بعد مرور الأسابيع الثلاثة، غادرت سلمى منزل والديها إلى بيت الزوجية وعقلها ممتلئ بالشكوك حول قدرتها على تحمل المسؤولية وحدها بعد أن يغادر زوجها المنزل إلى عمله كل صباح: «لم أكن أتخيل أنني سأتحمل كل هذا الصراخ وحدي. كان جهازي العصبي على أعتاب انهيار كامل».
بدأ الاكتئاب يأكل نشوتها الأولى تدريجيًّا، وحل مكانه حزن لا يرحل. الاكتئاب أفقدها القدرة على الاستمتاع بمتع الحياة البسيطة، فلم يعد في إمكانها مثلًا أن تحصل على حمام ساخن دون أن يقطع عليها آدم هذه المتعة منفجرًا في البكاء.
«فقدتُ الرغبة في المتع الأكبر، مثل الذهاب للتسوق، أو تناول الغداء خارج المنزل، أو زيارة الأقارب. كنت دائمًا في انتظار اللحظة التي سيبدأ فيها آدم إحدى وصلات بكائه. أصبح اختيار ملابس الخروج ووضع الماكياج يمثل عبئًا نفسيًّا ثقيلًا عليَّ».
سألتُ سلمى إن كانت قد راودتها أفكار عن الانتحار، فقالت: «لم أفكر في الانتحار. لكن كلما استيقظت في الصباح، أشعر بشيء يشبه ومضات ساخنة تضرب جسدي، وتسارُع دقات قلبي، وتتملكني حالة رعب لثوانٍ، وأتمنى لو لم أستيقظ أبدًا لأواجه نفس السيناريو اليومي. تظل عيناي معلقتين بالساعة، وكل ما أريده أن ينتهي اليوم».
اكتئاب ما بعد الولادة لا يعني أن الأم كسولة أو ضعيفة أو أنانية. ما قالته سلمى لـ«منشور» هو لسان حال كثير من الأمهات اللاتي يقعن فريسة الاكتئاب. ففي مجموعات الأمهات على فيسبوك، التي تلعب دورًا مهمًّا في تقديم الدعم النفسي والاستشارات الطبية السريعة، تردد الأمهات كلامًا مشابهًا. تقول إحداهن إنها كرهت الأمومة، وندمت على «الخِلفة». كانت تعاني طيلة الوقت من صداع دائم.
لماذا تكون بعض الأمهات أكثر عرضة لاكتئاب ما بعد الولادة؟ دعونا نستعرض الأسباب.
بعد الولادة: جسم مختلف
تُظهر دراسات أن عوامل بيولوجية مثل تذبذب مستوى الهرمونات، وانخفاض مستوى هرمون «السيروتونين» (ناقل عصبي يساعد على الشعور بالسعادة)، وغيرها من التغييرات، ربما تكون مسؤولة عن حدوث اكتئاب ما بعد الولادة. لكن بعض الخبراء يشككون في مسؤولية هذه التغييرات عن حدوثه.
يقول خبراء آخرون إن هناك أدلة على وجود علاقة بين اكتئاب ما بعد الولادة ونقص التغذية، وتنوه الأبحاث بأن تناقص مخزون المواد الغذائية خلال فترة الحمل قد يرفع احتمالات الإصابة بالاكتئاب.
لا يمكن إغفال أن الولادة نفسها عبارة عن تحوُّل كبير في حياة المرأة، إضافة إلى أن المرور بولادة متعسرة أو الإصابة بحمى ما بعد الولادة ربما يكون سببًا أكبر لتدهور حالة الأم النفسية.
بضاعة لا تُرَد: طفل يعيد رسم حياتك
هناك علاقة واضحة بين إصابة الطفل بالمغص واكتئاب ما بعد الولادة.
