عندما نقابل شخصًا للمرة الأولى نسأله عادةً عن بلده، ثم نسارع بامتداح أهل هذا البلد أيًّا كان بقولنا «أحسن ناس» أو «والنِّعِم» أو غيرها. في داخلنا، غالبًا ما نُكوِّن انطباعًا عن هذا الشخص بناءً على فكرة قديمة لدينا عن بلده، فبعض البلدان اكتسبت سمعة سيئة بأن أهلها بخلاء مثلًا، وأخرى اشتهر أهلها بسرعة الغضب أو الغباء، وغير ذلك من السمات.
نقع في حيرة عندما نقابل أكثر من شخص من نفس البلد ونجد اختلافًا في شخصياتهم، ممَّا قد يشير إلى خطأ اعتقادنا عن طابع هذا البلد وسمات أهله، إلا أن العلماء لم يتوقفوا عند الحيرة والتخمينات، بل أجروا دراسات أخبرتنا بالكثير في هذا الصدد، وهذه الدراسات عرضها تقرير على موقع «بي بي سي».
أقل الشعوب انفتاحًا
اكتشفت دراسات العلماء فوارق في الطبيعة الشخصية بين سكان كل بلد وآخر، إلا أنها فوارق مختلفة عن الصور النمطية التي تنتشر بين معظم الناس، فعادةً تكون القوالب التي نضع فيها سكان هذا البلد أو تلك المدينة كاذبة، بحسب التقرير.
البرازيليون هم الأبرز اجتماعيًّا، بعدهم السويسريون الناطقون بالفرنسية ثم شعب مالطا.
من بين أشمل الدراسات التي أجريت في هذا المجال، واحدة أجراها أخصائي علم نفس الشخصية «روبرت ماكراي»، اختبر فيها شخصية 12 ألف طالب جامعي من 51 دولة مختلفة.
استطاع ماكراي، بمعاونة 79 من الباحثين من دول مختلفة، أن يحدد السمات الشخصية المتوسطة لهذا العدد الضخم من الطلاب، عن طريق منح درجات لكل صفة، ثم تقييم كل طالب وفق مجموعة من المؤشرات التي تقيس السمات الخمسة المكونة للشخصية.
هذه السمات هي الاجتهاد (المثابرة والتنظيم)، والانفتاح (الاستعداد لخوض تجارب جديدة)، والاجتماعية (النزوع إلى التفاعل مع الآخرين) والقبول (الميل إلى التعاون والتسامح والتعاطف)، والعُصابية (تقلب المزاج وعدم الاستقرار العاطفي).
تبين من خلال تلك المؤشرات أن البرازيليين يحتلون صدارة دول العالم من حيث الاجتماعية، بعدهم السويسريون الناطقون بالفرنسية، ثم شعب جزيرة مالطا، وتذيَّل القائمة مواطنو نيجيريا والمغرب وإندونيسيا.
جاء السويسريون الناطقون بالألمانية في مقدمة الشعوب المنفتحة على تجارب جديدة، تلاهم الدنماركيون ثم الألمان، فيما جاء مواطنو هونغ كونغ وأيرلندا الشمالية والكويت في ذيل القائمة.
لا تعني تلك الدرجات بالطبع أن شعوب هذه الدول يتمتعون بنفس الدرجة من الصفات، فلا بد أن أشخاصًا في إندونيسيا أكثر انفتاحًا من أولئك في البرازيل مثلًا، وهو ما أكدته الفروق بين السمات الشخصية لطلاب جامعات مختلفة من بلد واحد.
أكثر الشعوب اجتهادًا
دراسة نفسية أخرى أجراها المتخصص في علم نفس الشخصية في جامعة برادلي، «ديفيد شميت»، شملت 17 ألف شخص من 56 دولة، وركزت على الفروق بين متوسط الدرجات التي حصلت عليها الشعوب المختلفة، وكشفت الفروق بين البلدان في سمة العُصابية، وما تشمله هذه السمة من قلق وخوف وغضب وحسد وغيرة، حسب ما يورد التقرير.
توصلت الدراسة إلى أن هذه الصفة توجد لدى مواطني اليابان والأرجنتين أكثر، بينما سجلت الكونغو الديمقراطية وسلوفينيا أقل درجات للسمة ذاتها.
ورصدت الدراسة كذلك الفروق في سمة القبول، التي تشمل الطيبة والتعاون والتعاطف مع الآخرين واحترام مشاعرهم، وكانت الكونغو الديمقراطية صاحبة أعلى نسبة، تلتها الأردن، بينما حصلت اليابان وليتوانيا على أقل نصيب.
وسَّعت الدراسة من نطاقها لتقارن بين السمات الشخصية لشعوب القارة الواحدة، فوجدت أن الشعوب الإفريقية تسجل عمومًا درجات أعلى في الاجتهاد، وهي السمة التي تشمل الحرص على إنجاز المهام على أفضل نحو، فيما سجلت شعوب شرق آسيا أقل درجات الصفة ذاتها.