المولود ليس بضاعة يمكنك أن تعيدها إلى محل البقالة أو تستبدلها لو لم تناسبك. ولادة طفل تغيير كبير في الحياة، واقع جديد يعيد تشكيل أدق تفاصيل حياة الأبوين، ويعيد ترتيب أولوياتهما. تعرُّض الأم لضغوط حياتية قد يرفع احتمالات الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة لما تسببه من ضغط مزمن، وهذه بعض أمثلتها:
- رعاية الطفل: الرضاعة ومشكلاتها، قلة النوم، طبيعة مزاج الطفل ومدى معاناته من المغص، ولادة توائم، ولادة طفل يعاني من مشكلة صحية
- الرفاهة العامة: حدوث حمل غير مخطط له، طبيعة العلاقة بالزوج، الوضع المادي، قلق الأم بشأن صحتها ومظهرها، الدعم اجتماعي
- مشكلات العمل: صعوبة الحصول على إجازة مناسبة، الموازنة بين متطلبات العمل والطفل
هناك علاقة واضحة بين إصابة الطفل بالمغص (تظهر أعراضه في صورة بكاء طفل سليم بشكل متواصل) واكتئاب ما بعد الولادة. ففي دراسة شملت 93 أُمًّا، ذكرت 45% منهن أنهن يعانين أعراض اكتئاب من متوسطة إلى حادة. الطفل الممغوص عادة ما تصفه أمه بأنه «لا يتوقف عن البكاء»، فقد يستمر في الصراخ لساعات متواصلة أو لأيام، ولا تعرف كيف تريحه. يعاني الرضع من المغص خلال شهورهم الثلاثة الأولى بشكل خاص.
السؤال حول علاج المغص من أكثر الأسئلة شيوعًا في مجموعات الأمهات على فيسبوك، وكثيرات يرونه «كابوسًا» علاجه الأساسي هو تحمُّله. عانت سلمى من هذه المشكلة مع ابنها آدم، كان يبكي لساعات متواصة حتى يحمر وجهه، بل إنها وصلت إلى مرحلة كانت تشعر فيها بأنه يبكي فقط ليضايقها، فهو «شبعان، ويرتدي حفاضة نظيفة، ويراني أمامه، فماذا عساه يريد؟».
«ذات ليلة، كنت أوشك أن أضعه في كرسيه في السيارة وأدور به في الشوارع حتى يغلبه النوم، فيتوقف عن البكاء. كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل».
شعرت سلمى بعد استقالتها من عملها بأنها دخلت في «نفق مظلم»، وأن كل ما أنجزته في عملها صار هباءً منثورًا.
تذكر سلمى أنها عانت أيضًا مع الرضاعة الطبيعية، واضطرت إلى استخدام الألبان الصناعية. لا تنسى سلمى عندما قال لها الطبيب المتابع لحالة ابنها إن «كل الألبان الصناعية في السوق زبالة»، ظنًّا منه أنه بذلك يحثها على محاولة الاكتفاء بالرضاعة الطبيعية، لكنه «زاد الضغط النفسي، ما أثَّر سلبًا على الرضاعة، وأدخلني في دوامة كبيرة من الحزن والإحساس بالذنب».
وفقًا لسلمى، كثير من منشورات الأطباء على فيسبوك والإعلانات التوعوية تمجد الرضاعة الطبيعية بصورة استفزازية لا تراعي الظروف الفردية لكل أم.
إلى جانب ضغوط رعاية طفلها، كان على سلمى، وهي مهندسة معمارية، اتخاذ قرار مصيري يخص عملها. فبعد أن استنفدت القدر الأكبر من الإجازات المسموح به في شركتها، لم يكن أمامها سوى أن تكتب الاستقالة عندما أتم آدم تسعة أشهر تقريبًا: «لم أكن أرى أن هناك خيارات. كنت أحب عملي جدًّا، لكن تحمل مسؤولية الأمومة والعمل معًا كان يقتلني. كتبت الاستقالة وقلبي يرتجف، والقلم يكاد يسقط من يدي».
شعرت سلمى بأنها دخلت في «نفق مظلم»، وأن كل ما أنجزته في عملها صار هباءً منثورًا: «سأصبح ذلك النموذج النمطي لامرأة عقلها صَدِئ، انفصلت عن العالم ولا تتكلم سوى عن أسعار الحفاضات والإسهال وأدوية التسنين». دخل الاكتئاب منحنى جديدًا عند هذه المرحلة.
تحتاج الأم إلى عون الأب في رعاية الطفل. كان زوج سلمى يساعدها فعلًا إذا طلبت، لكنه كان عادة ما يُشعرها بأنه «يتفضل عليها» بوقته، حتى وإن حاول إخفاء ذلك. تحسنت الأمور قليلًا بعد أن عرف بتشخيص الطبيب: «لكن ماذا في إمكانه أن يفعل على أي حال، إذا كان يقضي غالبية ساعات اليوم في عمله ويأتي إلى البيت منهكًا؟ ليس متصوَّرًا أن أطلب منه كثيرًا من الأمور في الوقت القليل الذي يقضيه في المنزل قبل النوم».
تتوزع الدول العربية بين دول لا تعطي إجازة أبُوَّة على الإطلاق، مثل مصر والأردن والعراق، وأخرى تعطي إجازة لا تتعدى أيامًا معدودة، غالبًا لا تزيد عن أسبوع أو أقل، مثل السعودية وتونس والجزائر والمغرب.
يعيش نحو ثلثي أطفال العالم تحت سن عام واحد (قرابة 90 مليون طفل) في بلدان لا يحصل فيها الآباء على إجازة أبوة، وفق منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف».
هذه البيانات تشير إلى الفجوة العظيمة بين الأدوار التي من المتوقع أن يلعبها الرجل والمرأة. ومن أجل تحقيق المساواة الجندرية في أماكن العمل والمنزل، من الضروري أن «يحصل الرجال على فرص متساوية لأن يكونوا مع أطفالهم المولودين حديثًا». غياب دور مؤثر للأب قد يكون سببًا في تفاقم الاكتئاب عند الأم.
«الجنة تحت أقدام الأمهات»: إذًا، فليذهبن إلى الجحيم؟
حين تشكو الأم ثقل المسؤولية، تكون إجابة من حولها جاهزة: «الجنة تحت أقدام الأمهات».
تتعرض الأم لضغوط ثقافية أو مجتمعية، فهي تقع تحت تأثير صورة الأم المضحية التي تضع سعادة طفلها أولًا، وتعلق سعادتها على الشماعة لبعض الوقت أو كله.
حين تشكو الأم ثقل المسؤولية، كثيرًا ما تكون إجابة مَن حولها، وأحيانا الزوج نفسه، جاهزة: «الجنة تحت أقدام الأمهات» وهو حديث نبوي جميل المعنى، لكن يُساء استخدامه وفق ما حكته سلمى من أجل التملُّص من أي دور مساعد، فالكل يردده ولسان حاله: «إذا كانت الجنة تحت أقدام الأم، فماذا تريد؟ فلتتحمل وتصمد؟».
تقول لي سلمى إن طبيب الأطفال المتابع لحالة ابنها كان يردد الحديث في كل استشارة، كأنه يقول لها: «كُفِّي عن الشكوى، أو كوني على قدر المكافأة».
في مجتمعات تقدس الأسر كبيرة الحجم، وكثرة المواليد أو «العزوة»، خصوصًا من البنين، يزداد الضغط على الأم حين ينبغي التفكير في إنجاب مولود ثانٍ وثالث. هذا سبب آخر للاستسلام للاكتئاب. فالأم الغارقة في مسؤوليات رعاية الطفل الأول مطلوب منها أن تفكر في ثانٍ، وأن تكرر التجربة حتى قبل أن تشعر بأنها استردت جزءُا من صحتها. تسمع بعض الأمهات كلامًا من قبيل «اتعبي مرة واحدة». هذا ما حدث مع إحدى صديقات سلمى، وجاءتها تلك النصيحة من أمها مباشرة.