ماذا تعرف عن الشعوب الأخرى؟
تشير الدراسات إلى أن أفكارنا النمطية الشائعة عن الثقافات المختلفة ليست دقيقة أبدًا، وتُعدُّ بريطانيا أحد أبرز الأمثلة على ذلك، إذ يعتقد كثيرون أن الإنجليز متحفظين أكثر من الأمريكيين مثلًا، لكن هذا غير دقيق، فقد وجدت الدراسة الأولى أن الشعب الأمريكي متحفظ أكثر، فيما لم تجد الدراسة الأخرى فرقًا كبيرًا بين مواطني البلدين.
للتحقق من ذلك، أجرى باحث إيطالي يُدعى «أنطونيو تيراتشيانو» دراسة عام 2005 على أربعة آلاف طالب جامعي من 49 دولة في سِتِّ قارات. طلب تيراتشيانو من الخاضعين للتجربة تقدير سمات شخص ينتمي إلى نفس ثقافتهم، واتضح أن تقديرات الشخص وأفكاره عن أبناء ثقافته تأتي بعيدة عن الواقع، وهي نفس النتيجة التي انتهت إليها دراسة أحدث أُجريت عام 2013، بحسب التقرير.
لماذا تختلف شخصيات الشعوب؟
أرجع بعض الباحثين وجود اختلافات في الشخصية على مستوى الدول إلى عوامل وراثية ومرتبطة جزئيًّا بالهجرة، فافترضوا مثلًا أن الأشخاص الذين يتمتعون بنسبة عالية من صفة الانفتاح والاستعداد لخوض المخاطر سيكونون أكثر استعدادًا للسفر، وبالتالي ستوجد هذه الصفة بنسبة أكبر لدى المناطق التي كانت مقصدًا قديمة للهجرة، عكس المناطق المنعزلة التي ينغلق سكانها على أنفسهم.
هناك رابط بين قلة سطوع الشمس في بعض المناطق، ومعاناة سكانها عدم الاستقرار العاطفي.
يشير التقرير إلى مجموعة دراسات أُجريت على سكان عدد من الجزر الإيطالية المنعزلة لبحث أسباب تباين السمات الشخصية بين الشعوب، ووجدت أن هذه الفئة من السكان كانوا بالفعل أقل انفتاحًا من غيرهم.
وجد الباحثون في الوقت ذاته أن سكان الجزر يتمتعون بنسبة أعلى من صفة الاجتهاد ودرجات أقل من العُصابية، مقارنةً بغيرهم من سكان المناطق القارية، وأرجعوا ذلك إلى أن أصحاب الشخصيات الأكثر انفتاحًا واجتماعيةً هجروا الجزر إلى القارات القريبة على مرِّ السنين.
تلعب العوامل البيئية دورا مهمًّا كذلك في ظهور الفروق بين الشخصيات، فتوجد سِمة الانفتاح مثلًا بنسبة أقل لدى الشعوب التي تسكن مناطق معرضة لخطر تفشي الأوبئة، كما يرجح الخبراء وجود رابط بين قلة سطوع الشمس في بعض المناطق، ومعاناة سكانها عدم الاستقرار العاطفي.
غير ذلك، يمكن للكثافة السكانية أن تكون أحد عوامل التأثير في الشخصية، فقد أشارت أدلة علمية حديثة أوردها التقرير إلى أن سكان المناطق المزدحمة يميلون إلى التفكير الطموح والمستقبلي والاستثمار في مشروعات طويلة الأجل، وربما يكون ذلك بسبب حدة المنافسة على الموارد في مثل هذه المناطق.
لماذا نهتم بسمات الشعوب؟
تميل الشعوب التي تمتاز بانفتاح أكبر إلى الاقتران بأنظمة حكم ديمقراطية.
تفيد دراسة السمات الشخصية للشعوب في الاستدلال على مؤشرات أخرى، مثل مدى غِنَى مواطني دولة معينة، أو سعادتهم أو فسادهم أو إبداعهم، أو حتى ما يتمتعون به من صحة، إذ نجد مثلًا أن صفة العُصابية ترتبط لدى بعض الشعوب بارتفاع معدل الإصابة بأمراض نفسية مثل الاكتئاب، بل وأمراض عضوية مثل أمراض القلب، حسب ما جاء في التقرير.
الأخطر من ذلك أن الفروق بين السمات الشخصية يمكن لها أن تحدد طبيعة الأنظمة السياسية المقترنة بها، وهو ما أثبته الباحث «خوان بارسيلو» من جامعة واشنطن، إذ وجد أن الشعوب التي تمتاز بانفتاح أكبر تميل إلى الاقتران بأنظمة حكم ديمقراطية، وفسر ذلك بأن أصحاب العقول المنفتحة يميلون أكثر إلى التعبير عن آرائهم بحرية، كما يقل اهتمامهم باتِّباع الأنظمة والتقاليد القديمة.
إزاء هذه الإحصائيات والأرقام، ربما يكون الأفضل أن نتوقف عن التصنيف السطحي وإطلاق الأحكام، وبدلًا من ذلك، نستفيد بالمقارنات في معرفة المزيد عن أنفسنا وعن المجتمعات التي نحيا فيها، فربما يكون هذ أول طريق إصلاحها.