بعيدًا عن المشقة النفسية التي قد يسببها إنجاب طفلين لا يفصلهما وقت كافٍ يَسمح للأم باستعادة لياقتها النفسية، فإن في ذلك إجهادًا كبيرًا أيضًا لجسدها الذي له عليها حق. تقول سلمى ساخرة إن الفضول دفع مصففة الشعر الخاصة بها، وكذلك زوجة حارس المبنى الذي تقطنه، إلى سؤالها عما إذا كان ثمة طفل آخر «في الطريق»، بعد أن اقترب آدم من بلوغ عامه الثاني.
أضف إلى الضغوط الثقافية أن فكرة الذهاب إلى الطبيب النفسي ما زالت ثقيلة مجتمعيًّا، والأصعب منها اتِّباع العلاج الدوائي الذي يصفه الطبيب. تشكو إحدى الأمهات على مجموعة فيسبوك من أن زوجها حذرها من أن الطبيب النفسي سيعطيها مهدئات، وأنها ستدمنها، وأن حياتها الزوجية ستتعرض للتدمير. ما زال الذهاب إلى الطبيب النفسي فكرة مقلقة، وأمرًا نفضل كتمانه مهما يكن تعليمنا راقيًّا.
هناك أسباب أخرى للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، يُعتقَد أنها تشمل تاريخًا مَرضيًّا شخصيًّا أو عائليًّا يتضمن الإصابة بالاكتئاب: صِغر سن الأم (دون 25 عامًا) أو كبره (فوق 40 عامًا)، ومشكلات الخصوبة، والولادة المبكرة (قبل إتمام 37 أسبوعًا)، إضافة إلى أن الأمهات ذوات النزعة المثالية عُرضة بشكل أكبر للإصابة من غيرهن، وفق بعض الأدلة البحثية.
الأب والطفل: ضحايا آخرون لاكتئاب الأم
عدم معالجة اكتئاب ما بعد الولادة يتسبب في إضعاف الرابطة بين الأم والطفل وإحداث مشكلات أسرية. وعدم اللجوء إلى العلاج قد يطيل بقاء هذا الضيف الثقيل وربما تحول إلى اكتئاب مزمن. الأسوأ أن اكتئاب الأم قد يتسبب في اكتئاب الأب، الذي هو في الأصل مُعرَّض للاكتئاب باعتباره أبًا جديدًا، بغض النظر عن إصابة الأم بالاكتئاب.
ينتبه مزيد من الأطباء إلى اكتئاب ما بعد الولادة، ويُقيِّمون حالة المرأة طوال فترة الحمل للوقوف على ما إذا كانت مُعرَّضة للإصابة به.
تقول لي سلمى إن زوجها لم يُصَب بالاكتئاب. لكن من وجهة نظره، كانت «مبالغتها» في ردود أفعالها إزاء بكاء الطفل المتواصل، وفشلها في الاعتماد على الرضاعة الطبيعية، أسبابًا لاحتدام الخلاف بينهما بين فترة وأخرى، إلى أن «تفهَّم» الزوج أن زوجته مصابة بالاكتئاب، ولا حيلة لها في كثير من ردود أفعالها التي بدت له في السابق غير مفهومة. تتمنى سلمى ألا يكون آدم قد تأثر من اكتئابها: «الأيام وحدها ستكشف».
ضيف ثقيل: هل يمكن استباق الاكتئاب؟
أصبح مزيد من الأطباء في الدولة المتقدمة طبيًّا ينتبهون إلى اكتئاب ما بعد الولادة، حتى إنهم يُقيِّمون حالة المرأة طوال فترة الحمل للوقوف على ما إذا كانت معرضة للإصابة بالاكتئاب. يتابع الطبيب حالة الأم بعد الولادة، ويبحث عن علامات للإصابة بالاكتئاب عند زيارته لعيادته بعد ستة أسابيع من الولادة.
في الدول المتقدمة، تلجأ بعض النساء كذلك إلى «العلاج بالكلام» لمنع حدوث اكتئاب ما بعد الولادة. اللجوء إلى هذه الوسيلة مهم، لو كانت الأم معرضة للاكتئاب لأحد الأسباب التي ناقشناها، أو كان لديها تاريخ مرضي مع الاكتئاب.
يُعتقد أن ممارسة التمارين الرياضية قبل الحمل وخلاله وبعد الولادة ترتبط بانخفاض في معدلات الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة. لا توجد إرشادات واضحة حول معدلات الممارسة أو طبيعتها. لذا، على الأم أن تختار ما يناسبها.
الاكتئاب يسكن منزلنا: كيف يكون العلاج؟
مع الأم المصابة بالاكتئاب، قد لا تكون تعبيرات مثل «كوني قوية» أو «هناك أمهات أخريات يعانين أكثر منك» ذات وقع جيد.
لو شعرت الأم بأنها تعاني من أعراض اكتئاب ما بعد الولادة، فإن الطبيب النفسي يُقيِّم مدى حدتها، ويسأل عما إذا كانت قد راودتها أفكار عن الانتحار أو إيذاء الطفل. سيسأل كذلك أسئلة أخرى تتعلق بمزاج الأم للتأكد من التشخيص. في حالة الإصابة، قد يصف الطبيب مضادًّا للاكتئاب أو يقرر اللجوء إلى العلاج عبر تقديم المشورة النفسية، وربما يصف الطريقتين معًا. قد تزول أعراض الاكتئاب وحدها في بعض الأحيان، لكنها عادة ما تختفي بشكل أسرع مع الخضوع للعلاج.
ربما تحتاج المريضة إلى إدخال بعض التغييرات على أسلوب حياتها، لأن هذا يقلل من حدة بعض أعراض الاكتئاب. فإلى جانب ممارسة الرياضة، تُنصح الأم بالتالي:
- الحصول على قدر كافٍ من النوم
- تناول وجبات منتظمة ومغذية
- إحاطة نفسها بشبكة داعمة من الأقارب والأصدقاء
- الحصول على بعض الراحة عن طريق طلب مساعدة شخص موثوق لرعاية الطفل
للمحيطين بالأم دور مهم أيضًا. مع الأم المصابة بالاكتئاب، قد لا تكون كلمات مثل: «كوني قوية» أو «هناك أمهات أخريات يعانين أكثر منك بكثير» ذات وقع جيد. على من حولها أيضًا أن يدربوا أنفسهم على الاستماع للأم دون إصدار أحكام، وأن يحاولوا مساعدتها على اتباع نظام يقلل من الضغط والتوتر.
تحكي سلمى أن أباها وأمها منعوها في البداية عن استشارة طبيب نفسي، وقدموا لها قدرًا أكبر من المساعدة، مقتنعين بأنه لا حاجة لمثل هذه الاستشارة. حاولت الأم أن تقنعها بأنها أفضل حالًا من «فلانة» التي تقيم أمها في بلد آخر، ولا تجد من يساعدها، أو «علانة» التي رُزِقت بتوأم. لكن زوجها لم يعترض على استشارة طبيب، فأخذت سلمى الخطوة عندما بلغ آدم تسعة أشهر.
استشارت طبيبًا صديقًا للعائلة، فوصف لها مضادًا للاكتئاب، وأوصاها بأن تحرص على الوجود مع الأقارب والأصدقاء ما استطاعت. «كنت سعيدة عندما انتزعتُ أخيرًا اسم الدواء الذي سيخلصني مما أنا فيه».
ترددت سلمى لأيام ثم تناولته، تقول: «تناولت الدواء لنحو عام، ثم بدأت في تخفيف الجرعة تدريجيًّا حتى توقفت». تحسن مزاج سلمى وصارت أكثر هدوءًا، لكن جزءًا من هدوئها أيضًا يعود، كما تحكي لي، إلى أن تقدُّم الطفل في العمر جعله أكثر استقلالًا، وأقل تشبثًا بالأم، إضافة إلى أن قدرته على الضحك والتعبير عن سعادته أسهمت في تحسين مزاج البيت كله.
تحكي سلمى أن من أكثر ما ساعدها أيضًا على تخطِّي تلك الفترة وتجاوز الاكتئاب، إلى جانب الدواء ومساندة الأهل وتطور الطفل نفسه، هو انضمامها إلى مجموعات الأمهات على فيسبوك، والتي وفرت لها دعمًا في أوقات كثيرة: «كنت أجد إجابات عن أسئلة كثيرة باعتباري أُمًّا لأول مرة. كنت أبتسم حين أرى أُمًّا ترسل استغاثة في الثالثة فجرًا، تشكو من أن ابنها يصر على اللعب، ولا تبدو عليه أي رغبة في النوم. حسنٌ، لست وحدي إذًا».
طفل ثانٍ: فرصة لأكون أُمًّا أفضل
إذا عانت الأم من اكتئاب ما بعد الولادة، فهي تواجه احتمالات أعلى من غيرها للإصابة به في الحمل الثاني. تتراوح احتمالات الإصابة بين 30% إلى 70% وفق حدة الأعراض التي عانت منها الأم أول مرة.
لكن كثيرًا من الأمهات اللاتي عانين من اكتئاب ما بعد الولادة، لا يواجهنه مجددًا في المرات التالية، فكل حَمل له ظروفه. إضافة إلى أن كثيرًا من مسببات اكتئاب ما بعد الولادة خارج عن سيطرة الأم، كولادة طفل مبتسَر مثلًا، وقد لا تتكرر في الحمل الثاني.
تخلت سلمى عن حلمها بإنجاب ثلاثة أطفال بعد أن اكتشفت مصاعب الأمومة، لكنها متمسكة بحلم الطفل الثاني.
قرار الحمل بطفل ثانٍ لا يملكه سوى الزوجين، ولا ينبغي أن يقعا فيه تحت أي ضغوط. فهما يملكان القدرة على تحديد ما يناسبهما نفسيًّا وماديًّا أكثر من غيرهم، وعلى الأم التي تشعر بأنها معرضة للاكتئاب مجددًا، أن تتخذ خطوات استباقية لتفادي الإصابة بالاكتئاب ما أمكن، أو أن تعالجه في مراحله الأولى.
«كنت أسجل لابني كل الأحداث المهمة: متى ظهرت أولى أسنانه، متى زحف على يديه وقدميه، متى نطق أولى كلماته. لكن فرحتي بكل إنجاز له كانت ناقصة، لم تصل إلى مداها. أريد فرصة ثانية لأعطي الفرحة حقها».
تحكي سلمى أنها تخلت عن حلمها بإنجاب ثلاثة أطفال بعد أن اكتشفت مصاعب الأمومة، لكنها متمسكة بحلم الطفل الثاني: «الطفل الثاني فرصتي لأكون الأم التي أردتها، وأفضل هدية أقدمها لابني الأول»، قبل أن تضيف أنها خطوة مؤجلة لبعض الوقت حتى تسترد نفسها تمامًا، وتعوِّض آدم حبًّا كان يستحقه من أول يوم. الجلوس مع أبيه وإقناعه بالقرار ربما لا يكون سهلًا، فهو الآخر عانى من عذاباتها، وربما يكون له رأي مختلف: «أتمنى ألا يكون الاكتئاب صاحب الكلمة الأخيرة في حياتنا».